في مثل هذا اليوم من العام الماضي تحركت بضع سيارات تويوتا تحمل على متنها جنودا يقودهم النقيب آمادو هايا صونوغو قائد معسكر كاتي الواقع في ضاحية العاصمة المالية باماكو، فور دخولهم المدينة قاموا بمحاصرة القصر الرئاسي والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسميتين، بكل بساطة تم القيام بأحد الإنقلابات الأكثر حماقة في التاريخ ضد رئيس منتخب ديمقراطيا يستعد لحزم حقائبه خلال شهر هو كل ما تبقى من مأموريته الرئاسية الأخيرة.
توقف التلفزيون الرسمي عن البث واكتفى بعبارة مكتوبة على الشاشة تفيد بانتظار بيان من العسكريين قريبا، كانت اللغة الفرنسية الركيكة التي استخدمت كفيلة بإعطاء فكرة عن المستوى الثقافي للإنقلابيين، بعد ساعات من الترقب خرجت الطغمة العسكرية الجديدة للعلن وأذاع ملازم أول البيان رقم واحد بوصفه الناطق باسم المجلس والضابط الثاني في الهرم القيادي …
أين الجنرالات الذين يتكاثرون كالفطر في الجيش المالي ؟ ماذا حدث للقوات الخاصة التابعة للرئيس ؟ أين الضباط السامون ؟ كيف يقوم نقيب وملازم أول مع مجموعة من الجنود بالزحف عشرين كلمترا في وضح النهار ويقلبون الحكم دون مواجهة أدنى مقاومة ؟
الحقيقة أن برقيات السفارة الأمريكية التي نشرتها ويكيلكس قبل سنوات كشفت عن قلق الولايات المتحدة من استفحال الفساد في القطاعات العسكرية وإتساع الهوة الكبيرة بين الضباط السامين وصغار الرتب من ضباط وجنود، النتيجة الحتمية لذلك كانت ضعف القدرة القتالية للجيش وانهيار الروح المعنوية لدى الجنود وهو ما أدى لاحقا إلى تداعي صفوفهم عند أول ضربة تلقوها من مقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد، سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى وفر الجنود من جبهات القتال مخلفين ورائهم الكثير من السلاح والعتاد.
طيلة فترة حكمه دأب الرئيس توماني تورى على استرضاء قادة الجيش بترقية العديد منهم إلى رتبة جنرال حتى باتت القوات المسلحة المالية تحوز على أحد أعلى معدلات الجنرالات على حساب الجنود وهو ما يتهكم عليه الماليون أن لديهم خمسين ألف جنرال لكل جندي، كما غض الطرف عن تلاعب الجنرالا ت الجدد الساعين إلى تعويض ما فاتهم من الغنيمة متخذين من رفاقهم الجنرالات القدماء مثالا يحتذى به في هذا الميدان وبذلك استطاعوا احداث نقلة نوعية في مستواهم الإقتصادي وباتوا من أثرياء البلاد الكبار، كل ذلك على حساب الجنود والضباط الحقيقيين الذين تلقى على كاهلهم مهمة حماية البلاد ومواجهة العدو في ميادين القتال.
استعان صونوغو بمالي الأعماق وبالمجتمع المدني وشكل تحالفا داعما له، كما قدم نفسه على أنه هبة من الله لفقراء مالي جاء ليخرجهم من بؤسهم وأعلن أنه سيقوم بتجديد الطبقة السياسية وحتى رجال الأعمال والفقراء سيتم تجديدهم، في الأيام الأولى أطلق العنان لجنوده يصولون ويجولون في المدينة، نهبوا في يوم واحد أغلب السيارات رباعية الدفع التي تتجول في باماكو وكانت غالبيتها دبلوماسية، لم تسلم المصارف ولا الشركات من تعليمات رئيس الفقراء.
وقفت الطبقة السياسية في مالي موقفا مشرفا سيذكره لهم التاريخ فرفضوا التعامل مع رئيس الفقراء الشيئ الذي شكل له صدمة كبرى وهو ما جعل الإتحاد الإفريقي يكون صارما في دعوته إلى ضرورة إعادة البلاد للشرعية الدستورية، بعد شهر من المفاوضات تنحى صونوغو عن السلطة وسلمها لرئيس مجلس الشيوخ وتم تشكيل الحكومة الجديدة مع احتفاظ صونوغو برئاسة لجنة اصلاح المؤسسة العسكرية.
في منتصف مايو أرسل صونوغو لفيفا من المواطنين إلى القصر الرئاسي لتأديب الرئيس الذي لا يريد الإنصياغ لأوامره، سمح لهم الحرس الرئاسي بالدخول بل وأظهر تسجيل الفيديو الذي نشرته مجلة جون أفريك لاحقا أن ضباط الحرس يشجعون المواطنين ويدلونهم على مخبأ الرئيس الذي لجأ إليه، تم ضربه بدون شفقة ضربا مبرحا حتى أغمي عليه ونقل الى فرنسا لعلاج استمر أشهرا عديدة.
في ديسمبر الماضي انتقد رئيس الحكومة صونوغو علنا قبيل سفره الى خارج البلاد فأرسل له صونوغو وحدة من قواته جلبته له من المطار مع حقائبه في الساعات الأولى من الصباح وتم “تأديبه” قليلا قبل أن يخيره صونوغو بين أسرته أو رئاسة الحكومة فقدم الرجل استقالته على أثير الإذاعة والتلفزيون.
قبيل التدخل العسكري الفرنسي أرسل صونوغو متظاهرين الى القصر الرئاسي للمطالبة بتنحي الرئيس وحين بلغه الأمر قرر فرانسوا أولاند إرسال قواته إلى مالي وحماية الرئيس من ابتزاز النقيب صونوغو.
في حديث له استغرب النقيب صونوغو بشدة تعامل الاتحاد الافريقي والقوى الكبرى معه، لقد استنكر ما وصفه إزدواجية المعايير حيث تم السماح لرفاقه الإنقلابيين في النيجر وغينيا بالحكم خلال المرحلة الانتقالية، أما رفيقه في السلاح الجنرال عزيز تم تبييض انقلابه في موريتانيا وسمح له بإدارة المرحلة الانتقالية والترشح للإنتخابات والنجاح فيها لاحقا، بينما يستنكرون عليه هو مجرد التدخل في شؤون السلطة الحاكمة.
في حديث له استغرب النقيب صونوغو بشدة تعامل الاتحاد الافريقي والقوى الكبرى معه، لقد استنكر ما وصفه إزدواجية المعايير حيث تم السماح لرفاقه الإنقلابيين في النيجر وغينيا بالحكم خلال المرحلة الانتقالية، أما رفيقه في السلاح الجنرال عزيز تم تبييض انقلابه في موريتانيا وسمح له بإدارة المرحلة الانتقالية والترشح للإنتخابات والنجاح فيها لاحقا، بينما يستنكرون عليه هو مجرد التدخل في شؤون السلطة الحاكمة.
يدفع الشعب المالي ثمن تهور قادة السياسيين وجشع جنرالاته باهظا فالدولة قد إنهارت وتشهد حربا في شمالها تنذر بالكثير من الخطر وحتى القوات الأجنبية قد لا تستطيع البقاء في الصحراء الكبرى حين يحل فصل الصيف كما أن التنظيمات الإرهابية لم تبدأ بعد مرحلة حرب العمليات الانتحارية والتفجيرات المفخخة في العاصمة، وحتى هذه اللحظة لم يتمكن الحلفاء من تأسيس جيش مالي جديد بعد انفراط عقد المؤسسة التقليدية وتحولها إلى كتائب تأتمر بأوامر بعض الجنرالات الذين يستغلونها لمآربهم الخاصة، إنها حقيقة تاريخة فكلما ازداد عدد الجنرالات في جيش كان ذلك سبب خرابه.