في مثل هذا اليوم من العام الميلادي الماضي أعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد استقلال جمهورية أزواد، ثم تلا ذلك إعلان دولة أزواد الإسلامية، ثم تروجع عنها، ثم أعلن المجلس الانتقالي لدولة أزواد، وكان هذا الإعلان ثمرة لنضال متعدد الأبعاد، متنوع الوسائل، ممتد من قرون، يخوضه الشعب الأزوادي بكل أطيافه وشعوبه؛ ليتخلص من الاحتلال المالي لإقليم أزواد الذي قضى على الأرض والإنسان والهوية، وشرد وقتّل وأباد.
وهذه وقفات أرى أن من الواجب التذكير بها بمناسبة هذه الذكرى.
بين يدي الوقفات: يبتهج كثير من أبناء شعبنا الأزوادي بهذه المناسبة، وحق لهم الابتهاج والفرح والسرور بضوابطها الشرعية، فلا شك أن هذا الإعلان إعلان تاريخي، وخطوة شجاعة.. لكن ليعلم الجمع أنه إعلان وقراءة لورقة مكتوبة، يحتاج إلى أن تدعمها أفعال ومواقف بمستوى عظمته وتاريخيته وشجاعيته.. وإلا فقد يكون شماتة لا قدر الله.
وقفات شرعية:
الأولى: يسمي بعض الكتاب هذا اليوم (عيدا وطنيا)، وفي هذا مخالفة شرعية واضحة، فالواجب على المسلمين أن ينتبهوا لمثل هذه العبارات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصر أعياد المسلمين في عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما هذان اليومان؟) فقالوا: “كنا نعلب فيهما في الجاهلية”، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داوود، وقال شَيْخ الإِسْلامِ : إسناده على شرط مسلم .
وقد حرر أعظم رجل من بني آدم، وهو رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حرر أحب مدينة إلى الله تعالى، وهي مكة المكرمة، وسمى الله تعالى ذلك فتحا، كما في سورة النصر، وسماه المسلمين على مر التاريخ فتح مكة، ولم يسمه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أحد من أصحابه رضوان الله عليهم، ولا أحد من أئمة المسلمين وقادتهم بعد ذلك ـ لم يسموا ذلك اليوم عيدا.
فهل هناك يوم أعظم من ذلك اليوم!!!
الثانية: يحيي كثير من الشباب هذه المناسبة بالأغاني والأهازيج، وهذا منكر، لا يجوز للمسلم في يوم حزن ولا يوم فرح، والواجب على المسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة أن يشكره ويتواضع له، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة يوم الفاتح مطأطئا رأسه متواضعا لله تعالى، شاكرا لله تعالى، والله سبحانه أمره في سورة النصر بالتسبيح والحمد والاستغفار، (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).
أما مقابلة النعم بالمجاهرة بمعصية الله تعالى ونشر ذلك في العالم فمؤذن بذهاب النعم الثابتة الراسخة، فكيف بنعمة لم تتم .. وفرحة لم تكتمل!!!
الثالثة: إذا لم يسم هذا اليوم عيدا، ولم تخلد ذكراه بمعصية، فلا بأس ـ شرعاـ في إبداء الفرح به بشتى الوسائل والطرق التي لا تتضمن تعييده ولا مخالفات شرعية، وخصوصا إذا كان ذلك مما يساهم في توطيد الأخوة، ويردم الهوة، ويرأب الصدع، ويجمع الكلمة، ويساهم في رفع معاناة شعبنا.
وقفة إنسانية:
من المخجل أن يرقص شبابنا بأفخر الملابس، ويبارون في نشر مقاطع الموسيقى، وأخواتنا يعانين الأمرين: المرض والجوع، والمذلين: اللجوء والفقر، والفاجعين: الخوف والثكل، وشعبنا يعاني من مجازر بشعة تقوم مليشيات الجيش المالي العنصري السفاح، ويعاني من اقتتال داخلي بثنائية العرب والطوارق تارة، وبثنائية الإسلامين والعلمانيين تارة، إن شعبا هذا حاله لمخجل أن يرقص تخليدا لذكرى تلاوة ورقة.
وقفات سياسية:
الأولى: نشكر للحركة الوطنية لتحرير أزواد انطلاقها من مبدأ تحرير أزواد واستقلاله عن مالي، الأمر الذي لا حل لصراعنا مع مالي إلا به، ونحن إذ نشكرها على ذلك فإننا نذكرها بأنها بتحملها لهذه المسئولية ـ فإن ذلك يوجب عليها تحمل تبعاتها غنما وغرما، كما يجب عليها الاستماع إلى الشعب الذي تتبنى تمثيله، وفي هذا الصدد لا بد أن تقف وقفة جادة إزاء هذه القضايا.
أولا: الشفافية والمصداقية وعدم بناء مستقبل الأمة على أوهام وإيهامات كالتي بني عليها إعلان الاستقلال، فإنه بني على وهم أو إيهام تحرير الأرض، وأي تحرير للأرض، والاستقلال أعلن في غاو، وتسيطر عليها حركة التوحيد والجهاد، وتن بكتو في قبضة القاعدة، وكيدال في قبضة أنصار الدين؟
ثانيا: عدم تعريض مشروع مصيري للأمة للضياع، وذلك برفع شعاره فقط دون تقديم خدمات أو تنظيم أو ترتيب يناسبه، فإعلان الاستقلال وإعلان الدولة حيال ذلك تشويه للمشروع وتعريض له لذره في رياح الضياع مع أول عاصفة.
ثالثا: على الحركة أن تعرف أن العالم بدأ يقاضي حكامه الذين أسسوا الدول والجيوش والوزارات، فكيف بدول الظل، فعليها ـ حفاظا على مصداقيتها ـ أن تقدم للشعب أفعالا قبل أقوال تبرر فشلها الذريع في القضايا التالية:
– قضية الجماعات الإسلامية: فقد فشلت الحركة في التعاطي معها عسكريا وتفاوضيا.
– قضية مجازر الجيش المالي ضد الشعب الأزوادي: فقد فشلت الحركة في التصدي لها عسكريا، وكانت تنديداتها متأخرة ولم تكن بمستوى الحدث.
– قضية تمثيل الشعب: فإن الحركة تدّعي فيه دعاوى عريضة، الواقع فيها أقل بكثير مما تقول.
– قضية المجلس الانتقالي الذي لم يراع فيه لا التنوع العرقي، ولا الجغرافي، ولا المهنية والجدارة والاستحقاق، فكيف يمثل الشعب الأزوادي مجلس مكون من ثمانية وعشرين عضويا، ليس من العرب والسنغاي إلا نحو خمسة، هذا هو حال مالي.
– قضية سوء التفاهم بين بعض العرب وبعض الطوارق، والمنتظر من حركة تدعي تمثيل الشعب أن تكون طرفا ثالثا يحجز بين الفئتين، لا أن تكون طرفا أولا أو ثانيا في الأمر.
– قضية إدارة المناطق التي استولت عليها الحركة قبل إخراجها من المدن، فقد كان ضبط الأمن فيها مختلا، وزاد الطين بلة عكس ذلك في المناطق التي استولت عليها الجماعات الإسلامية.
– قضية التدخل الفرنسي، فموقف الحركة فيه مريب غامض غير مشرف.
أما بعد فهذه بعض القضايا والملفات الهامة والتي فشلت الحركة فشلا ذريعا في التعامل معها سابقا، فإن كانت لديها خطة أخرى أو استراتيجية أخرى للتعامل معها بطريقة تحقق مصالح الشعب، فذاك.. وإلا فليس لها حق تمثيل الشعب.. ولا ينبغي لها التلاعب بمصير أمة.
رابعا: أنصار الدين: قدمت الحركةُ الوطنية لتحرير أزواد حركة أنصار الدين على لسان أكثر من مسئول لها ـ على أنها حركة وطنية تمثل الجانب الديني، وهذا التعريف حق، وقد تعرضت هذه الحركة للتشويه، وهذا ما يوجب التنويه ببعض إنجازاتها:
– كان دورها فعّال في طرد الجيش المالي.
– لها دور كبير في استتباب الأمن في تنبكتو وغيرها من المناطق التي استولت عليها.
– وكانت اليد اللاطمة للجيش العنصري المالي والمؤدبة له في جرائمه وإباداته للشعب الأزوادي في شمال مالي وجنوب أزواد.
– حظيت الحركة بتأييد شعبي داخلي وخارجي، من مختلف شعوب أزواد ومناطقه.
– كانت لها جهود دعوية وتعليمية وأثنى علماء المنطقة على تسييرها للمناطق التي تحت سيطرتها.
– قدمت الحركة ملفا سياسيا ينم عن نضج وعقل سياسي واع.
– لم تعتد الحركة على أي أجنبي غربيا كان أو شرقيا.
– بادرتها فرنسا بحربها الصليبية ضد أزواد.
خامسا: هناك خطة مكر كبار تحاك بل حيكت وطبقت، لإجهاض الثورة الأزوادية وإفشالها عبر وسلتين:
الوسيلة الأولى: تحويل الصراع بين مالي وأزواد إلى صراع بين الأزواديين والإسلاميين، وقد مر هذا بمراحل:
– مرحلة حشد الإسلاميين الأجانب إلى أزواد.
– مرحلة تلويح الحركة الوطنية بالقضاء على ما يسمى بالإرهاب بعد قيام الدولة الأزوادية.
– مرحلة طرد الجماعات الإسلامية للحركة الوطنية من المدن.
– مرحلة استعطاف الحركة للغرب وتعهدها بمقاتلة (الإرهابيين)، وتقديم نفسها كضحية الإرهاب الأولى.
– مرحلة الغزو الصليبي الفرنسي للإسلاميين في أزواد، وتعاون وتنسيق الحركة مع فرنسا.
– ونحن الآن في مرحلة انشغال الحركة بمحاربة (الإرهابيين)، والجيش المالي يعيث فسادا نهبا وسلبا واختطافا وإبادة للشعب الأزوادي.
واللائمة في هذا كله ملقاة على الحركات الأزوادية: الوطنية وأنصار الدين وغيرهما، فإن المستفيد من الموضوع فرنسا ومالي والشعب الأزوادي خاسر في أية حالة، ثم أكبر خسارة في الموضوع في الدنيا والآخرة خسارة من أعان الكفار ووالاهم ضد المسلين، سواء كان اسمهم إرهابيين، أو غير ذلك.
الوسيلة الثانية: تحويل الصراع من صارع مالي أزوادي إلى صراع أزوادي أزوادي، وقد حاولت مالي أن يكون الصراع بين العرب والطوارق من جهة وبين السنغاي والفلان من جهة، إلا أن الله تعالى لطف بنا فجنبنا هذه الفتنة، ومن أسباب ذلك بروز الحركات الإسلامية الأزوادية التي ذابت فيها العنتريات الجاهلية إلى حد ما، وكان الجامع لها الإسلام.
ثم عمدت حكومة بامكو إلى نفخ النار بين العرب والطوارق، وهذا أمر معقد وخطير، وقد ساهم فيه الطابع الأمازيغي للحركة الوطنية لتحرير أزواد، إضافة إلى عدم وضوح موقف بعض عرب أزواد من الحركة الوطنية بالذات، الأمر الذي أدى إلى ما حدث..
واللائمة في هذا تعود إلى الحركة الوطنية والحركة العربية، فتمثيل الأولى للشعب الأزوادي يقتضي احتواء الجميع وعدم التصادم معهم، وتمثيل الثانية لعرب أزواد يقتضي تحقيق مصالحهم، وأول مصلحة للأزواديين عدم اقتتالهم فيما بينهم، بل ذلك أهم من الاستقلال ومن الانفصال ومن أي أمر دنيوي آخر.
أما بعد: فالشعب الأزوادي يعيش محنة عظيمة لم تمر عليه في تاريخه ـ فيما أعلم ـ فالواجب على الأزواديين جميعا أن يغلبوا المصالح العليا للشعب المكلوم المشرد المضطهد، ومن أهم هذه المصالح.
أولا: أن يسعى الجميع للحفاظ على الهوية الدينية للمجتمع، وأن تتفق جميع الحركات على المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم، كحق لله تعالى، لا يجوز لأحد التنازل عيه ولا التساوم فيه، وكحق دستوري لشعب مسلم كله.
ثانيا: المحافظة على أموال الناس ودمائهم وأعراضهم والعمل على حمايتها بغض النظر عن مناطقهم وأجناسهم وقبائلهم وتوجههم السياسي.
ثالثا: المحافظة على النسيج الاجتماعي للشعب الأزوادي، وإسكات الأبواق التي تنعق بالعصبات الجاهلية، والكف على أيدي السفهاء من جميع الأطراف.
رابعا: الحفاظ على المكتسبات الثورية والتي كانت باسم الشعب الأزوادي، وأن تكون استحقاقات الثورة لصالح الشعب، لا المناطق، ولا القبائل، ولا الأشخاص.
خامسا: عدم التنازل عن الانفصال عن مالي مهما أمكن، وإلا فلا أقل من حكم ذاتي للإقليم على أن تطبق فيه الشريعة الإسلامية.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
——————————–
باحث متخصص في الحديث الشريف والدراسات الإسلامية