[email protected]
لا يضر الحقيقة أي شيء كما يضرها سوء أسلوب دعاتها، ومهارة خصومهم، “فكم من حقيقة طمست بسبب دعاتها وكم من دعوة باطلة مكن لها دعاة مهرة” كما يُقال.
العبودية في موريتانيا واقع معاش، سواء كآثار ما زالت تكبل الأغلبية الساحقة من الأرقاء والأرقاء السابقين فقرا وجهلا وتهميشا، أو كممارسة استرقاقية استعبادية بالشكل التقليدي للعبودية (ولو كانت حالات قليلة)، ويكفي البرهان على ذلك بسجن القضاء الموريتاني ـ رغم حاجته للاستقلالية ـ لبعض الأسياد بسبب استرقاق واستغلال قصر وبالغين في حالات مختلفة ومتعددة.
كل الذين يناضلون ضد العبودية ومخلفاتها اليوم في موريتانيا يحملون أهدافا نبيلة مهما اختلفت مشاربهم ودوافعهم وخلفياتهم، ومهما تعددت وسائلهم، ومهما انحرفت مسلكياتهم.
التطرف المشوٍه
لقك كان خطاب بيرام في النضال ضد العبودية خطابا متطرفا في أغلب طرحه منذ برز الرجل للضوء، ولعل ذلك التطرف هو السر وراء سرعة شهرة بيرام. لكن الغريب أن بيرام انتقد قبل فترة ـ بل هاجم ـ علماء ورموز كبار مثل العلامة بداه ولد البوصيري والعلامة محمد سالم ولد عدود والشيخ محمد الحسن ولد الددو.. الخ ولم تثر ثائرة الأحزاب السياسية خاصة أحزاب الدولة (حامية “الدين”) حينها بل لم نقرأ مواقف بينة ضده.
خطاب بيرام هذا أجًلَ انتشار دعوته للانعتاق بسبب اصطدامه بالمقدس، وأخطائه المنهجية رغم صوابية دعوة الانعتاق التي يحملها، وإن شابها انحراف في الآلية والممارسة.
لكن ظاهرة التطرف في أداء الرسائل المبدئية ونصرة الحقيقة ليست بدعة مع بيرام ومنظمته “إيرا” فقط. ففي انواكشوط بعض الفقهاء (واحد على الأقل يصرح بذلك) يمنع لحراطين، وحليقي اللحية، وطلاب المدارس، وحتى العسكريين، ومن يرتدون البنطلون والمدخنين ..الخ من الصلاة في مسجده. إنه تطرف ضد من يحسبه هذا الإمام مظاهر فسق أو كفر كما يقول أحيانا، فهل يحمي الرجل كونه “بيظاني”؟.
هنالك فقهاء آخرون منهم من قضى، أفتوا بحلية أموال العبيد لأسيادهم. وبعضهم بعدم وجوب الجمعة عليهم، وغيرها من الفتاوى بعضها يتعلق بالعرض والبعض بالمال والبعض بالعبادة حتى العبادة!
نصرة المسلمين، والدفاع عن الأمة، ومقارعة الباطل، ونصرة المظلومين، وإقامة الدين كلها رسائل مبدئية حملها متطرفون ويحملونها اليوم فيقتلون باسمها ويدمرون ويختطفون ويمارسون جميع أنواع الارهاب. كل ذلك لم يجعل هذه المبادئ شيئا بغيضا أو يحولها إلى باطل وإن أجل الانتصار لها بسبب سلوك بعض من حملوها.
العمل الخطأ .. في التوقيت الخطأ
حرْق بيرام لكتب تشمل علما غزيرا، بل وآيات وأحاديث، بكل تأكيد، عمل منكر. كما أنه هدية لا تعوض إلى الطبقيين الذين طالما تترسوا بشعار الدين، حتى الذين منهم لم يشتهروا بالتدين. إنه فرصة ليس لتصفية بيرام ومنظمته فقط، بل ولجعل كل صوت مؤيد للنضال ضد العبودية وللانعتاق “مارق” ـ كما وصف حزب الاتحاد بيرام ـ على الدين وعلى المذهب المالكي والطريقة الأشعرية وأعراف المجتمع.. وسرديات التلفزيون الرسمي.
كما أن بيرام لم يوفق في التوقيت أيضا، حيث تعيش موريتانيا مخاضا سياسيا وأحداثا متلاحقة، فجاء بيرام ليشغل الكل بتصرف غير محسوب وغير مجدي. لقد كانت المحرقة هدية بيرام الغالية لعزيز، كما سيكون اعتقال عزيز لبيرام ردا للجميل إذ سينتصر له متعاطفون بكل تأكيد، وسينصرف جزء من الرأي العام الداخلي وربما الرأي الخارجي إلى قضية سجن بيرام بدل قضية حرق بيرام للكتب، وبدل قضية العبودية جذر المشكلة.
في هذين الأسلوبين يتماهى عزيز وبيرام، أي أسلوب التصرف لصالح الخصم بدل تركه يغرق.
بيرامه وعزيز دائما يتبادلان الهدايا في الوقت المناسب من حيث لم يريدا طبعا.
لقد قام عزيز باستدعاء بيرام في القصر قبل فترة وعرض عليه ما عرض، فكانت خدمة له. ثم سجنه فكانت خدمة أخرى. قام بيرام الآن برد الجميل لعزيز بشغل الرأي العام بإقدامه على عمل آثم كهذا ليمنح عزيز فرصة “حماية المقدسات” و”نصرة الدين” مع بقية الانجازات التي تتغني وزارة الشؤون الاسلامية مثل مسجد لم يبن بعد، ومصحف لم يطبع. عزيز بدوره يسجن بيرامه الآن تلك هدية أخرى!
لماذا المحرقة؟
هو كأي سؤال بشأن أي ظاهرة تطرأ، خصوصا الظواهر غير الطبيعية وغير المبررة، فالبحث في الأسباب هو أول خطوة نحن الحل والعلاج. إنه مثل السؤال “لماذا الإرهاب؟”
لذلك نتساءل لماذا يشعر بعض الأرقاء أو الأرقاء السابقين أو لحراطين عموما (وإن قل) أن لديهم مشكلة مع رؤى فقهية معينة أو كتب معينة؟
هل قام الفقهاء بدورهم كما ينبغي في ملف العبودية وخصوصا في هذه المرحلة الحرجة؟ هل وضحوا جذور العبودية وشرعيتها أو عدم شرعيتها بما يكفي؟ ما موقفهم من استغلال بعض القصر في أعمال شاقة وبمبالغ زهيدة، بل وفي أعمال أخرى منافية للقيم والأخلاق والدين؟
هل كان لاستغلال البعض للدين دور في تكريس العبودية وملك رقاب بعض الناس بدون حق؟
لقد كانت محرقة الكتب ذروة اليأس من مناصرة من يفترض أن يكونوا أول نصير للمظلومين، إنها مثل ظاهرة الانتحار حرقا. لقد كانت تصرفا طائشا لكنه تصرف يحتم على الآخرين تحمل المسؤولية بشكل أكبر لأنهم عجزوا عن لعب الدور المنوط بهم تقصيرا أو اهمالا أو تمالؤا.
ختاما
أقدم بيرام على سابقة في تاريخ موريتانيا لكنها لن تكون سببا مقنعا للقضاء على مطالب الإنعتاقيين إلا من وجهة نظر اقطاعية صرفة. وأقدم عزيز على اعتقال بيرام ليمنحه فرصة الكفارة عن تصرفه.
لقد كان جديرا بالذين توجهوا إلى عزيز بمظاهرة لاعتقال بيرام أن يتوجهوا إلى قصر العدالة لا إلى قصر الرئاسة، إذا كانوا يثقون في القضاء الموريتاني وفي عدالته. كما عليهم أيضا أن يتوجهوا إلى القصر مرات أخرى لإنكار منكرات ظلم لحراطين وتهميشهم، وإنكار منكرات ساكني القصر الأخرى دون انتقائية.