خرج المتظاهرون في شوارع العالم الإسلامي محتجين وحق لهم الاحتجاج على الفيلم المسيء، شأنهم شأن الجموع المسيحية التي احتجت في الغرب العلماني ضد فيلم “رغبة المسيح الأخيرة” الذي صدر عام 1998. الاحتجاج السلمي موقف تعبيري لا غبار عليه، إنما المشكل كله في صورة تروجها في أيامنا بعض الأدبيات ووسائل الإعلام واسعة الانتشار مفادها أن الفيلم التافه الأخير ورسوم الكاريكاتور المستهجنة تعبر عن جوهر الرؤية الغربية للإسلام ولنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. برزت هذه الصورة مبكراً في الخطاب الإسلامي المعاصر، خصوصاً في المدرسة القطبية التي روجت أطروحة “التنوير اليهودي” وماسونية الثورة الفرنسية و”اليهود الثلاثة” المؤسسون للفكر الغربي المعاصر (ماركس وفرويد ودوركايم)، بل إن نسخة خفيفة من هذا التصور انتشرت في الأدبيات اليسارية استندت على بعض آراء المفكر الفلسطيني- الأميركي “إدوارد سعيد” في نقده للمركزية الغربية. بيد أن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الإسلام اكتسب منذ عصر التنوير الأوروبي صورة إيجابية جلية في قطيعة كاملة مع الأدبيات الوسيطة المتأثرة بأجواء الحروب الصليبية. هكذا تحولت الاتهامات التي كانت توجه للإسلام (الإباحية وبساطة العقيدة والتساهل في الممارسة) إلى عناصر مشرقة من نموذج بديل للتقليد المسيحي المتسم بالتعصب والانغلاق ونبذ الحياة. وإذا كنا لا نجد نصوصاً صريحة حول الإسلام في نصوص رواد الحداثة الأوروبية باستثناء شذرات في كتابات “ليبنتز” حول النزعة الجبرية مع إشادة بالعقلانية الاعتزالية، فإن الدراسات المتخصصة الدقيقة ومن آخرها وأكثرها رصانة أعمال “مروان راشد” تبين بالدليل القوي علاقة فكر الحداثة بالمناخ العلمي والفكري الإسلامي الوسيط (اتهم سبينوزا من معاصريه وقرائه بالتأثر بالتراث الشرقي الإسلامي، وقد تأكد أنه كانت لديه نسخة من القرآن الكريم، وبعض الترجمات العبرية للكتابات الإسلامية). أما فلاسفة الأنوار الذين صاغوا فكرياً وإيديولوجياً نظم المجتمعات الأوروبية المعاصرة وبلوروا مشاريع الثورات السياسية والدستورية الكبرى، التي غيرت وجه الغرب الراهن فهم في مجملهم متعاطفون مع الإسلام، منبهرون بشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مما هو منتشر وصريح في نصوصهم. فإذا كانت الثورة الفرنسية، هي الحدث المؤسس للعصر الديمقراطي الحديث قامت على أفكار “فولتير” و”روسو” كما هو مقرر لدى جميع مؤرخي فكر الأنوار (بل كما هو محفوظ من أناشيد ثوار الباستيل أنفسهم)، فإن هذين المفكرين أشادوا بوضوح لا لبس فيه بالإسلام ومدحوا رسوله الكريم ونوهوا بخصاله الحميدة وشمائله الزكية. ففولتير الذي نشر عام 1742 مسرحيته الهزلية “محمد أو التعصب” راجع جذرياً في أعماله اللاحقة آراءه المناوئة للإسلام، ووجه انتقاداته الجذرية للمسيحية متهماً إياها بالتعصب والعنف والدموية (رسالته للملك فرديرك في 5-1-1767)، مشيداً بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابه “رسالة في الأخلاق”. وصف “فولتير” الإسلام بالحكمة والصرامة والعفة والإنسانية، ونوه بشرائعه من نفي للشرك وتحريم الخمر والميسر، وإعانة الفقراء، قائلاً بالخصوص عن الرسول الكريم: “لقد كان بكل تأكيد رجلاً عظيماً جداً ربى رجالًا عظاماً، اضطلع بأكبر دور يمكن أن يؤديه إنسان على الأرض في أعين عموم البشر”. أما “روسو” فقد كتب بوضوح في كتابه المحوري “في العقد الاجتماعي”(الفصل الرابع حول الديانة المدنية) مقارناً بين صراع الشرعية في التقليد المسيحي(بين الدولة والكنيسة) والتجربة الإسلامية التي نوه بها قائلًا بخصوص النبي صلى الله عليه وسلم:”لقد كانت لمحمد آراء جد سليمة. لقد شد وثاق نظامه السياسي بحيث يستمر شكل حكومته لدى خلفائه الذين تلوه.وقد كانت هذه الحكومة موحدة وجيدة لذلك، إلا أن العرب وقد أصبحوا مرفهين ومتعلمين ومسيسين، مائعين وجبناء، انهزموا أمام البرابرة، فرجعت عندئذ القسمة بين السلطتين”. وها هو “هيغل” يتهم فلسفة كانط الأخلاقية بالتأثر بالعقيدة الإسلامية (فكرة الضمير وصرامة الدافع)، ويقف بنفسه في “دروسه في فلسفة التاريخ” عند النزعة التجريدية في التوحيد الإسلامي حيث تنمحي الفوارق العرقية والطبقية والقبلية، معتبراً أن المسيحيين انتهوا إلى اكتشاف الحرية عبر “اللقاء مع فرسان الشرق”. وتظل الصورة نقية في أدبيات القرن التاسع عشر، مكتفين هنا بالإشارة إلى ثلاثة من أهم مفكري وأدباء هذه المرحلة. فهذا الفيلسوف الألماني “نتشه”في كتابه “المسيح الدجال”، يتهم المسيحية بأنها حرمت أوروبا من “حصاد الثقافة الإسلامية وحضارة الأندلس الرائعة”، التي تعلي النوازع الحيوية الرفيعة وقيم الفحولة :”لقد حارب الصليبيون شيئاً كان من المفترض أن ينحنوا له في الرغام” . أما الشاعر الألماني الكبير “جوته” فقد كتب حول القرآن الكريم: “إنه كتاب خالد دون أدنى شك، إنه كتاب الكتب، وإني لمؤمن بما فيه أكثر من المسلمين أنفسهم”. وقد اعتبر “جوته” أن العالم الحديث يقترب شيئاً فشيئاً من القرآن الكريم، وأن هذا الكتاب سيواصل تأثيره القوي في العصور القادمة”(الديوان 1819). أما النموذج الثالث، الذي نختم به، فهو الشاعر والأديب الفرنسي الكبير “لامارتين” الذي كتب في رسول الإسلام من المدح ما يوازي قصائد البوصيري والبرعي. يقول في نص شاعري جميل من كتابه”تاريخ تركيا”(1854) متحدثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم :”إنه الحكيم، خطيب جوامع الكلم، الداعي إلى الله بإذنه، سراج التشريع. إنه المجاهد، فاتح أبواب الفكر، باني صرح عقيدة قوامها العقل، وطريق عبادة مجردة من الصور والأشكال، مؤسس عشرين دولة ثابتة على الأرض، ودعائم دولة روحية فرعها في السماء. هذا هو محمد، فبكل المقاييس التي نزن بها عظمة الإنسان، فمن ذا الذي يكون أعظم منه؟”. أوردنا هنا باختصار شهادات لأبرز فلاسفة عصر الأنوار والعصر الرومانسي الذي تلاه، ولا تقابلها أي شهادة مغايرة من مفكرين وأدباء في المستوى نفسه، مما يفند الأطروحة الشائعة حول الغرب المعادي للإسلام. بقي الحديث عن صورة الإسلام في الفكر الغربي الراهن في ما وراء الأدبيات والمشاهد الاستعراضية العابرة