1- الرجل الخفي الذي يحكم مصر
يلعب جهاز المخابرات العامة في مصر دور الحاكم الخفي الذي يتحكم في كل شيء لا تعزب عن علمه مثقال ذرة من تفاصيل حياة المواطنين ولا يترك شاذة ولا فاذة، ولا شاردة ولا واردة في الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية للبلد إلا وتدخل فيها، بيده مقاليد السلطة يعز بها قوما، ويذل بها آخرين، لا حدود لقوته وبطشه، يعتقل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويحقق مع من يشاء، “حتى يتفجر منه الدم والأجوبة ” كما يقول الشاعر “أمل دنقل”.
في مسرحية “الزعيم” بطولة “عادل إمام”، إخراج “شريف عرفة”، يلعب الممثل القدير مصطفي متولي دور رئيس جهاز المخابرات العامة، الذي يراقب الرئيس ويتجسس عليه حتى داخل غرفة نومه. ظِلُّ الجهازِ المخيف الذي ترتعد منه فرائص الشجعان، وتشيب من هوله الولدان، حاضر بقوة في ثنايا كل فصول المسرحية. سكرتيرات القصر هم حسناوات زرعهم الجهاز، وزراء الحكومة هم “عملاء” يتجسسون على الرئيس و يقدمون تقاريرهم للجهاز، الرئيس نفسه، مخبر يعمل لصالح الجهاز، ويقدم التقارير عن نفسه .!
في رواية “عمارة يعقوبيان” للكاتب المصري “علاء الأسواني” يظهر مدير المخابرات العامة في صورة ” الكبير” ( BIG) وهو مخلوق خفي، لم يره أحد، لا رسم له ولا وسم، يسوق المواطنين سوقا عبثيا إلى مصائر متناقضة، المتدين إلى أماكن اللهو والرقص في شارع الهرم، والعربيد إلي ساحات الجهاد والعمليات الإستشهادي . كما يتحكم الـ ” BIG” في نتائج صناديق الإقتراع ، واختيار أعضاء مجلس الشعب، هذا فضلا عن سوق المخدرات، وتجارة الرقيق الأبيض.!
ليس غريبا إذن أن تضج الساحة السياسية المصرية احتجاجا علي ترشح عمر سليمان، وأن ترتعد فرائص المصريين فزعا علي ثورتهم وهم يشاهدون “الرجل الخفي” في نظام مبارك – والذي كان هو الحاكم الفعلي- يقدم أوراقه للترشح للإنتخابات الرئاسية بكل هدوء وثقة بالنفس، وقد أغضب هذا الترشح من بين من أغضبهم -وهم كثر- الكاتب المصري فهمي هويدي، فكتب مقالا في صحيفة “الشروق” تحت عنوان “إهانة للثورة” تساءل فيه كيف أمكن لعمر سليمان الذي كان أخطر أعمدة النظام السابق و الذي كان من المفروض أن يكون نزيل سجن “مزرعة طرة ” صحبة “حبيب العادلي” و” جمال مبارك” و” صفوت الشريف” وغيرهم من مجرمي النظام القديم- ، أن يكون منافسا علي منصب الرئاسة المصرية؟ وكيف أمكن له أن يستغبي الجميع ويبتعد عن الأضواء حتى تنضج ظروف عودته إلي السلطة؟ وربط بين إعلان هذا الترشح وبين مجموعة التداعيات التي مهدت له والتي تعصف بالحياة السياسية المصرية مثل الإنفلات الأمني، وتدهور الأوضاع الإقتصادية في البلد، واستنزاف الرصيد الإحتياطي النقدي، واستمرار تراجع البرصة، و تدهور السياحة، واتساع الفجوة بين التيار الإسلامي والأحزاب المدنية علي خلفية تكوين لجنة صياغة الدستور، وعجز حكومة الجنزوري ..و صراع الإخوان والجيش ، وترشيح خيرت الشاطر.. وختم بأن عمر سليمان يريد أن يستغل هذه الظروف كلها ليظهر في صورة “المنقذ “.. وختم قائلا : “كيف السبيل إلي إنقاذنا من هذا ” المنقذ المنتظر “؟”
وقد خلص الكثير من كتاب الرأي الذين طرقوا موضوع ترشح عمر سليمان إلي النتائج التالية : أولا أن النظام القديم لم يتم القضاء عليه، ثانيا أنه لم يرفع الراية البيضاء وأنه يقاوم ليعود، ثالثا أنه يدفع برموزه إلي الواجهة ثقة منه بنفسه (أحمد شفيق – عمرو موسي – عمر سليمان)، رابعا – وهنا الكارثة الكبري – أنه يمكن أن يعود بفعل صناديق الإقتراع ، أقوي وأصلب مما كان! خامسا أن هذه العودة راجحة إذا كان المجلس العسكري يقف وراء سليمان ويدعمه.
الصحافة الإسرائيلية هللت ورحبت -كما كان متوقعا- بترشيح عمر سليمان وأفسحت صحيفة “هارتس” أحد أعمدتها الرئيسية لسفير إسرائيل السابق في مصر ” تسيفي مزال “، فكتب مقالا امتدح فيه شخصية عمر سليمان وأشاد بخصاله الحميدة، ومواقفه النبيلة اتجاه إسرائيل، وذكَّر علاقاته الحميمة مع الولايات المتحدة ، واعتبره رجل ثقة يمكن الإعتماد عليه في مواجهة الإسلاميين وصد نفوذهم، وأكد أن الجيش هو الذي دفع بعمر سليمان للواجهة، وأن قادة العسكر اجتمعوا برئيس المخابرات السابق و قالوا له بما يشبه الأمر العسكري “أنت ملزم بالتنافس .. وإلا فإن مصر ستسقط بين براثن الإسلاميين .. وأنت الوحيد الذي يمكن أن ينقذ مصر “!.
وبمناسبة ترشح عمر سليمان سلطت صحيفة “أيدعوت أحرنوت” الإسرائيلية الضوء على “الرجل الخفي” الجديد الذي خلف عمر سليمان، والذي يتربع اليوم علي كرسي المخابرات العامة المصرية، و يدير مصر من وراء الستار.
بدأ التقرير بوصف حالة الجندي جلعاد شاليط الذي أصبح نجما عالميا يطوف أنحاء العالم و يلتقط الصور التذكارية مع مشاهيره، وكان آخرهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ويعود الفضل في نجومية شاليط إلي المقاومة الفلسطينية التي اعتقلته عدة سنوات، في حين يعود الفضل في تحرره من الأسر إلي رجل يعيش في الخفاء بعيدا عن الأضواء ، يمسك بكثير من خيوط اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، ويتحكم فيها ببراعة وإتقان، يطلق عليه اسم “مراد موافي”.
ويقول التقرير إن “مراد موافي” هو الذي يدير مصر اليوم ، فهو المسؤول عن الأمن الداخلي، وتخضع له رقاب كل الأجهزة الأمنية في مصر ، ويراقب بدقة ساحة التحرير ، ويدير عمليات التفاوض مع جميع الأحزاب والقوي السياسية المصرية، إبتداء بالإخوان وانتهاء بشباب الثورة، وهو المسؤول عن ملفات السياسة الخارجية بأجمعها مثل ملف توحيد الفصائل الفلسطينية وعملية التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلاقات مصر مع كل من آمريكا وإسرائيل وتركيا وسوريا وإيران والسعودية ، ويقدم تقاريره في كل هذه الموضوعات مباشرة إلي المشير الطنطاوي.
ولا يعرف الكثير عن هذا الرجل ، ومن النادر مشاهدة صورة له في القنوات التلفزيونية وإن كان بعض الهواة قد نجحوا في بث لقطات له علي ” اليوتيوب ” .
والمعلومات الشحيحة عنه تقول إنه ولد سنة 1950 وأنهي دراسته بالكلية الحربية في عام 1970، الدفعة 57، و خدم في حرب أكتوبر 1973 في وحدة الكوماندوز، حيث كان وقتها برتبة ملازم، ومن وقتها تولي عدة مناصب بالجيش المصري، حتي وصل إلي منصب قائد الجيش الثاني الميداني، وهي وحدة الجيش الأقوي علي الإطلاق، ثم تولي منصب قائد المنطقة الغربية، بعدها تولي منصب نائب رئيس المخابرات العسكرية ثم أصبح رئيسا لها، وأشار التقرير إلي أن الخلفية العسكرية لموافي أفادته كثيرا وأهلته ليقوم بدور سياسي، حيث تولي في عام 2010 في عهد “مبارك” منصب محافظ شمال سيناء، المحافظة الأكثر حساسية من الناحية الإستراتيجية، وحاول “موافي ” من خلال توليه هذا المنصب تحسين الأوضاع الأمنية بمنطقة شمال سيناء، لكن تم انتقاده كثيرا بعدما وصف القبائل البدوية “بالمجرمين”، الذين يتربحون من التهريب إلي قطاع غزة، موضحا انه إذا لم يتم معاقبة كل شخص يتعدي علي القانون سوف يستمر البدو في جرائمهم.
وفي يناير 2011 سنحت “لموافي” فرصة عمره، ففي أثناء ثورة 25 يناير حاول مبارك تهدئة الثوار المصريين بتعيين عمر سليمان رئيس المخابرات السابق نائبا له، وهي الخطوة التي أحدثت فجوة في منصب رئيس المخابرات العامة، فطلب مبارك من” موافي ” تولي المنصب.
2- في نقد الثورة السورية : الحقيقة أكبر خُلُق ثوري
دخلت الثورة السورية عامها الثاني، ولم تثمر للشعب السوري إلا المزيد من الخراب والدمار، الأخوة يتقاتلون، الدماء تسيل بغزارة، اللُّحمة الوطنية تتآكل، الإقتصاد الوطني يتهاوي، الحراك السلمي تحول إلي عسكرة، الإنتفاضة الشعبية أصبحت حربا طائفية، القوي السياسية أصبحت مرتهنة لأجندات الخارج، الشارع الشعبي أصبح يتحرك علي وتيرة القنوات الفضائية، لم يسقط النظام، ولكن سوريا كلها دولة ونظاما وشعبا أمست علي شفا السقوط.
إذا كانت أهداف الإنتفاضة هو إضعاف سوريا، وتغييبها عن الساحة العربية والدولية وإسقاط خط الممانعة خدمة لإسرائيل – كما يزعم إعلام السلطة، وليس الأمر كذلك – فإن هذا الهدف قد تحقق بنسبة كبيرة، فسوريا بعد الثورة ليست هي سوريا قبلها، ولن تنهض من كبوتها وضعفها إلا بعد وقت طويل، هذا إن نهضت أصلا.
أما إذا كان الهدف من الإنتفاضة هو إسقاط حكم بشار الأسد و بناء نظام ديمقراطي تعددي، يضمن استمرارية الدولة، ويحافظ علي وحدة البلد وتماسكه -كما تقول المعارضة السورية – فإن هذه الإنتفاضة قد انحرفت عن اهدافها وأخفقت في تحقيقها وفشلت فشلا ذريعا .
ولكن لماذا أخفقت الثورة السورية ولم تحقق أهدافها ؟
يمكن أن نتلمس الجواب علي هذا السؤال من خلال مقالين أحدهما لميشيل كيلو والثاني لهيثم المناع، وهما قامتان سامقتان من قامات النضال العربي ورمزان شهيران من رموز الثورة السورية، عاصراها من البداية ، وعايشاها عن قرب، وأسهما فيها فكرا وعملا ، ولعبا فيها أدوارا قيادية فزج بالأول في السجون، وقتل شقيق الثاني ، فما وهنا وما استكانا وظلا يحتضنانها كما تحتضن الأم وليدها ويدافعان عنها بحماس وقوة في المحافل العربية والمنتديات الدولية، وهما يرفعان لاءاتهما الثلاثة: لا لعسكرة الثورة، لا للتطييف، لا للتدخل الخارجي.
يعالج “ميشيل كيلو” في مقاله “من يقود من؟” ظاهرة مرضية، كثيرا ما تصيب الثورات وتلحق بها أضرارا كبيرة، وهي اختلال ترتيب العلاقة بين النخبة وبين الجماهير في مسار الثورة ، فأيهما يقود الآخر؟ هل النخبة صاحبة الوعي هي التي تقود الجماهير، أم الجماهير صاحبة العفوية هي التي تقود النخبة؟ قد يبدو الموضوع إشكالا نظريا، ولكنه في السياق السوري هو قضية عملية علي قدر كبير من الخطورة ، حيث تتخلي قيادات الثورة في بعض الأحيان عن عقلانيتها وتتخذ مواقف مرتجلة مراعاة لعواطف الجمهور ( تسليح الإنتفاضة – استدعاء التدخل الخارجي) وهذا موقف خاطئ يضر بالثورة تكتيكيا كما يضر بها أستراتيجيا ، فلا يصح أن يسير القادة وراء العامة ، ولا الوعي وراء العفوية وإن حدث ذلك – وهو يحدث يوميا في سوريا – فإن الأمر سيقود حتما إلي نتائج وخيمة علي مستقبل الثورة، ويصبح بحجم الكارثة عندما يتدني وعي النخبة وينزل إلي مستوي العامة – لأسباب برجماتية محضة – خصوصا إذا كانت هذه النخبة صاحبة باع طويل في النضال السياسي .
ويحدد ” كيلو ” ظاهرتين مقلقتين في الثورة السورية :
أولا : شروع القيادة السياسية، التي يفترض أنها تمثل الوعي أو درجة معينة منه، في الرهان على لا وعي الجماهير وعفويتها من أجل خطب ودها وبالتالي قبول كل ما يصدر عنها دون نقد أو تمحيص،
ثانيا: رضوخ جهات سياسية لـ عصمة الجماهير.. صانعة التاريخ، وتجاهل الحياة السياسية المنظمة باعتبارها ساحة نخب وأقليات .
ويختم ” كيلو ” نقده لهذه الظاهرة التي تفتك بجسد الثورة السورية بقوله: ” إنه من غير الجائز لمن يقود أن ينقاد، ولمن ينقاد أن يقود. وفي النهاية، ليست الثورات ألاعيب جهلة أو ضربات حظ، بل هي فن وعلم لا ينجح في امتحانها من لا يتقن فنونها ولا يعي متطلباتها ولا يتابع تطوراتها، ومن يصمت عن أخطائها خوفا من الجماهير! “.
أما مقال ” هيثم المناع ” الذي كتبه تحت عنوان ” الحقيقة أكبر خلق ثوري ” والذي هو أشبه بنقد ذاتي شامل للثورة ، فيعبر فيه عن قلقه علي مستقبل الثورة السورية حيث بدأت الثورة المضادة تكسب مواقع متقدمة في محافل ومجالات كثيرة ، وذلك باسم الثورة وعلي حساب قيمها ومبادئها ، وأخطر هذه المجالات علي الإطلاق وأكثرها ضررا علي الثورة ، هو مجال حقوق الإنسان ، الذي يبدو أن الثورة قد سقطت في امتحانه سقوطا شنيعا ، وتساوت مع الجلاد ، وذلك باعتراف المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان .
لا يريد ” هيثم ” أن يسكت علي الإنتهاكات الخطيرة ضد حقوق الإنسان ، والتي ترتكب باسم الثورة ، فبعد سنة من جرائم السلطة ، هاهي الضحية تعيد إنتاج الجلاد ، وتنافسه في أسوإ ما عنده ، وها هو المقموع يزج به في أخلاق القامع ، و إعلام الثوار في إعلام الدكتاتورية . لقد أستنسخت المعارضة الأساليب الاأخلاقية التي كان يتبعها النظم ضد خصومه ، في صراعاتها الداخلية ، كما استنسخت تشويه الأحداث وتزوير الوثائق ، وبث التسجيلات المتلفزة ، والإعترافات المفبركة ، والإعتماد علي ” لبروبغاندا ” لدفع المواطنين للنزوح في الداخل واللجوء إلي الخارج .
هذا التقليد المتبادل بين القامع والمقموع أضعف الثقة بالثورة والثوار، وقلص الفوارق بين فساد موظفٍ في النظام أثرى في سنوات، ومعارض أثرى في أشهر، بسبب المال الخليجي. وقد أدي كل هذا إلي فقدان البوصلة و الانحطاط في التحالفات والعداوات الإقليمية والصراعات الدولية التي حولت المعارضة إلي بيادق، في لعبة آخر همومها البناء المدني الديموقراطي لسوري .