سيدة تبحث عن شقيقها المفقود ..لكن لا أحد مستعد لتوريط نفسه
باسكنو ـ يعقوب ولد باهداه
تتحرك السيارة بسرعة فهي في سباق مع الزمن للوصول إلى باسكنو آخر مقاطعة بشرق موريتانيا قبل أن تنتهي حدود المليون وثلاثين ألف وسبعمائة كيلومترا مربعا، منذرة بأن تخوم جمهورية مالي باتت على مرمى حجر.
المسافة بين النعمه؛ عاصمة الحوض الشرقي، وباسكنو تربو على 200 كيلومتر، لكنها تستغرق 8 ساعات في طريق هو الأفضل والأسرع ما لم تتساقط الأمطار، إنه الطريق “التحتاني” الذي اختارته “امريحيمه بنت محمود لله ولد أنويجه”، للبحث عن طيف شقيقها محمد المختفي منذ عشرة أعوام، بعد أن غادر ديار أهله في “لعليبات” جنوب آلاك متجها نحو نواذيبو، فاختفى تماما…قبل أن يؤكد عسكري موريتاني أنه حي يرزق على بعد 35 كلم من باسكنو، فبدأت رحلة طويلة للبحث عنه.
غادر محمد آلاك إلى بوكي، وكيهيدي وسيلبابي عاملا في التجارة حتى 2004، قبل أن ينتقل إلى لعصابه، فالحوض الغربي وأخيرا استقر في الحوض الشرقي، حيث تتقفى شقيقته أثاره التي كادت تندرس.
يرافق “امريحيمه” في رحلتها ابن خالها محمد ولد اسويدي التاجر المقيم في مدينة النعمه، وهو أحد المهجرين من السنغال بعد أزمة 1989…مفعم بالأمل لأن المعلومات المتوفرة عن ابن عمته وسميه وصديقه “محمد” قد تؤدي في الأخير إلى الوصول له وهو في منفاه الاختياري بعيدا عن ديار أهله الذين قطع الاتصال بهم منذ غادرهم آخر مرة سنة 2001.
بلغة ملئية بالشوق لرفيق العمر بموريتانيا والسنغال، يقول ولد اسويدي :”انه شاب نحيف، ولكنه قوي وجريء وشجاع..ولد عام 1965، وقد عشنا معا أجمل أيام حياتنا”. مضيفا :”إذا التقينا به لا يمكننا إجباره على الذهاب معنا…لكننا سنحييه ونلومه ونوضح له خطأ فعلته”.
قدمت امريحيمه من آلاك تتبع خيط أمل وصلها من عسكري موريتاني في “انبيكت لحواش” أعطى معلومات بالصدفة عن المفقود محمد ولد انويجيه، سمع ذلك الجندي الاسم يتردد على لسان زميل له يتحدث على الهاتف..فعرفه وقال إنه يقيم في بلدة “أقور” على بعد 35 كيلموترا من باسكنو…على الطرف الآخر من المكالمة كانت امريحيمه، التي تطرح السؤال على كل من تتحدث معه : هل من خبر عن محمد ..هل تعرفه؟.
لم يكن الطريق مفروشا بالورود للوصول للأخ الذي أخفته صروف الدهر عن والديه وإخوته، فامريحيمه ليست لديها أي أوراق ثبوتية، وتقول “لم أحصل إطلاقا على بطاقة تعريف”، ورفيقها ابن خالها محمد فقد بطاقته الشخصية قبل فترة… فكانت المحنة مضاعفة، فقد خضعا للاستجواب والتحقق من هويتهما وهدفهما لمرات عدة من طرف الدرك والشرطة والجيش، لكنهما واصلا طريق البحث عن محمد، وشفع لهما أن أمريحيمه زوجة دركي، وأن حالتهما الإنسانية تثير التعاطف.
الحالة الأمنية في باسكنو لم تساعد امريحيمه في بحثها، فغالبية التجار والمهربين والسكان يتحفظون على إعطاء معلومات عن أي شخص حتى ولو كانوا يعرفونه حق المعرفة، لأنه قد يكون مطلوبا للأمن أو انتمى لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، لذلك فان استقصاء آثاره بدا شبه مستحيل.
ما بعد الصدمة
القادم نحو باسكنو أمام احتمالين، أن يدخل نهارا أو لا يدخل إطلاقا، إلا إذا كان يجازف بحياته، فدخول المقاطعة الحدودية محرم بشكل تام بناء على تعليمات للجيش الذي يحمي المنطقة، وأي سيارة تدخل المدينة ستكون تحت رحمة الرصاص، وفي حال انتظار الصباح يتوجب عليه التسجيل لدى الشرطة، حيث يترك القادمون من الموريتانيين والأجانب وثائقهم الشخصية لدى الشرطة لساعات من أجل تسجيلها والتحقق منها، ومن ثم إعادتها لأصحابها في حال عودتهم للمخفر، وكل السائقين مجبرون على التوقف لدى مفوضية الشرطة كمحطة أولى إجبارية.
منذ ساعات المساء الأولى ينتشر “العساسون” في أنحاء المدينة وعلى تخومها، يتقصون أي أخبار جديدة ويبحثون عن داخلين غير مرغوب فيهم، ونظرا لكون غالبية العساسين جنود ودركيون متقاعدون، فإن مهمتهم تكتسي طابعا أمنيا استخباراتيا أملته ظروف ما بعد هجوم تنظيم القاعدة على المدينة.
لازالت باسكنو تعيش ما بعد الصدمة، حيث أحدث الهجوم الأول من نوعه لتنظيم القاعدة هزة في هدوئها الذي لم ينقطع منذ أكثر من عقدين، ومظاهر الحياة هنا تشير إلى حالة الذهول التي أصابت السكان حين وجدوا أنفسهم مساء الخامس من يوليو الجاري تحت رحمة معركة حامية الوطيس دون سابق إنذار.
شظايا الرصاص تتطاير هنا وهناك في الحي الجنوبي والجنوبي الشرقي المعروف بـ”الحي العسكري” اخترق رصاص القاعدة بيوت الناس، وبعضه انفجر انشطاريا. لكن الحظ ابتسم مرات للسكان وللجيش خلال تلك المعركة القصيرة، فلا إصابات في صفوف المدنيين.
حركة الجنود وسط المدينة والسوق، ومن الثكنة وإليها توحي بحالة تواجد الجيش فيها وفي المنطقة عموما، فإضافة للثكنة الثابتة التي تضم الكتيبة رقم 51 وتقع على بعد 3 كلم جنوب شرق مركز المدينة، هناك الفرقة الخاصة بمحاربة الإرهاب، وعدد من الكتائب المتنقلة والمدججة بالسلاح والعتاد، تصول وتجول على طرفي الحدود بين موريتانيا ومالي
يب ولد محمد؛ عمدة باسكنو قال لصحراء ميديا إن المدينة تواجه تحديا أمنيا حقيقيا، وهو ما يتطلب التآزر والوقوف صفا واحدا مع الجيش والدولة، لمواجهة التحديات، وأكد العمدة يب أن كل المواطنين يقفون إلى جانب الدولة في جربها على الإرهاب، لإيمانهم بتوجهات بلدهم، ولكونهم المتضرر الأول من تنامي وجود القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.
وأضاف العمدة إن الجهود الآن قائمة على توعية المجتمع المحلي وتوجيهه حول خطورة الظاهرة الإرهابية وتأثيرها السلبي، وإشاعة روح الوطنية والإخلاص والتعاضد.
“لا يمكن لأي منهم إعطاء معلومات حول شخص معين حتى لو كان يعرفه..إنهم خائفون جدا في هذا الزمن الرديء”، يعلق المعلم المتقاعد أحمد ولد ابراهيم المنحدر من افديرك بولاية تيرس زمور، معلقا على تجمهر عدد من التجار والسماسرة حول “امريحيمه” التي تدفقت الأسئلة منها حول شقيقها المفقود، فبعد أن تدخل مفوض الشرطة ليسمح لها ورفيقها بالخروج من المخفر، بدأت تسأل كل من يصادفها عن شقيقها الذي ذاب في قرى الحوض الشرقي كفص ملح في الماء.
الأمل الذي جاءت به امريحيمه من آلاك بدأ يتلاشى، فلا أحد يعرف المفقود بالاسم ولا بالصفة، وتحملق السيدة المفجوعة بتحول الأمل إلى سراب في عيون تجار باسكنو المتجولين بين الأسواق الأسبوعية في جانبي الحدود قائلة: انه يشبهني جدا، أنا نسخة طبق الأصل منه….ولكن لا أمل من جديد، والقبيلة التي وصل الخبر لامريحيمه أنه تزوج فيها وأنجب ابنين لا تسكن “أقور” بل إن مضاربها بعيدة جدا، لذا بدأت السيدة الخمسينية رحلة أخرى بحثا عن “محمد”.
في باسكنو ذات الـ35 ألف ساكن، تبقى الاحتمالات مفتوحة، فالتجارة والتهريب وتعدد القبائل والأعراق والمجموعات وتداخلها وشبكات الارتباط بين مختلف القرى والبلديات في الشريط الحدودي ..يجعل كل شيء ممكنا.