عاد القلق على مصير الدولة في هذه الأسابيع يدق الأذهان من جديد، بعد ما يزيد على خمسين سنة مما سُمي بتسرع “الاستقلال الوطني” وبمفارقة أكبر في جو من النشاط الحكومي يمتاز بتحضير المشاريع ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي وتمويلها وتدشينها، كما تشهد الأرقام، بعد شهادات هيئات “ابريتون وودس”، بأن الاقتصاد معافًى وأنه في حالة من الرخاء لم نعشها من قبل.
ما الذي أعاد القلق في جو كهذا؟ ولماذا لا يشكل مرور الزمن على تأسيس الدولة الموريتانية مصدر تراكم لعوامل قوتها وعنصرَ تأكيد لديمومتها؟ لا بد أن لهذا الوضع أسبابا قريبة وجذورا بعيدة. الأسباب البعيدة معروفة إلى حد ما عند الكثير، ولكن الجميع متفق على تجاهلها. العنصر الأول: الذي لا يسمح بأية مرونة بل –على العكس- يتطلب شفقة تامة ودائمة هو الضعف الأساسي لهذا الكيان من حيث قلة السكان وهشاشة التشكلة وضعف تناسق وتناغم الأحاسيس والوعي. العنصر الثاني: الكيان الموجود ليس من صنعنا وليس من اختيارنا، وانما هو من صنع ومن اختيار الاستعمار الفرنسي. خيار الاستقلال عام 1960 ليس اختيارا خاصا بنا بل هو قرار عام شملنا صدفة ويُعنى به استقلال جميع المستعمرات الإفريقية الفرنسية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. إذن، ليس لنا فيه فضل كبير. المأثرة كلها ترجع للجينرال دكول. يجب أن لا ينسى أحد أنه بعد تأسيس الجمهورية الاسلامية الموريتانية إثر استفتاء 28 سبتمبر، المعروف باستفتاء “لا- نعم”، صار الجينرال دكول، بوصفه رئيس الجمهورية الفرنسية، رئيسا لتلك الجمهورية الاسلامية لأكثر من سنتين. ويتذكر من كانوا في سن الاطلاع، ومن تلقوا منهم، أن معلق “صوت العرب” من القاهرة، الشهير أحمد سعيد كان يتهكم على تلك المفارقة: “جمهورية اسلامية رئيسها دكول”؟! كانت علاقات جمال عبد الناصر، في تلك الفترة سيئة بفرنسا وأَسْوَأَ بأتباعها. ظروف تلك الولادة الافتراضية حرمت الدولة الموريتانية من الحنان والروح الحميمية الضرورية بينها وبين مواطنيها. موريتانيا بنيت، منذ النشأة، بناء مائلا. لا أحد يتمتع بالحد الأدنى من صوابه يشك في ذلك أو يظن دقيقة واحدة أنه بمثابة برج “بيز” المائل الصامد منذ ثمانية قرون. في فترات الصفاء والهدوء العابرة، التي تهب من حين لآخر فجائيا – وغالبا بمناسبة حصول تغيير – ننسى هذا الميل وننظر بتفاؤل إلى المستقبل ولكن، باستمرار، ينقصنا طول النفس في هذا الاتجاه، ويشخص أمامنا، في الفترات العادية، البناء المائل وانعدام الاطمئنان اليه، بل وشعورنا بخطره، كأنه سيف داموكليس، ينذر بالقضاء علينا فجأة وبدون سابق اشعار. والواقع أن التجربة التاريخية البعيدة والمخيلة الجماعية لا تسعفنا بنموذج حي وبتقاليد في الممارسة “الدولتية” ولا بفوائد تلك المرحلة من التشكيلات الاجتماعية –السياسية. الذاكرة لا تعرض ولا تعلم إلا التشكيلات ما قبل الدولة. أعرق حركة تاريخية تمت إلى الواقع بصلة وربما هي الأكثر تأثيرا، أي المرابطون، هي وحدها التي طُرحت عليها قبل حوالي ألف سنة بإلحاح ضرورة تشكيل الدولة. ولكن المرابطين حلوا المعضلة على الطريقة التي فك بها الاسكندر الأعظم العقدة “الغوردية”. عندما سيطرت حركة المرابطين على المنطقة وقويت وأصبحت بلا منازع هاجرت بالمولود الجديد إلى مناطق مناخية واجتماعية أخرى، إلى سفح الأطلس الأعلى. هذا ما فعله بالضبط، في ظروف أخرى، عالم اصماره الورع الذي انبرى بشجاعة وحزم لمقاومة الاستعمار الفرنسي، في عجز القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نعني الشيخ ماء العينين. وقد لا يكون من الشطط إذا قلنا إن تمدد أولاد امبارك المثير نحو الجنوب الشرقي هو نفس النزوح معكوسا، ربما، تحت وطأت نفس الأحاسيس. أولاد امبارك ابتعدوا كثير عن مرابعهم الأصلية، حيث تأرجح ثقلهم نحو منطقة “باقنة” ومدوا أيديهم للسيطرة على “كارطه”. قد تكون شهرة أولاد امبارك عندنا هي بالحروب البينية، وبتجربتهم الثقافية الغنية، وبالموروث الفني الذي نرتع فيه الآن. ولكن تجربة بهذه الرصانة وبهذا العمق لا بد أن لأهلها أحاسيس وطموحات أخرى تتعدى فكرة الحرب للحرب. ومما يميز هذه المجموعة ويبرهن على طموحها وسمو نظرتها أنها هي وحدها التي كانت تلقب رئيسها بلقب “السلطان”. وصلت بهم القوة والطموح إلى أن حشدوا عشرين ألف مقاتل للحصول على “كارطه”، وهو عدد يصعب على بعض الدول الإفريقية اصطفافه الآن. لم يكن زمن أولاد امبارك ولا بالأحرى زمن الشيخ ماء العينين هو زمن المرابطين. مجتمع الصحراء الكبرى، ربما، أنتج النظام الجماعي المناسب الذي تسمح به الظروف. تجربة المرابطين بالهروب بالدولة نحو مناطق أكثر يسرا هي التي عاشتها الجزيرة العربية مع ثورة الاسلام، في القرن السابع بعد فترة وجيزة كافية لتشمل الفكرةُ الجديدة بلاد العرب، وبعدها هاجرت الدولة إلى الشام والعراق. بقدر من الجرأة رفع بعض المؤرخين الظاهرة إلى مستوى اللزوم التاريخي. خلال الخمسين سنة الماضية كان النظام الحاكم، مهما كان شكله أو نمطه: مدنيا، عسكريا، أحاديا، تعدديا، هو المُرَتِبُ بلا منازع، الضامن للدولة ووجودها وبقائها. الأمر الآن لم يعد بهذا الوضوح. الآن بالإمكان أن تقلب الأمور رأسا على عقب ببساطة تامة ونصبح في إطار صيغة أخرى للدولة. يكفي أن تجتمع أطراف وتختار ماهية جديدة للدولة، ليس لنا بها سابق عهد، ولا أحد يدري مآلها، وتقوم بضغوط فعالة أو تهديدات تكوِّن بؤرة انزعاج للمجتمع أو منبع قلق للسلطات الحاكمة لتصبح الأمور على منوال غير مألوف. الوثيقة الأساسية للدولة، الدستور، لم تعد تتمتع بهيبة تصون أساسياتها أو تحول دون تغييرها حسب المزاج. أقدس موادها وأكثرها جوهرية يمكن أن تتغير أو تنزع بمجرد اتفاق أطراف تحت إملاء التغيرات السياسية والحزبية العابرة أو المصالح الآنية. النظام السياسي الحاكم، مهما كان، سواء الحالي أو اللاحق، لم يعد بإمكانه الحفاظ على الكيان، لأن الفهم الجديد للديمقراطية، كما صنعته السنوات الأخيرة، لم يعد يسمح له بذلك الدور وتلك المكانة. لم يعد هو الحَكَمُ وهو المُرَتِبْ وهو صاحب الكلمة الأخيرة في الأمور المصيرية. انحصر دوره في التسيير اليومي وتحضير الطعام والشراب والإنارة والعلاج الطبي. أما الأمور الأساسية فأصبحت في مهب المزايدات وعرضة للإبتزاز ممن لا يدري ولا يدرك العواقب، ومن هو أكثر جرأة على الاقدام على ما يتجنبه العاقل، ويحجم عنه المتأني، ويخشاه الحكيم. عندما تسحب السلطة من النظام الحاكم بدون انقلاب وبدون اقتراع، فلن يبقى أحد مطمئنا لأي شيء. مصدر الخطأ هو الفهم المغلوط للديمقراطية. في بداية تلك التجربة فُهمت الديمقراطية على أنها انتاج أكبر عدد من الأحزاب الزئبقية غير المبنية على اختيارات محددة وغير ثابتة على مواقف. بعد تلك الموجة، أو الموضة، أُطلق العنان للكلام بدون حدود أو قيود من الشتم البذيء إلى السب المجاني في شبه “كرنافال” دائم للسفسطة. هكذا فهمت الحرية. ومن اعترض على الكلام الغبي، غير المحسوب ينعت بأنه يريد مصادرة الرأي الآخر. إنه مأزق يغذيه الأغبياء والبسطاء الذين حفظوا عبارات وصاروا يتلاعبون بها، ظنا منهم أنها أفكار وآراء. حقا إن الحرية هي جوهر الديمقراطية ولكن أي حرية؟ كان من الاجدر والأنفع أن نتوجه إلى الحرية الايجابية: حرية التفكير وتحرر الذهن والعقول والتعلم من خلال ذلك النهج طريقة بناء استقلالية الرأي والموضوعية في الأشياء. ولكن يبدو أن ذلك بعيد المنال إذا صح رأي بعض المفكرين الذين يجزمون أن الأدب شرط للحرية، وأنه هو الذي يخلق ذهنية وشروط الحرية وأن غير ذلك هو ماكنة تشتغل في فراغ!. النظام الحاكم، هو الآخر، انسجم مع المواطنين في مسارهم المدمر للمعايير والمقاسات إلى درجة أن البعض اعتبر أنه هو الذي رسم فاتحة ما سمي “بالربيع العربي”، الذي يجب ألا يظن أحد أنه، على لساننا هو أجزل المديح. ليس هذا الجانب هو الصفحة المشرقة في تجربة النظام التي حملت في طياتها الكثير من الطفرات والانجازات الموفقة التي لا يمكن أن ينكرها إلا مكابر. ولكن كل تجربة لها سلبيات وجانب التماهي مع “الربيع العربي” هو الصفحة الرمادية فيها. الربيع العربي هنا هو ربيع معكوس لأنه بقيادة أو، على الأقل، بمباركة النظام الحاكم، ولذا عند ما بلغ هذا الربيع أوجه لم يجد المزايدون ما يفعلونه. ومهما يكن من أمر فإننا حصدنا العديد من سلبياته دون أن نحسب من أهله وتأكد لدى جميع البسطاء من خلال تلك الحصيلة أن كل شيء ممكن، وأن كل قول مباح، وأن النسبوية السياسية بأبشع أصنافها، بل العدمية، هي النهج الصحيح. النتيجة إذن، هي أننا صنعنا، حقا بدرجة من اللامبالاة والأريحية تستحق الاعجاب – وكأننا نتعلم الحجامة في رؤوس اليتامى – فترة من الحيرة والارتباك قل مثيلها. هل هي ستقود إلى الفوضى، التي تعطينا فيها الآن، بسخاء غير مسبوق، عدةُ أقطار عربية نماذج يصعب الاختيار بينها؟! ليس هذا وحده هو مصدر القلق على الكيان الموريتاني. بعد كل ما حصل في السنوات القليلة الأخيرة في عدة أقطار عربية، في المشرق وفي المغرب، هل ستتجنبنا “الفوضى الخلاقة”، التي بشر بها بوش الابن وكندوليزرايس، في الشرق الأوسط الكبير الذي يقولون إنه يمتد من انواكشوط إلى طشقند، أو من كابول إلى العركوب؟. الملاحظ بجلاء هو اهتمام الأمريكيين بمنطقتنا – الصحراء الكبرى – منذ سنوات والحق أن ذلك يحصل بحصافة وكياسة غير مألوفتين لديهم. وأخيرا دخلت فرنسا على الخط، من خلال أزواد، بمبررات تنسجم مع نظرتها. في الوقت نفسه عزفت أمريكا على وتيرة الصحراء الغربية (الاسبانية سابقا) وذكَّرتْ بمبادرة بيكر من أجل تحريك حل لهذا النزاع المستعصي. هل هذه التحركات تعبر فقط عن ظاهر الأمور أم أنها مقدمات لترتيبات أشمل مازالت ضرورات الفعالية تُخضِعُهَا للاختفاء وراء ستار الحياء؟. مصدر المشكل هو أن الغربيين يعزفون على بيانُو عملاق، ولهم القدرة على الضغط على جميع الملامس في آن واحد، على هذا البيانوُ: ملمس أزواد.. ملمس اتشاد.. ملمس النيجر.. ملمس الصحراء الغربية، بما يمكنهم من خلق ملحمة، بينما عزفنا نحن على ملمس واحد ينتج رنة واحدة مملة، بل وناشزة… هذا ليس موسيقى. في فترة ضبابية وشبه جنونية، تبين أن كل شيء فيها ممكن، علينا أن نحسب لأسوأ الاحتمالات، فهي تشبه فترة الحرب وفي فترة الحرب يحسب الحساب أولا لأسوأ الاحتمالات. *** إذا كان بناء الكيان الموريتاني في الأصل مائلا فلابد له، لكي يستمر أو يطول عمره من عمود سند، ركن يمنع الانهيار. فهذا التدبير كان إلى حد الساعة من دور السلطة الحاكمة ولكن الآن لا بد من دعامة جديدة. هذا الدور لا يمكن أن يلعبه إلا المثقفون، نتيجة لوعيهم وإدراكهم لأبعاد الأمور واستعدادهم الذهني للأدوار العامة وغير المأجورة. الدولة على أهميتها القصوى، تبقى وسيلة لخدمة المجتمع. في بعض المواقف تصبح تابعة، أي غير رئيسية. يقول مؤسس الفكر الاستراتيجي الحديث اكلوز فيتش: إذا أصبحنا في مأزق يصعب علينا فيه الحفاظ على الدولة والجيش في آن واحد، فعلينا أن نتخلى عن الدولة ونحافظ على الجيش. نريد أن نحاكي بتواضع، المفكر الكبير ونضيف: إذا عجزنا عن الحفاظ على الدولة والمجتمع فعلينا أن نحافظ بجميع الوسائل على المجتمع. لأن المجتمع، كشعب وحضارة، هو الغاية والدولة أداة لخدمته. المجتمع كنموذج فريد، كنتاج لعبقرية جماعية متميزة، تطلَّب القرون من البذل لأجيال متلاحقة لا يعوض. المثقفون ليسوا المتعلمين والأكاديميين وإنما نوع منهم يتمتع بالوعي، أي أنهم تخلوا عن رواسب التفكير المتخلف إلى درجة القسيسية في خدمة الأمر العام والحق والعقل. العقلLa Raison) ) هو الذي يمنع اختلاط الأمور – كما يقع للبسطاء – ويحول دون الهبوط في غياهب العدمية، عند ما نعمق التفكير وتتزاحم المتناقضات. العقل هو كينونة الانسانوية وهو مقياس كل شي. المثقف يتميز ويقوم بواجبه المعنوي عندما يصل إلى مستوى يُحَكِّمُ فيه تلك الملكة، بعد أن هجر رواسب التفكير التقليدي وهجر بتحدٍ الامتثالية. التحدي ميزة لا غنى عنها. كان التحدي في الفترات الماضية يتجسد في معارضة الانظمة الأحادية والديكتاتورية، أما الآن فالتحدي يكمن في معاكسة التفكير السائد لكي لا يصبح الجميع قطيع ضأن. 10/05/2013