لم تشكل الحرب الجارية اليوم بين فرنسا وحلفائها الأفارقة من جهة وبين الجماعات الإسلامية المسلحة، المسيطرة علي إقليم أزواد من جهة أخرى مفاجأة تذكر- رغم استدراج أنصار الدين وحلفائها للطرف الآخر إليها قبل حلول شهر شتنبر المقبل، وهو التاريخ الذي حددته القوى الإقليمية كموعد لن تخلفه للهجوم علي تلك الجماعات.
هذه الجماعات التي سعت إلي انتزاع زمام المبادرة من فرنسا وأشياعها، عند ما بادرت إلي شن هجوم مباغت علي منطقة تقع خارج الإقليم ولوحت إلي أن بامكو(العاصمة) هي وجهتها المقبلة، وقد لجأت إلي هذه المبادأة كخيار تكتيكي بعد أن تأكدت من أنه لا حل سلمي للمشكل الأزوادي، خاصة وأنها تقدمت بمبادرتها للحل، وتبين لها بالدليل القاطع أن لا فرصة للتجاوب مع أطروحاتها التفاوضية تلك وأن طبول الحرب ظلت تقرع من طرف فرنسا وأشياعها في المنطقة وبالتالي، فهي واقعة لا محالة..وعندها فقط قررت حركة أنصار الدين وحلفاؤها قلب الطاولة علي الجميع واستدرجت الأطراف الساعية للحرب قبل أن تكتمل استعداداتها الجارية علي قدم وساق، بعيدا عن أرض أزواد، بغية تجنيب سكان الإقليم جزءا من ويلات الحرب وخوضها علي أرض الخصم، ليكتوي السكان هناك بنارها، علهم بذاك يخف حماسهم لخوض حرب سيكتشفون ميدانيا أنهم هم أنفسهم سيصبحون ضحيتها الأولي.
فالصورة الخارجية للأحداث المتلاحقة، تبدو للمتابع العادي وكأن فرنسا هرولت إلي مالي، بغية إنقاذ دولتها وشرعيتها وأغلبيتها الزنجية من التدمير والإنهيار الشامل وأنها استخدمت لنفس الغرض غطاءا جويا فعالا، لديه تكنولوجيا متفوقة، سرعانما تم إسناده بقوة برية معتبرة، تمتلك العتاد والتفوق النوعي، وصاحبته حرب إعلامية، تسعي إلي إقناع مختلف الأطراف بأن هذه الحملة، تمثل ” اتسونامي” سيقتلع كل من يقف في وجهه من جذوره، وأظهرت هذه “الهجمة” الإعلامية تلك الجماعات المسلحة وكأنها قد ضربت في مقتل وتم الإجهاز عليها خلال ساعات، لكن الخروج المبكر للمروحيات العسكرية من المعركة بعد إسقاط “أنصار الدين” لبعضها وقتل اثنين من طياريها (وفقا لجريدة “لو بوين” الفرنسية)وتهيب الفرنسين من الإلتحام المباشر مع هذه الجماعات عندما وضعت الجنود الماليين في المقدمة-رغم ضآلة خبرتهم وتدني نوعية عتادهم- ليكونوا هم رأس الرمح وأداة المواجهة التي يجب أن تشكل وسيلة اختبار لمعرفة قوة وخطط تلك المجموعات الجهادية وطبيعة أساليبها القتالية.. واقع سيضع القوات البرية الفرنسية نفسها مستقبلا في مواجهة قتالية مع مسلحي القاعدة وأنصار الدين، عند ما تتطور المعارك إلي مستوي قتال في الشوارع.. كل ذلك سيخلق واقعا مقلقا للفرنسيين وسيكون كفيلا بتوجيه صفعة قوية لهذه الحملة، التي سعت فرنسا خلالها إلي تقديم صورة تظهرها وكأنها مسنودة بكامل دول الجوار ودول شبه المنطقة، بل والعالم أجمع، لكن المعضلة التي واجهت أصحاب القرار الفرنسي، هي: أن مقاتلي أنصار الدين لازالوا يقاتلون ضمن المربع الأول الذي فجروا من خلاله شرارة الحرب(انسحبوا بعد أسبوع من القتال من “كونا” ولا زالوا يقاتلون في شوارع “ديابالي” حتي صباح يوم السبت 19 يناير: تاريخ كتابة هذه السطور)، واقع يعترف الفرنسيون أنفسهم بأنه تكتنفه صعوبات جدية بالنسبة للقوى التي تتزعمها -لا سيما في المنطقة الغربية من الإقليم.
ويبدو أن وجهة نظر الرئيس الفرنسي لا تحظي بدعم كلي داخل بلده بخصوص مجريات الأحداث في مالي، ذلك أن السيدة ماري لوبين: رئيسة حزب “الجبهة الوطنية الفرنسية” اتهمت فرانسوا هولاند ومن قبله ساركوزي بأنهما “هما من قاما بالمساهمة في تسليح الجماعات المسلحة في شمال مالي بالعتاد الثقيل، وهو الأمر الذي تحقق لهم في أعقاب الحرب التي عرفتها ليبيا“، مؤكدة أن“الترسانة القوية التي صارت بيد الإسلاميين في الساحل سببها الأكبر: فرنسا”، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الهدف والمغزى الحقيقين من وراء هذه الحملة الفرنسية.
تلك هي الصورة من حيث الشكل.. لكن ما هي الأهداف الحقيقية المتوخاة من هذه الحرب؟
الدوافع الحقيقية لخوض فرنسا لهذه الحرب:
لا أعتقد أن هذه الصورة الظاهرة علي السطح، قادرة علي تبرير زج فرنسا بجنودها في حرب قد تطول وتطول، كما أنها لا تسوغ تحمل فرنسا لأعباء اقتصادية ثقيلة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، تعيشها منطقة اليورو والغرب عموما، لذا لا بد من التنقيب عن الأسباب الحقيقية والدوافع العميقة، التي دفعت بفرنسا إلي الدخول في مغامرة عسكرية، قد تدفع بها إلي الغوص في رمال”أزواد” وقد لا تخرج منها بسلام، خاصة أنها تواجه جماعات خبرتها في العراق وفي أفغانستان وأعلنت عدم رغبتها في الإستمرار في مواجهتها، تقليلا من خسائرها الباهظة وإدراكا منها لحقيقة المستنقع الذي لا سبيل للخروج منه بشكل مشرف- ولو بعشر انتصار- بل إنها وقتها قد انتقدت الإصرار الأمريكي علي القتال، وأعلنت عن قرارها ذاك بسحب جنودها من المواجهات الدائرة في تلك الساحات.
فما هي الحكاية إذن؟
لا يمكن فهم الحملة الفرنسية هذه، إلا من خلال الرغبة العميقة في السيطرة علي خيرات إقليم أزواد وتأمين مناجم اليورانيوم في النيجر والتي واجهت تهديدات جدية في السابق من طرف هذه الجماعات، ومن أجل تأمين مصالحها النفطية والغازية في كل من الجزائر وليبيا.. إقليم تؤكد جهات كثيرة علي توفره علي البترول بكميات كبيرة وعلي معادن عدة من بينها اليورانيوم، المهم للمفاعلات النووية الفرنسية والتي تستمد نصف حاجياتها من منجم اليورانيوم بالنيجر المجاورة لأزواد والتي يشكل جزؤها المعدني المهم، امتدادا جغرافيا وبشريا متجانسا مع ساكنة إقليم ” أزواد”، ويتأكد هذا الخيار عندما نعرف الدور المحوري ل”الأخوات السبع”(شركات نفطية كبري) والتي تشكل مصالحها البوصلة الحقيقية لدول الغرب- إن لم نقل للعالم بأسره- هذا فضلا عن المكاسب الإستراتيجية التي ستجنيها بفضل السيطرة علي موارد الإقليم، الموجود علي تماس جغرافي أيضا مع الجزء الغربي من حوض تاودني، التابع لموريتانيا والذي تنقب فيه وتحفر اليوم شركة توتال الفرنسية، بحثا عن البترول، الذي توجد دلائل تؤكد علي أنه موجود هناك بكميات كبيرة.. كما ان هذا الإقليم أيضا هو علي تماس مع الجزائر وليبيا، المهددتين اليوم أكثر من أي وقت مضي بالتمزق والتقسيم.. فضلا عن الوضع الهش في الجزء الجنوبي من مالي نفسها وفي جارتها الشرقية:النيجر المهددة بتمرد مماثل، تحكمه نفس الظروف والأسباب التي يعاني منها سكان أزواد، (هاتين المنطقتين التين تتشابه تركبتهم السكانية ويتميزون كذلك بالتواصل الجغرافي بين الأقليتين: التارغية والعربية، واللتان تعيشان وضعا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مماثلا، وشهدت مناطقهما حالات تمرد علي الدولة المركزية في السابق).
إن هذا الفضاء الجغرافي الغني بموارده والذي غابت عنه الدولة المالية وتركته يعيش ضمن منطقة صحراوية وعرة وخالية من السكان، يحكمه الفراغ في كل شيء- بفعل الإهمال التام ولا مسؤولية الأنظمة المالية المتعاقبة- قد أصبح اليوم بحاجة إلي قوة ” مسؤولة” تملؤه وتديره بحكمة- بعد سيطرة هذه الجماعات المسلحة عليه، وبعد أن دخل من الباب الواسع في اللعبة الدولية- حتي لا ينفجر في وجه الجميع وتصيب شظاياه البعيد قبل القريب.
وتتأكد ضرورات الحل عندما ندرك خطورة السيطرة الأحادية عليه من قبل جماعات لا تقيم للقانون الدولي أي اعتبار ولا تلتزم بضرورات المصالح الأمنية لدول الجوار والعالم، لذا لا بد من إيجاد حل مقبول لساكنة الإقليم أولا وللجزء الجنوبي من مالي ثانيا ولدول الجوار ثالثا، وللعالم رابعا، لكن المشكلة المطروحة، هي: عن أي حل نتحدث؟
1- هل هو الحل الذي يستوجب إرجاع الإقليم بقوة السلاح للحضن المالي الخشن، والذي ظلم وقتل وشرد ونكل بساكنته وتنكر لجميع اتفاقياته السابقة معهم وأهمله وتركه نهبا لعصابات الجريمة المنظمة وللقاعدة؟
2- أم أن هناك صيغة أخري أداتها التفاوض، تحول دون الإنفصال التام عن الدولة المالية وتضمن كرامة سكان الإقليم، وما هي تلك الصيغة؟
أسئلة لم تقدم فرنسا حولها أي جواب- ويحتمل أن تكون قد أخفت رؤيتها لمستقبل الإقليم والمنطقة عن الجميع، لأنه من المنطقي أن تكون علي دراية عميقة بأن أي طرف من الأطراف المتصارعة اليوم لن يرضي عنها إلا بعد الإنهاك الشديد (حكومة بامكو وسكان الإقليم)..وقبل ذلك فإنها لا تستطيع أن تقدم لهم حقيقة ما تبيته للإقليم والمنطقة، لذا ليس لها من جواب علي أزمة طاحنة- هي من صنعها- سوي صوت المدافع وأزيز الطائرات ودوي انفجارات الصواريخ.
فهذه المنطقة هي من منظور فرنسا، مجرد جزء من العالم كان ولازال وسيظل يمثل حصتها من ثروات الشعوب الضعيفة.. إنها ببساطة إحدى مستعمراتها السابقة، وبالتالي فليس من حق هذه المنطقة أن ترفع رأسها وتتصرف خارج دائرة الإملاآت التي تفرض عليها.
وأمام واقع كهذا الذي ينذر بالنهاية المحتملة للنفوذ الفرنسي في منطقة كهذه، كان لا بد للفرنسيين من عمل يماثل هذا الذي تعيشه مالي اليوم، لاسترجاعها لنفوذها المتضعضع.. ولا يهم بعد ذلك تحديد السبب ولا المسبب، المهم أن تعود فرنسا إلي عرينها وتضمن شركاتها مصالحها وأن تطمئن القيادة السياسية في باريس علي ضمان استحواذها علي ثروات الإقليم والمنطقة بأسرها.
إنها المصالح الفرنسية، التي تتصف بقدسية، تسمو فوق جميع مقدسات دول العالم الثالث، لذا يجب إخضاع الأزواديين والاستحواذ علي خيراتهم، حتى ولو تطلب ذلك رميهم في البحر أو ضربهم بالصواريخ من الجو وقصفهم بالمدافع من البر والإستعانة بالمليشيات الإفريقية والجيوش التابعة، وهي خطوة ستذكر المستعمرات الفرنسية السابقة بمرحلة “الرماة السنغاليين”، والتي لا زالت حية في الذاكرة الجمعية لشعوب الدول المجاورة للإقليم.
إن هذه اللعبة الفرنسية، التي تسترت تحت مظاهر وأبعاد متعددة، قد يكون من بينها السماح لهذه الجماعات أن تتجمع بالإقليم لحاجة في نفس الدوائر الفرنسية– وهو ما يفسر سلوك النظام المالي المطاح به اتجاه هذه الجماعة والمتسم باللامبالاة- بل والتواطؤ- والذي لا يستطيع رئيسه أن يحلق ذقنه دون موافقة ومباركة فرنسا، فكيف نبرر السماح بالتجمع والسيطرة لقوة يفترض أن الغرب مجتمعا يجيش الجيوش لتدميرها ويحذر العالم من مخاطرها، كيف تبرر فرنسا للعالم تركها للقاعدة تصول وتجول في الإقليم دون حسيب أو رقيب؟ وبأي مسوغ تقبل بوضع كهذا وهي الدولة العضو في مجلس الأمن والمعنية بترتيب خيوط اللعبة الدولية؟..ينضاف إلي ذلك أنه لا يستبعد أيضا أن تكون هي من رتب للإنقلاب الأخير في مالي لخلق ظروف كالتي تعيشها مالي اليوم، رغبة منها في أن تنضج الثمرة ويسهل الحصاد.
إنها احتمالات تعززها القرائن التالية:
الأولي: تصريح رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية، الذي يتهم هولاند وساركوزي من قبله بتسليح هذه الجماعات المقاتلة بأزواد بالعتاد الثقيل.
والثانية: بلطجية زعيم الإنقلاب في مالي:(النقيب آمدو سونوغو) الذي وصل تحديه للجميع إلي حد ضربه لرئيس الدولة المالية بواسطة غوغاء أرسلهم إليه وأشبعوه ضربا داخل قصره ونفس الشيء بالنسبة لرئيس وزرائه الذي اعتقله هذا الإنقلابي أيضا وضربه وأجبره علي الإستقالة وعين بدلا منه رئيس وزراء موال له، دون أن يقابل هذا السلوك بموقف حازم من فرنسا: السيدة الحقيقية في مالي.
الثالثة: سعي فرنسا الدائم للزج بدول جوار الإقليم وخاصة موريتانيا والجزائر اللتين ترتبطان بعلاقات عرقية واجتماعية مع ساكنته وتمثلان في نفس الوقت فضاء حاضنا لسكانه ويمكن أن تتحولا في يوم من الايام إلى سند داعم لهم ضد فرنسا- بفعل هذا الترابط العرقي والثقافي- الشىء الذي يفسر سعي فرنسا الحثيث لاستدراجهما ما دام قد تعذر إقناعهما بالدخول في هذه الحرب، أسوة بدول “الأكواس”.
من هنا يمكن فهم قيام فرنسا بفضح سماح الجزائر لها بمرور طيرانها العسكري المشارك في الحرب علي أزواد فوق أراضيها.. وهو إعلان لا يمكن فهمه خارج سياق توريط الجزائر في الحرب وإظهارها بمظهر الغارق فيها اضطرارا من تحت الطاولة.. إعلان برر به المختطفون عملية ” عين أمناس” الدامية والتي سعى المختطفون من خلالها إلي توجيه رسائل عملية، لعدة جهات متورطة في الحرب وأخري محتملة، كما أنها خلطت بها الكثير من الأوراق في الجزائر نفسها وأوجدت متاعب إضافية للنظام الجزائري وصلت حد مطالبة البعض بإسقاط هذا النظام الذي قبل بوضع يده في يد فرنسا التي فعلت الأفاعيل بالشعب الجزائري في السابق ورفض رئسها مؤخرا مجرد الإعتذار للجزائريين، ليفاجأوا بأن نظامهم يكافئه بتقديم تسهيلات عسكرية، تهدف إلي ضرب إخوة أشقاء وجار، تربطهم بالجزائر أقوي الروابط وأعمق الصلات.
أما بالنسبة لموريتانيا، فهي الأخري واجهت نفس التصريحات التي تسعي لتوريطها وكانت قد تؤدي إلي تفجير الوضع بها ونسف استقرارها، بل إنها- لوصدقت – تمثل أكبر تهديد للنظام الحاكم، الذي لن يكون سعيدا بهذه التسريبات.
إنها أمثلة قد تعكس جوانب من المشروع الفرنسي، الذي يهدف إلي السيطرة علي مقدرات وقرار دول المنطقة، ليضمن للاقتصاد الفرنسي ديمومة الإزدهار ولتجنيب شعب هذه الدولة الإستعمارية كوارث الأزمات الإقتصادية التي تعصف الآن بمنطقة اليورو.. خيار لا يمكن تحقيقه علي أرض الواقع، إلا من خلال وجود حلفاء تابعين وخانعين في الحاضر والمستقبل، وهو ما يمثل فرصة لأن تنجو فرنسا من مستقبل اقتصادي قاتم، قد تكون نسيته منذ أن نعمت بخيرات الشعوب الضعيفة، التي افترستها ونهبت خيراتها ومزقت وحدة كياناتها، وحتي لا تنعم هذه الشعوب بأي مستوي من الكرامة، التي تري أنها نبتة لا تستحق أن تغرس إلا في الأرض الفرنسية، وتماثلها مفردات مثل: الحرية ورغد العيش والإستقلال.
أما الشعوب الأخري التي كانت يوما ما مستعمرة لها، فعليها أن تعيش همومها لوحدها.. وإذا تجرأت ورفعت رأسها، فإن طائرات الجاكوار ورافال وميراج هي لها بالمرصاد.
واقع يؤكد أن إغراءات ووعود فرنسا، هي مجرد سراب بقيعة، أما صداقتها، فهي دونية والسير وفقا لتعليماتها،مدعاة للإفقار وضياع للهوية وضمانة أكيدة للتخلف الأبدي.
إن علي فرنسا أن تدرك أن شعوب المنطقة قد وصلت إلي مرحلة النضج وصارت مستعدة لدفع جميع الأثمان، لذا ليس أمام المراقب الفطن، سوي التدقيق في فحوي الأهداف الفرنسية من شن حرب شاملة داخل أدغال إفريقيا، والزج فيها بشبابها واستعدادها لتتحمل من أجلها فاتورة اقتصادية باهظة، قد تثقل كاهلها.
أما الفرنسيون فعليهم أن يتساءلوا عن الثمن الباهظ المفترض أن تدفعه بلادهم خلال هذه الحرب وبعدها، وهل ستربح الحرب؟ أم أنها قد تخسرها وتخسر بسببها نفوذها وإرثها الإستعماري بالمنطقة؟
كلفة الحرب الباهظة واحتمالات الربح والخسارة
يمكننا القول إن هذه المسوغات والدوافع المصلحية، ستضع فرنسا في موقف لا تحسد عليه، ذلك أنها دخلت في حرب هي من حيث توقيتها خطأ وفي مكانها الخطأ أيضا.
فمنطقة شمال إفريقيا وامتداداتها في الصحراء الكبري، تعيش اليوم حالة من هشاشة في الأنظمة ومن توثب لشعوبها الثائرة- والتي ترفض واقعها الإقتصادي والسياسي والإجتماعي الذي تعيشه، بفعل تأثير الربيع العربي وبسبب فشل الأنظمة التي حكمتها وتحكمها- لذا أسقطت بعض أنظمتها ولا زال البعض الآخر مهددا بالترحيل من طرف شريحة لا يستهان بها من هذه الشعوب، وهو ما يوفرللجماعات الجهادية اليوم البئة الحاضنة لدعايتها وستوفر هذه الحرب لها فرصا لتجنيد أكبر عدد ممكن من الشباب وستزداد جاذبيتها وقدرتها علي التجنيد هذه المرة، لأن المواجهة، هي:مع “جيش صليبي” ولم تعد مع وكلاء الغرب في المنطقة- كما هي الدعاية التقليدية للقاعدة وأنصارها.
ويمكن إجمال هذه التداعيات السلبية بالنسبة لفرنسا في النقاط التالية:
1- ستقدم فرنسا نفسها لسكان المنطقة، علي أنها تساند الزنوج وتعمل علي إبادة الطوارق والعرب وستفاقم الذاكرة الإستعمارية من وضعها، بحيث سيحملها سكان أزواد وزر ما حل بهم بعد دمجها لهم بالقوة داخل دولة مالي.. وسيربطون بين هذا الماضي وبين الحكومات المالية، التي ظلمتهم وبطشت بهم وأعدمت أبناءهم وهمشتهم، منذ أن أصبحوا جزءا من دولتها.. وقد يتذكر الجزائريون ثأرهم مع فرنسا والموريتانيون ما حل بهم خلال الماضي الإستعماري وانحياز فرنسا للسنغال، خلال أحداث 1989 التي جرت بينها وبين السنغال، تلك الأحداث التي تم طبخها علي نار هادئة في باريس قبل أن يتم إخراجها وتطبيقها علي أرض الواقع بتخطيط ودعم فرنسيين علي حساب موريتانيا وشعبها.
2- كما أنها ستنزف دما والضحايا هذه المرة: هم فرنسيون أصيلون وليسوا مرتزقة أو متجنسين وقد يتعرض أمنها لهزات قوية من طرف عناصر متعاطفة مع القاعدة- خاصة وأن أحد مختطفي الأجانب في “عين آمناس”بالجزائر، قيل إنه فرنسي أصيل، اعتنق الإسلام وانخرط في الجماعات المسلحة.
3- ستطول فترة الحرب، وهو ما سيشكل نزيفا اقتصاديا ومعنويا، قد لا يكون الرئيس فرانسوا هولاند بقادر علي تحمل تبعاته، خاصة وأنه ما فتئ يسمع الفرنسيين والعالم بأن عهد الإستعمار قد ولي وأنه قد تمت القطيعة النهائية مع فرانس- آفريك وإرثها سيئ الصيت.
4- قد لا تكون الخمسة آلاف جندي إفريقي ونصفها الفرنسي- والتي يعول عليها في معارك صحراء أزواد وتأمين بامكو نفسها- بقادرة علي حسم المعركة لجهل معظم هؤلاء الجنود بالصحراء ولكون الأفارقة منهم بالخصوص أحوج ما يكونوا إلي”فاعل خير”، يمدهم بالسلاح واللباس والغذاء والدواء، ولضعف روحهم القتالية المحتملة جدا، أكثر من كونهم “جيوشا بواسل”، يعول عليها عند الملمات.
5- الموقف الرافض للحرب علي إقليم أزواد، بالنسبة لكل من موريتانيا والجزائر وتفضيل الحوار، بديلا عنها، استنادا إلي مبادرة أنصار الدين التي طالبت خلالها بحكم ذاتي موسع تحكم خلاله الشريعة الإسلامية في الإقليم، موقف من هاتين الدولتين، يستند علي تعاطف شعبيهما مع ساكنة الإقليم والذين يتمتعان بذاكرة حية، لا زالت تحتفظ بمرارات وآلام المرحلة الإستعمارية، وهو ما سيخلق صعوبات جدية أمام فرنسا وحلمها في السيطرة علي ثروات الإقليم، بل والمنطقة بشكل عام، وسيخلق بئة معادية لهذا الوجود الغربي المباشر، الذي يستحيل أن يرحب به بالنسبة لسكان هاتين الدولتين علي الأقل.
6- قد يستفز هذا الوجود- وسعي فرنسا من ورائه للهيمنة علي الثروات التي يختزنها الإقليم- القوى الدولية الأخرى ذات الإهتمام والمصالح المشابهة، التي قد تدفع بالأمور إلي مستوي تتكبد خلاله فرنسا خسائر فادحة وتحميلها لأعباء اقتصادية قد لا تستطيع تحملها، لذا فإن هذه الحملة الفرنسية قد تشكل بداية النهاية للنفوذ الفرنسي وللمكانة الفرنسية في هذه المنطقة من العالم.
7- إظهار فرنسا لنفسها بمظهر” الشحات أوالمتسول”، الذي يستجدي دول الخليج- التي تجاهر بعدائها الشديد للربيع العربي- كي تمنحها مساعدة مالية تعينها علي أعباء حربها في مالي وهو ما قد يلقى بظلاله علي المزاج الشعبي بالمنطقة ويظهر فرنسا بصورة باهتة، قد تزيد من ثقة مقاتلي الجماعات الإسلامية المسلحة بحتمية انتصارهم وسيعزز دعايتهم ويزيد من جاذبيتهم.
8- احتمال تفجير المنطقة والدفع بدول جوار مالي إلي حالة من عدم الإستقرار، قد تقضي علي وحدتها واستقرارها منفردة أو مجتمعة، وهو ما سيخلق بئة يستحيل علي فرنسا البقاء فيها ولو ليوم واحد.
حقيقة قد تؤدي بفرنسا إلي موقع متأخر، ضمن الدول ذات المكانة العالمية وقد تشكل حربها هذه، مقدمة لإنهاء مكانتها الدولية، مثل ما حصل في السابق لابريطانيا بعد حرب قناة السويس وللولايات المتحدة الأمريكية، بعد شنها لحربي العراق وأفغانستان، حيث بدأت كل واحدة منهما بالتراجع عن زعامة العالم وذلك بعد هذه الحروب الثلاثة، التي حصلت جميعها فوق أرض عربية و إسلامية.
فهذه الحرب التي تخوضها فرنسا وحلفاؤها الأفارقة اليوم داخل إقليم أزواد، ستشكل بداية النهاية للنفوذ الفرنسي في دول شمال إفريقيا وامتداداتها في الصحراء الكبري وقد تمتد خسارتها، لتشمل بقية مستعمراتها في إفريقيا.. وضع قد لا يظهر للعيان خلال يوم أو يومين، لكنه حتمي الحدوث ويؤكده منطق الأشياء، وسيؤكد أن “فيلة إفريقيا المتوحشة”، أكثر بسالة وعنفوانا من” قطة فرنسا المتوحشة”، التي جعلتها عنوانا لمعركتها الحالية في أزواد.. وهو اختيار قد يتشاءم منه المتطيرون، عندما يختار الطرف الأقوي أن يظهر بمظهر “قط” في مواجهة مع منطقة، هي وطن للفيلة وللنمور والأسود والتي قد تلتهم قطة فرنسا المتوحشة هذه، ليصحصح الحق وتبطل جميع أضاليلها التي سفكت بموجبها دماء أبناء المنطقة بغزارة ومزقت خريطتها وفرقت شمل شعوبها ورعت فتنة بين مناطق تماس جيرتها العربية والإفريقية، امتدت من السنغال غربا حتى السودان شرقا.. فرنسا التي تختزن ذاكرة المسلمين عداءها الشديد لهم عبر التاريخ البعيد والقريب والتي تعود اليوم لتكرر أفاعيلها السابقة، لكنها ستجد نفسها اليوم أمام حقيقة مرة ستدفع بها إلي التقهقر المذل.. لتدرك متأخرة أن سياستها الإستعمارية قد حولتها- في نظر شعوب المنطقة- إلي عجوز شمطاء ودمية يسهل علي بواسل المنطقة اللعب بها فوق الرمال المتحركة وداخل الفيافي المقفرة والموحشة.
هذه الجماعات التي سعت إلي انتزاع زمام المبادرة من فرنسا وأشياعها، عند ما بادرت إلي شن هجوم مباغت علي منطقة تقع خارج الإقليم ولوحت إلي أن بامكو(العاصمة) هي وجهتها المقبلة، وقد لجأت إلي هذه المبادأة كخيار تكتيكي بعد أن تأكدت من أنه لا حل سلمي للمشكل الأزوادي، خاصة وأنها تقدمت بمبادرتها للحل، وتبين لها بالدليل القاطع أن لا فرصة للتجاوب مع أطروحاتها التفاوضية تلك وأن طبول الحرب ظلت تقرع من طرف فرنسا وأشياعها في المنطقة وبالتالي، فهي واقعة لا محالة..وعندها فقط قررت حركة أنصار الدين وحلفاؤها قلب الطاولة علي الجميع واستدرجت الأطراف الساعية للحرب قبل أن تكتمل استعداداتها الجارية علي قدم وساق، بعيدا عن أرض أزواد، بغية تجنيب سكان الإقليم جزءا من ويلات الحرب وخوضها علي أرض الخصم، ليكتوي السكان هناك بنارها، علهم بذاك يخف حماسهم لخوض حرب سيكتشفون ميدانيا أنهم هم أنفسهم سيصبحون ضحيتها الأولي.
فالصورة الخارجية للأحداث المتلاحقة، تبدو للمتابع العادي وكأن فرنسا هرولت إلي مالي، بغية إنقاذ دولتها وشرعيتها وأغلبيتها الزنجية من التدمير والإنهيار الشامل وأنها استخدمت لنفس الغرض غطاءا جويا فعالا، لديه تكنولوجيا متفوقة، سرعانما تم إسناده بقوة برية معتبرة، تمتلك العتاد والتفوق النوعي، وصاحبته حرب إعلامية، تسعي إلي إقناع مختلف الأطراف بأن هذه الحملة، تمثل ” اتسونامي” سيقتلع كل من يقف في وجهه من جذوره، وأظهرت هذه “الهجمة” الإعلامية تلك الجماعات المسلحة وكأنها قد ضربت في مقتل وتم الإجهاز عليها خلال ساعات، لكن الخروج المبكر للمروحيات العسكرية من المعركة بعد إسقاط “أنصار الدين” لبعضها وقتل اثنين من طياريها (وفقا لجريدة “لو بوين” الفرنسية)وتهيب الفرنسين من الإلتحام المباشر مع هذه الجماعات عندما وضعت الجنود الماليين في المقدمة-رغم ضآلة خبرتهم وتدني نوعية عتادهم- ليكونوا هم رأس الرمح وأداة المواجهة التي يجب أن تشكل وسيلة اختبار لمعرفة قوة وخطط تلك المجموعات الجهادية وطبيعة أساليبها القتالية.. واقع سيضع القوات البرية الفرنسية نفسها مستقبلا في مواجهة قتالية مع مسلحي القاعدة وأنصار الدين، عند ما تتطور المعارك إلي مستوي قتال في الشوارع.. كل ذلك سيخلق واقعا مقلقا للفرنسيين وسيكون كفيلا بتوجيه صفعة قوية لهذه الحملة، التي سعت فرنسا خلالها إلي تقديم صورة تظهرها وكأنها مسنودة بكامل دول الجوار ودول شبه المنطقة، بل والعالم أجمع، لكن المعضلة التي واجهت أصحاب القرار الفرنسي، هي: أن مقاتلي أنصار الدين لازالوا يقاتلون ضمن المربع الأول الذي فجروا من خلاله شرارة الحرب(انسحبوا بعد أسبوع من القتال من “كونا” ولا زالوا يقاتلون في شوارع “ديابالي” حتي صباح يوم السبت 19 يناير: تاريخ كتابة هذه السطور)، واقع يعترف الفرنسيون أنفسهم بأنه تكتنفه صعوبات جدية بالنسبة للقوى التي تتزعمها -لا سيما في المنطقة الغربية من الإقليم.
ويبدو أن وجهة نظر الرئيس الفرنسي لا تحظي بدعم كلي داخل بلده بخصوص مجريات الأحداث في مالي، ذلك أن السيدة ماري لوبين: رئيسة حزب “الجبهة الوطنية الفرنسية” اتهمت فرانسوا هولاند ومن قبله ساركوزي بأنهما “هما من قاما بالمساهمة في تسليح الجماعات المسلحة في شمال مالي بالعتاد الثقيل، وهو الأمر الذي تحقق لهم في أعقاب الحرب التي عرفتها ليبيا“، مؤكدة أن“الترسانة القوية التي صارت بيد الإسلاميين في الساحل سببها الأكبر: فرنسا”، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الهدف والمغزى الحقيقين من وراء هذه الحملة الفرنسية.
تلك هي الصورة من حيث الشكل.. لكن ما هي الأهداف الحقيقية المتوخاة من هذه الحرب؟
الدوافع الحقيقية لخوض فرنسا لهذه الحرب:
لا أعتقد أن هذه الصورة الظاهرة علي السطح، قادرة علي تبرير زج فرنسا بجنودها في حرب قد تطول وتطول، كما أنها لا تسوغ تحمل فرنسا لأعباء اقتصادية ثقيلة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، تعيشها منطقة اليورو والغرب عموما، لذا لا بد من التنقيب عن الأسباب الحقيقية والدوافع العميقة، التي دفعت بفرنسا إلي الدخول في مغامرة عسكرية، قد تدفع بها إلي الغوص في رمال”أزواد” وقد لا تخرج منها بسلام، خاصة أنها تواجه جماعات خبرتها في العراق وفي أفغانستان وأعلنت عدم رغبتها في الإستمرار في مواجهتها، تقليلا من خسائرها الباهظة وإدراكا منها لحقيقة المستنقع الذي لا سبيل للخروج منه بشكل مشرف- ولو بعشر انتصار- بل إنها وقتها قد انتقدت الإصرار الأمريكي علي القتال، وأعلنت عن قرارها ذاك بسحب جنودها من المواجهات الدائرة في تلك الساحات.
فما هي الحكاية إذن؟
لا يمكن فهم الحملة الفرنسية هذه، إلا من خلال الرغبة العميقة في السيطرة علي خيرات إقليم أزواد وتأمين مناجم اليورانيوم في النيجر والتي واجهت تهديدات جدية في السابق من طرف هذه الجماعات، ومن أجل تأمين مصالحها النفطية والغازية في كل من الجزائر وليبيا.. إقليم تؤكد جهات كثيرة علي توفره علي البترول بكميات كبيرة وعلي معادن عدة من بينها اليورانيوم، المهم للمفاعلات النووية الفرنسية والتي تستمد نصف حاجياتها من منجم اليورانيوم بالنيجر المجاورة لأزواد والتي يشكل جزؤها المعدني المهم، امتدادا جغرافيا وبشريا متجانسا مع ساكنة إقليم ” أزواد”، ويتأكد هذا الخيار عندما نعرف الدور المحوري ل”الأخوات السبع”(شركات نفطية كبري) والتي تشكل مصالحها البوصلة الحقيقية لدول الغرب- إن لم نقل للعالم بأسره- هذا فضلا عن المكاسب الإستراتيجية التي ستجنيها بفضل السيطرة علي موارد الإقليم، الموجود علي تماس جغرافي أيضا مع الجزء الغربي من حوض تاودني، التابع لموريتانيا والذي تنقب فيه وتحفر اليوم شركة توتال الفرنسية، بحثا عن البترول، الذي توجد دلائل تؤكد علي أنه موجود هناك بكميات كبيرة.. كما ان هذا الإقليم أيضا هو علي تماس مع الجزائر وليبيا، المهددتين اليوم أكثر من أي وقت مضي بالتمزق والتقسيم.. فضلا عن الوضع الهش في الجزء الجنوبي من مالي نفسها وفي جارتها الشرقية:النيجر المهددة بتمرد مماثل، تحكمه نفس الظروف والأسباب التي يعاني منها سكان أزواد، (هاتين المنطقتين التين تتشابه تركبتهم السكانية ويتميزون كذلك بالتواصل الجغرافي بين الأقليتين: التارغية والعربية، واللتان تعيشان وضعا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مماثلا، وشهدت مناطقهما حالات تمرد علي الدولة المركزية في السابق).
إن هذا الفضاء الجغرافي الغني بموارده والذي غابت عنه الدولة المالية وتركته يعيش ضمن منطقة صحراوية وعرة وخالية من السكان، يحكمه الفراغ في كل شيء- بفعل الإهمال التام ولا مسؤولية الأنظمة المالية المتعاقبة- قد أصبح اليوم بحاجة إلي قوة ” مسؤولة” تملؤه وتديره بحكمة- بعد سيطرة هذه الجماعات المسلحة عليه، وبعد أن دخل من الباب الواسع في اللعبة الدولية- حتي لا ينفجر في وجه الجميع وتصيب شظاياه البعيد قبل القريب.
وتتأكد ضرورات الحل عندما ندرك خطورة السيطرة الأحادية عليه من قبل جماعات لا تقيم للقانون الدولي أي اعتبار ولا تلتزم بضرورات المصالح الأمنية لدول الجوار والعالم، لذا لا بد من إيجاد حل مقبول لساكنة الإقليم أولا وللجزء الجنوبي من مالي ثانيا ولدول الجوار ثالثا، وللعالم رابعا، لكن المشكلة المطروحة، هي: عن أي حل نتحدث؟
1- هل هو الحل الذي يستوجب إرجاع الإقليم بقوة السلاح للحضن المالي الخشن، والذي ظلم وقتل وشرد ونكل بساكنته وتنكر لجميع اتفاقياته السابقة معهم وأهمله وتركه نهبا لعصابات الجريمة المنظمة وللقاعدة؟
2- أم أن هناك صيغة أخري أداتها التفاوض، تحول دون الإنفصال التام عن الدولة المالية وتضمن كرامة سكان الإقليم، وما هي تلك الصيغة؟
أسئلة لم تقدم فرنسا حولها أي جواب- ويحتمل أن تكون قد أخفت رؤيتها لمستقبل الإقليم والمنطقة عن الجميع، لأنه من المنطقي أن تكون علي دراية عميقة بأن أي طرف من الأطراف المتصارعة اليوم لن يرضي عنها إلا بعد الإنهاك الشديد (حكومة بامكو وسكان الإقليم)..وقبل ذلك فإنها لا تستطيع أن تقدم لهم حقيقة ما تبيته للإقليم والمنطقة، لذا ليس لها من جواب علي أزمة طاحنة- هي من صنعها- سوي صوت المدافع وأزيز الطائرات ودوي انفجارات الصواريخ.
فهذه المنطقة هي من منظور فرنسا، مجرد جزء من العالم كان ولازال وسيظل يمثل حصتها من ثروات الشعوب الضعيفة.. إنها ببساطة إحدى مستعمراتها السابقة، وبالتالي فليس من حق هذه المنطقة أن ترفع رأسها وتتصرف خارج دائرة الإملاآت التي تفرض عليها.
وأمام واقع كهذا الذي ينذر بالنهاية المحتملة للنفوذ الفرنسي في منطقة كهذه، كان لا بد للفرنسيين من عمل يماثل هذا الذي تعيشه مالي اليوم، لاسترجاعها لنفوذها المتضعضع.. ولا يهم بعد ذلك تحديد السبب ولا المسبب، المهم أن تعود فرنسا إلي عرينها وتضمن شركاتها مصالحها وأن تطمئن القيادة السياسية في باريس علي ضمان استحواذها علي ثروات الإقليم والمنطقة بأسرها.
إنها المصالح الفرنسية، التي تتصف بقدسية، تسمو فوق جميع مقدسات دول العالم الثالث، لذا يجب إخضاع الأزواديين والاستحواذ علي خيراتهم، حتى ولو تطلب ذلك رميهم في البحر أو ضربهم بالصواريخ من الجو وقصفهم بالمدافع من البر والإستعانة بالمليشيات الإفريقية والجيوش التابعة، وهي خطوة ستذكر المستعمرات الفرنسية السابقة بمرحلة “الرماة السنغاليين”، والتي لا زالت حية في الذاكرة الجمعية لشعوب الدول المجاورة للإقليم.
إن هذه اللعبة الفرنسية، التي تسترت تحت مظاهر وأبعاد متعددة، قد يكون من بينها السماح لهذه الجماعات أن تتجمع بالإقليم لحاجة في نفس الدوائر الفرنسية– وهو ما يفسر سلوك النظام المالي المطاح به اتجاه هذه الجماعة والمتسم باللامبالاة- بل والتواطؤ- والذي لا يستطيع رئيسه أن يحلق ذقنه دون موافقة ومباركة فرنسا، فكيف نبرر السماح بالتجمع والسيطرة لقوة يفترض أن الغرب مجتمعا يجيش الجيوش لتدميرها ويحذر العالم من مخاطرها، كيف تبرر فرنسا للعالم تركها للقاعدة تصول وتجول في الإقليم دون حسيب أو رقيب؟ وبأي مسوغ تقبل بوضع كهذا وهي الدولة العضو في مجلس الأمن والمعنية بترتيب خيوط اللعبة الدولية؟..ينضاف إلي ذلك أنه لا يستبعد أيضا أن تكون هي من رتب للإنقلاب الأخير في مالي لخلق ظروف كالتي تعيشها مالي اليوم، رغبة منها في أن تنضج الثمرة ويسهل الحصاد.
إنها احتمالات تعززها القرائن التالية:
الأولي: تصريح رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية، الذي يتهم هولاند وساركوزي من قبله بتسليح هذه الجماعات المقاتلة بأزواد بالعتاد الثقيل.
والثانية: بلطجية زعيم الإنقلاب في مالي:(النقيب آمدو سونوغو) الذي وصل تحديه للجميع إلي حد ضربه لرئيس الدولة المالية بواسطة غوغاء أرسلهم إليه وأشبعوه ضربا داخل قصره ونفس الشيء بالنسبة لرئيس وزرائه الذي اعتقله هذا الإنقلابي أيضا وضربه وأجبره علي الإستقالة وعين بدلا منه رئيس وزراء موال له، دون أن يقابل هذا السلوك بموقف حازم من فرنسا: السيدة الحقيقية في مالي.
الثالثة: سعي فرنسا الدائم للزج بدول جوار الإقليم وخاصة موريتانيا والجزائر اللتين ترتبطان بعلاقات عرقية واجتماعية مع ساكنته وتمثلان في نفس الوقت فضاء حاضنا لسكانه ويمكن أن تتحولا في يوم من الايام إلى سند داعم لهم ضد فرنسا- بفعل هذا الترابط العرقي والثقافي- الشىء الذي يفسر سعي فرنسا الحثيث لاستدراجهما ما دام قد تعذر إقناعهما بالدخول في هذه الحرب، أسوة بدول “الأكواس”.
من هنا يمكن فهم قيام فرنسا بفضح سماح الجزائر لها بمرور طيرانها العسكري المشارك في الحرب علي أزواد فوق أراضيها.. وهو إعلان لا يمكن فهمه خارج سياق توريط الجزائر في الحرب وإظهارها بمظهر الغارق فيها اضطرارا من تحت الطاولة.. إعلان برر به المختطفون عملية ” عين أمناس” الدامية والتي سعى المختطفون من خلالها إلي توجيه رسائل عملية، لعدة جهات متورطة في الحرب وأخري محتملة، كما أنها خلطت بها الكثير من الأوراق في الجزائر نفسها وأوجدت متاعب إضافية للنظام الجزائري وصلت حد مطالبة البعض بإسقاط هذا النظام الذي قبل بوضع يده في يد فرنسا التي فعلت الأفاعيل بالشعب الجزائري في السابق ورفض رئسها مؤخرا مجرد الإعتذار للجزائريين، ليفاجأوا بأن نظامهم يكافئه بتقديم تسهيلات عسكرية، تهدف إلي ضرب إخوة أشقاء وجار، تربطهم بالجزائر أقوي الروابط وأعمق الصلات.
أما بالنسبة لموريتانيا، فهي الأخري واجهت نفس التصريحات التي تسعي لتوريطها وكانت قد تؤدي إلي تفجير الوضع بها ونسف استقرارها، بل إنها- لوصدقت – تمثل أكبر تهديد للنظام الحاكم، الذي لن يكون سعيدا بهذه التسريبات.
إنها أمثلة قد تعكس جوانب من المشروع الفرنسي، الذي يهدف إلي السيطرة علي مقدرات وقرار دول المنطقة، ليضمن للاقتصاد الفرنسي ديمومة الإزدهار ولتجنيب شعب هذه الدولة الإستعمارية كوارث الأزمات الإقتصادية التي تعصف الآن بمنطقة اليورو.. خيار لا يمكن تحقيقه علي أرض الواقع، إلا من خلال وجود حلفاء تابعين وخانعين في الحاضر والمستقبل، وهو ما يمثل فرصة لأن تنجو فرنسا من مستقبل اقتصادي قاتم، قد تكون نسيته منذ أن نعمت بخيرات الشعوب الضعيفة، التي افترستها ونهبت خيراتها ومزقت وحدة كياناتها، وحتي لا تنعم هذه الشعوب بأي مستوي من الكرامة، التي تري أنها نبتة لا تستحق أن تغرس إلا في الأرض الفرنسية، وتماثلها مفردات مثل: الحرية ورغد العيش والإستقلال.
أما الشعوب الأخري التي كانت يوما ما مستعمرة لها، فعليها أن تعيش همومها لوحدها.. وإذا تجرأت ورفعت رأسها، فإن طائرات الجاكوار ورافال وميراج هي لها بالمرصاد.
واقع يؤكد أن إغراءات ووعود فرنسا، هي مجرد سراب بقيعة، أما صداقتها، فهي دونية والسير وفقا لتعليماتها،مدعاة للإفقار وضياع للهوية وضمانة أكيدة للتخلف الأبدي.
إن علي فرنسا أن تدرك أن شعوب المنطقة قد وصلت إلي مرحلة النضج وصارت مستعدة لدفع جميع الأثمان، لذا ليس أمام المراقب الفطن، سوي التدقيق في فحوي الأهداف الفرنسية من شن حرب شاملة داخل أدغال إفريقيا، والزج فيها بشبابها واستعدادها لتتحمل من أجلها فاتورة اقتصادية باهظة، قد تثقل كاهلها.
أما الفرنسيون فعليهم أن يتساءلوا عن الثمن الباهظ المفترض أن تدفعه بلادهم خلال هذه الحرب وبعدها، وهل ستربح الحرب؟ أم أنها قد تخسرها وتخسر بسببها نفوذها وإرثها الإستعماري بالمنطقة؟
كلفة الحرب الباهظة واحتمالات الربح والخسارة
يمكننا القول إن هذه المسوغات والدوافع المصلحية، ستضع فرنسا في موقف لا تحسد عليه، ذلك أنها دخلت في حرب هي من حيث توقيتها خطأ وفي مكانها الخطأ أيضا.
فمنطقة شمال إفريقيا وامتداداتها في الصحراء الكبري، تعيش اليوم حالة من هشاشة في الأنظمة ومن توثب لشعوبها الثائرة- والتي ترفض واقعها الإقتصادي والسياسي والإجتماعي الذي تعيشه، بفعل تأثير الربيع العربي وبسبب فشل الأنظمة التي حكمتها وتحكمها- لذا أسقطت بعض أنظمتها ولا زال البعض الآخر مهددا بالترحيل من طرف شريحة لا يستهان بها من هذه الشعوب، وهو ما يوفرللجماعات الجهادية اليوم البئة الحاضنة لدعايتها وستوفر هذه الحرب لها فرصا لتجنيد أكبر عدد ممكن من الشباب وستزداد جاذبيتها وقدرتها علي التجنيد هذه المرة، لأن المواجهة، هي:مع “جيش صليبي” ولم تعد مع وكلاء الغرب في المنطقة- كما هي الدعاية التقليدية للقاعدة وأنصارها.
ويمكن إجمال هذه التداعيات السلبية بالنسبة لفرنسا في النقاط التالية:
1- ستقدم فرنسا نفسها لسكان المنطقة، علي أنها تساند الزنوج وتعمل علي إبادة الطوارق والعرب وستفاقم الذاكرة الإستعمارية من وضعها، بحيث سيحملها سكان أزواد وزر ما حل بهم بعد دمجها لهم بالقوة داخل دولة مالي.. وسيربطون بين هذا الماضي وبين الحكومات المالية، التي ظلمتهم وبطشت بهم وأعدمت أبناءهم وهمشتهم، منذ أن أصبحوا جزءا من دولتها.. وقد يتذكر الجزائريون ثأرهم مع فرنسا والموريتانيون ما حل بهم خلال الماضي الإستعماري وانحياز فرنسا للسنغال، خلال أحداث 1989 التي جرت بينها وبين السنغال، تلك الأحداث التي تم طبخها علي نار هادئة في باريس قبل أن يتم إخراجها وتطبيقها علي أرض الواقع بتخطيط ودعم فرنسيين علي حساب موريتانيا وشعبها.
2- كما أنها ستنزف دما والضحايا هذه المرة: هم فرنسيون أصيلون وليسوا مرتزقة أو متجنسين وقد يتعرض أمنها لهزات قوية من طرف عناصر متعاطفة مع القاعدة- خاصة وأن أحد مختطفي الأجانب في “عين آمناس”بالجزائر، قيل إنه فرنسي أصيل، اعتنق الإسلام وانخرط في الجماعات المسلحة.
3- ستطول فترة الحرب، وهو ما سيشكل نزيفا اقتصاديا ومعنويا، قد لا يكون الرئيس فرانسوا هولاند بقادر علي تحمل تبعاته، خاصة وأنه ما فتئ يسمع الفرنسيين والعالم بأن عهد الإستعمار قد ولي وأنه قد تمت القطيعة النهائية مع فرانس- آفريك وإرثها سيئ الصيت.
4- قد لا تكون الخمسة آلاف جندي إفريقي ونصفها الفرنسي- والتي يعول عليها في معارك صحراء أزواد وتأمين بامكو نفسها- بقادرة علي حسم المعركة لجهل معظم هؤلاء الجنود بالصحراء ولكون الأفارقة منهم بالخصوص أحوج ما يكونوا إلي”فاعل خير”، يمدهم بالسلاح واللباس والغذاء والدواء، ولضعف روحهم القتالية المحتملة جدا، أكثر من كونهم “جيوشا بواسل”، يعول عليها عند الملمات.
5- الموقف الرافض للحرب علي إقليم أزواد، بالنسبة لكل من موريتانيا والجزائر وتفضيل الحوار، بديلا عنها، استنادا إلي مبادرة أنصار الدين التي طالبت خلالها بحكم ذاتي موسع تحكم خلاله الشريعة الإسلامية في الإقليم، موقف من هاتين الدولتين، يستند علي تعاطف شعبيهما مع ساكنة الإقليم والذين يتمتعان بذاكرة حية، لا زالت تحتفظ بمرارات وآلام المرحلة الإستعمارية، وهو ما سيخلق صعوبات جدية أمام فرنسا وحلمها في السيطرة علي ثروات الإقليم، بل والمنطقة بشكل عام، وسيخلق بئة معادية لهذا الوجود الغربي المباشر، الذي يستحيل أن يرحب به بالنسبة لسكان هاتين الدولتين علي الأقل.
6- قد يستفز هذا الوجود- وسعي فرنسا من ورائه للهيمنة علي الثروات التي يختزنها الإقليم- القوى الدولية الأخرى ذات الإهتمام والمصالح المشابهة، التي قد تدفع بالأمور إلي مستوي تتكبد خلاله فرنسا خسائر فادحة وتحميلها لأعباء اقتصادية قد لا تستطيع تحملها، لذا فإن هذه الحملة الفرنسية قد تشكل بداية النهاية للنفوذ الفرنسي وللمكانة الفرنسية في هذه المنطقة من العالم.
7- إظهار فرنسا لنفسها بمظهر” الشحات أوالمتسول”، الذي يستجدي دول الخليج- التي تجاهر بعدائها الشديد للربيع العربي- كي تمنحها مساعدة مالية تعينها علي أعباء حربها في مالي وهو ما قد يلقى بظلاله علي المزاج الشعبي بالمنطقة ويظهر فرنسا بصورة باهتة، قد تزيد من ثقة مقاتلي الجماعات الإسلامية المسلحة بحتمية انتصارهم وسيعزز دعايتهم ويزيد من جاذبيتهم.
8- احتمال تفجير المنطقة والدفع بدول جوار مالي إلي حالة من عدم الإستقرار، قد تقضي علي وحدتها واستقرارها منفردة أو مجتمعة، وهو ما سيخلق بئة يستحيل علي فرنسا البقاء فيها ولو ليوم واحد.
حقيقة قد تؤدي بفرنسا إلي موقع متأخر، ضمن الدول ذات المكانة العالمية وقد تشكل حربها هذه، مقدمة لإنهاء مكانتها الدولية، مثل ما حصل في السابق لابريطانيا بعد حرب قناة السويس وللولايات المتحدة الأمريكية، بعد شنها لحربي العراق وأفغانستان، حيث بدأت كل واحدة منهما بالتراجع عن زعامة العالم وذلك بعد هذه الحروب الثلاثة، التي حصلت جميعها فوق أرض عربية و إسلامية.
فهذه الحرب التي تخوضها فرنسا وحلفاؤها الأفارقة اليوم داخل إقليم أزواد، ستشكل بداية النهاية للنفوذ الفرنسي في دول شمال إفريقيا وامتداداتها في الصحراء الكبري وقد تمتد خسارتها، لتشمل بقية مستعمراتها في إفريقيا.. وضع قد لا يظهر للعيان خلال يوم أو يومين، لكنه حتمي الحدوث ويؤكده منطق الأشياء، وسيؤكد أن “فيلة إفريقيا المتوحشة”، أكثر بسالة وعنفوانا من” قطة فرنسا المتوحشة”، التي جعلتها عنوانا لمعركتها الحالية في أزواد.. وهو اختيار قد يتشاءم منه المتطيرون، عندما يختار الطرف الأقوي أن يظهر بمظهر “قط” في مواجهة مع منطقة، هي وطن للفيلة وللنمور والأسود والتي قد تلتهم قطة فرنسا المتوحشة هذه، ليصحصح الحق وتبطل جميع أضاليلها التي سفكت بموجبها دماء أبناء المنطقة بغزارة ومزقت خريطتها وفرقت شمل شعوبها ورعت فتنة بين مناطق تماس جيرتها العربية والإفريقية، امتدت من السنغال غربا حتى السودان شرقا.. فرنسا التي تختزن ذاكرة المسلمين عداءها الشديد لهم عبر التاريخ البعيد والقريب والتي تعود اليوم لتكرر أفاعيلها السابقة، لكنها ستجد نفسها اليوم أمام حقيقة مرة ستدفع بها إلي التقهقر المذل.. لتدرك متأخرة أن سياستها الإستعمارية قد حولتها- في نظر شعوب المنطقة- إلي عجوز شمطاء ودمية يسهل علي بواسل المنطقة اللعب بها فوق الرمال المتحركة وداخل الفيافي المقفرة والموحشة.