صحراء ميديا ترصد جزءا من ملامح الحياة في مدينة شغلها “الإرهاب” عن التجارة
باسكنو ـ يعقوب ولد باهداه
أخيرا تساقطت أمطار طال انتظارها.. وباتت المياه تتسرب مع الشوارع المتربة التي تضيع وسط مجال عمراني لم يستشرف أي مستقبل أو تخطيط، هنا يعيش حوالي عشرة آلاف ساكن في عاصمة مقاطعة باسكنو التي حولتها الحرب على الإرهاب في المنطقة الحدودية إلى دائرة الاهتمام، غير أنها تسببت في خسارتها لجزء من زخمها التجاري.
في انتظار صفقة قد لا تأتي.. تطول جلسات الصباح والمساء حول رقعة “ظامت” على الرمال…تجار تعودوا عقد الصفقات وتبادل السلع باتوا مجبرين على متابعة يوميات الحرب على الإرهاب، وتحركات عناصر تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي على الشريط الحدودي.
لقد قفز الإرهاب إلى دائرة التجارة…فبات لزاما على التجار وغالبيتهم من الوافدين على المدينة في تسعينات القرن الماضي أن يتعايشوا مع أجواء جديدة لم يألفوها منذ انتعش اقتصاد باسكنو قبل عقد ونصف من الزمن بفعل التجارة العابرة للحدود والتهريب الذي ينظر إليه على أنه “تجارة مشروعة”.
بضائع من مختلف الأنواع تتكدس في المحلات التجارية بالسوق المركزي في باسكنو، أغلبها قدم من نواكشوط في انتظار مواصلة الرحلة نحو القرى والتجمعات السكانية على جانبي الحدود…وربما أبعد من ذلك. لكن المدينة بحاجة لفترة حتى تستعيد ألقها التجاري بعد “الضربة الفاشلة” لتنظيم القاعدة كما يطلق عليها بعض سكان باسكنو.
غالبية البضائع هي مواد غذائية وأقمشة، ولم يعد هناك وجود ظاهر على الأقل لتجارة السجائر و”الخفيف”؛ المصطلح المحلي للمخدرات، فوجود الجيش في النقاط الحدودية وتحركاته، بات عائقا أمام انسياب حركة تهريب “الممنوعات” وإن استطاعت البضائع الأخرى مواصلة التسلل بعيدا عن أعين الجيش الموريتاني.
هنا توجد مصالح تجارية بمئات الملايين بعضها يتبع لشخصيات ولوبيات نافذة، تستمد قوتها من فترات سابقة، خاصة ماقبل 2005، ذلك ما أكده أمبويه ولد الداه، الأستاذ في ثانوية باسكنو، وأحد أكثر المتابعين للحراك الاقتصادي والاجتماعي في المدينة.
ولد الداه قال لصحراء ميديا إن تجارة المخدرات والسجائر كانت تتم تحت حماية شبه رسمية، وأن بقايا من الأنظمة التجارية ما زالت تحتفظ ببعض من وجودها في المنطقة، وإن كانت بدأت تتقلص منذ العام 2005. مشيرا إلى أن الإجراءات الأمنية الجديدة، خاصة تواجد الجيش المكثف بات عائقا أمام “سلاسة التهريب”.
في السوق المركزية قفزت الأسعار، خاصة المواد الاستهلاكية وفي مقدمتها الخضار ومتعلقات الغذاء اليومي، و بحسب الديه ولد شنان رئيس جمعية حماية المستهلك في باسكنو، فإن معركة “وقادو” هي السبب، ذلك أن حاجيات السوق المحلية من الخضار مصدرها غابة مزارع في وقادو التي باتت مسرحا لحرب قابلة للتجدد في أي لحظة.
أسعار اللحوم شهدت ارتفاعا هي الأخرى، “حيث لم يعد ما يتم ذبحه يوميا قادرا على تلبية الحاجة الماسة للسكان” يقول ولد شنان وهو يشير لزحام شديد على إحدى محطات بيع اللحوم في العراء، مؤكدا أنه يتم ذبح 4 إلى 5 من البقر يوميا وحوالي 35 رأسا من الغنم….في حين أن قطعان الإبل تتواجد هناك في “وقادو” للانتجاع بعد أن طردها صيف باسكنو الطويل.
في باسكنو التي تبعد عن العاصمة نواكشوط 1400 كيلومتر، للسياسة طعم آخر … هنا لا تمثيل لأي حزب سياسي باستثناء الحزب الحاكم “الاتحاد من أجل الجمهورية”، الذي يسيطر على الساحة، في حين يوجد حزبان أو ثلاثة “يمثلان في أشخاص ولا وجود لهم على الإطلاق” بحسب تعبير محمدنا ولد سيدي الأستاذ بالمدينة وأحد الناشطين في قسم الحزب الحاكم.
وقال ولد سيدي لصحراء ميديا إن الساحة السياسية في المدينة منسجمة مع ذاتها وتتابع الحراك السياسي في بقية أرجاء الوطن خاصة في العاصمة نواكشوط، غير أنه لا ينكر وجود انقسام حاد في صفوف الحزب الحاكم في باسكنو.
باسكنو هي المدينة الوحيدة التي تنافس فيها الأخوة على منصب انتخابي واحد، وفاز أحدهما وتقبلها الطرف الآخر بروح رياضية… يحدث هذا فقط في باسكنو التي ينشطر فيها الحزب الحاكم إلى نصفين متنافرين، يتحدث كل منهما بلغة :”نحن..وهم” غير أن ذلك لا يفسد للود قضية فيما يبدو.
“نعيش أجواء ديمقراطية وأخوية” يقول محمدنا ولد سيدي، مؤكدا أن الحزب على المستوى المطلوب ومستعد لكل الرهانات.
أمر يؤكده عبدُالله ولد سيدي ولد حننه؛ أحد ناشطي الحزب محليا، والذي قال لصحراء ميديا إن الأرقام الرسمية تشير إلى أن أكثر من 95% من سكان كافة بلديات باسكنو ينضوون تحت لواء الحزب، مشكلين15 وحدة، و20 فرعا و 25 قسما، مشيرا إلى مقر الحزب الذي تم تأجيره وتأثيثه قبل حوالي شهرين وبات جاهزا لاستقبال النشاطات السياسية.
وقال ولد حننه إن “شق الصف” غير مقبول، ومن يقوم به فإن الحزب في غنى عنه، وحول الاستعدادات للانتخابات النيابية والبلدية المقبلة أكد أن الساحة واضحة وأن مبدأ الترشح يعتمد على الأغلبية، أي أن مرشحي الحزب سيتم انتقاؤهم من خلال اختيارات الوحدات القاعدية، وليس بقرارات من نواكشوط.. “سيكون للأغلبية دورها الحاسم”؛ يقول ولد حننه.
وأضاف عبد الله ولد حننه إن المشاكل التي يطرحها الحزب ويسعى لحلها بالتعاون مع السلطات العليا والسلطات المحلية تتمثل في العزلة ونقص الكهرباء وتدني الخدمات الصحية.
تمتزج في يوميات باسكنو، التجارة والتهريب بأخبار الحرب على القاعدة بتفاعلات السياسية والأزمات الناتجة عن العزلة..ونقص الخدمات الأساسية، ويبقى الهم الأكبر الذي يزرع الخوف في قلوب السكان هو ذلك التأخر غير المعتاد للأمطار، وطول صيف كان ساخنا وزاد من سخونته زخات الرصاص التي تطايرت على البيوت وصمت الآذان لأكثر من نصف ساعة… في مشهد ربما ينذر بدخول باسكنو في مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر.