لا يزال بوسع الزائر العربي الكثير مما يرويه وهو يتجول في شوارع وأزقة مدن الأندلس، ربما كان سائق التاكسي يدرك حجم ذلك الإحساس وهو ينقلني إلى غرناطة، قادما من الجزيرة الخضراء.
محاولاتي استجلاء بعض المعلومات عن المدن والقرى رسخت لديه الفكرة بأن هذه هي ساعة الانتقام من عربي مهووس بتاريخ كان تاريخهم.
طلب الرجل ـ القادم من الشمال الإسباني ـ مبلغا كبيرا، مستندا إلى وثيقة عليها طابع وشعار حكومة الأندلس. ما الذي يستطيع المرؤ فعله من مقاومة ومرارة للهزيمة التي تجرعها أبو عبد الله الصغير، وهي تعشش في لاشعور أي عربي، أحرى إذا كان قادما من الضفة الأخرى للمتوسط.
جررت حقيبتي، بعجلاتها الصغيرة التي عرتها أرصفة المدن إلى الفندق الجميل الذي حجزه صديقي “إميليو”، تسلمت البطاقة الممغنطة. بعد نظرة فاحصة لجوازي الجديد بدت موظفة الاستقبال مبهورة وهي تقلب صفحاته فقد دخلنا نحن (الموريتانيون) أخيرا إلى العولمة البيومترية، دون أن ننسى أننا أصبحنا مراقبين بشكل أكبر، إذ لا حاجة اليوم لمزيد من الأسئلة في المطارات ففي البطاقة المخبأة توجد كل الأجوبة.
تمددت على السرير بشراشفه البيضاء الناصعة، هو القماش نفسه الذي نفصل منه ملابسنا، يستعملونه هنالك غطاءً للموائد والأسرة.
مازال بوسعي التمتع بشمس غرناطة، وهي تلقي أشعتها الدافئة على الأرصفة المكتنزة بالطاولات.
في مدينته اختار “إميليو” أن يعيش حيث تشرق الشمس، لا يمكن للمرء أن يبادل غرناطة بأية مدينة أخرى. يقول لي صديقي الغرناطي “لدي مكاتب في مدريد، ولكنني تركتها وفاءً لهذا الوطن المشرق والدافئ”.
يقدم الرجل حلولا لوسائط الاتصال الحديثة، ويقضي معظم الوقت متنقلا وهو يبيع الحلول التقنية الرخيصة لوسائل الإعلام الإسبانية التي هدتها الأزمة المالية.
لم نحتج لوقت طويل لإنهاء ما يتعلق بالعمل، فقد اختصر البريد الإلكتروني المتبادل جزءاً كبيرا من زمن الجلسة، ولم يبق سوى مشاهدة المطلوب واتخاذ القرار.
في قلب غرناطة كانت مظاهر الأزمة لافتة، الشقق المهجورة والمعلنة للبيع تميزها اللافتات العريضة المغرية، لكن ما من مجيب، فقد ضربت الأزمة أطنابها هنا محيلة أعداد العاطلين إلى الملايين.
دعاني “إميليو” للغداء في مطعم مغربي في محيط قصر الحمراء، مازال العرب يقتربون من القصر دون أن يلامسوه، يبيعون الذكرى والشجن للسياح على شكل أطعمة وتذكارات، في المحل القريب من المطعم الصغير تستطيع أن تشتري لوحات نحاسية كتب عليها “لا غالب إلا الله” وحتى الشهادتين.
حاولت أن أقرأ لايميليو مقطعا من قصيدة نزار قباني عن الحمراء وأقربها له مستعيناً بكل ما أعرف من انجليزية لا يحسنها كلانا، ولكنني قدرت في النهاية أنني حصلت على المطلوب.
صعدنا مرتفعات غرناطة حيث ينتظر السياح غروب الشمس عن الحمراء، ذهب إميليو يراقب شمساً أفلت منذ عدة قرون عن ما كان فخرا للعرب، والتحقت بصف من المسلمين خلف إمام مغربي ومؤذن إسباني، وصلينا المغرب في المدينة التي عاد إليها الأذان بصوت شجي لأحد أحفاد إيزابيل القشتالية، ويؤم فيها الصلاة خمس مرات في اليوم شخص متحدر من الذين ذرفوا الدموع مقتنعين أن لا عودة بعد مرارة ومعاناة الرحيل.