تفاصيل تنشر لأول مرة حول ناجين من “قاعدة المغرب الإسلامي”
نواكشوط ـ يعقوب ولد باهداه
“لقد ارتفعت أسعار الخضار دون سابق إنذار…وزاد الطلب على اللحوم ونقصت الكميات المعروضة منها” تلخص ميمونة بائعة خضار في الخمسينات من عمرها بسوق “باسكنو”، جانبا من التأثير الاقتصادي لتنامي نشاط تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي على تخوم حدود موريتانيا، وما نتج عن معركة غابة “وقادو” في مالي من تأثيرات على حياة الناس خاصة في الأراضي الموريتانية.
وتفسيرا لكلام “ميمونة” قال عبد الله أحد سكان باسكنو إن كميات الخضار المستهلكة في فصاله و باسكنو تأتي من مزارع في “وقادو” الواقعة 56 كلم جنوب المدينة، وأن كافة قطعان الإبل المملوكة للموريتانيين كانت تنتجع في الغابة الكثيفة التي باتت عنوانا لمواجهة تنوعت فصولها بين القاعدة والجيش الموريتاني المصمم على إبعاد التنظيم وتفادي هجماته الاستباقية أو الارتدادية.
لقد تراجع إقبال الموريتانيين على الأسواق الأسبوعية في مالي بسبب المخاطر، خاصة وأن عددا من السائقين لم يجرؤ على الذهاب إلى هناك.
فموقع الغابة القريب جدا من الحدود، جعل تأثيرات المعركة وما جرى بعدها ينعكس اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا على ساكنة المنطقة ككل، وتظهر خريطة أعدها لصحراء ميديا أستاذ متخصص أن وقادو تقع تماما في بداية الحدود الجنوبية لموريتانيا، غير بعيد من مركز فصاله ومقاطعة باسكنو وكذلك مقاطعة عدل بكرو، وأن الغابة تمتاز بأنها مصدر للعيش و محطة مهمة في التنمية الحيوانية، لذلك من الطبيعي هذا الاهتمام الموريتاني بها وبتأمينها، خصوصا وأن سكان جانبي الحدود مع مالي (جنوب وشرقا) هم نفسهم تقريبا من حيث الانتماء العربي واللهجة والعادات والتداخلات، “لذلك لا يمكن لأي كان الجزم بأنه يوجد في موريتانيا أو مالي إذا كان عارفا بالمنطقة”، يقول أستاذ متخصص في جغرافيا ومجتمع المنطقة.
في خضم الحديث عن التأثير الاقتصادي لمعركة وقادو، تتعالى الأحاديث والروايات من المدنيين والعسكريين حول تفاصيل أحداث المعركة وما بعدها، خاصة فيما يتعلق بلحظات اقتحام وحدة الجيش الموريتاني للغابة، ومطارداتها لفلول القاعدة، وكيف تفرق مقاتلو التنظيم إلى مناطق متعددة رفقة جرحاهم.
قصة الاختطاف..
في باسكنو روى حينه ولد بكار ولد زمزام لصحراء ميديا قصة محاولة عناصر من القاعدة اختطاف سيارة مدنية كان يستقلها رفقة عدد كبير من الركاب القادمين من باسكنو، والمتجهين نحو السوق الأسبوعية في مدينة “نيونو” المالية.
ولد بكار ولد زمزام، خريج قسم الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة نواكشوط، ويحضر الماجستير في “الرصد الجوي” بالجزائر. ويعمل تاجرا ومقاولا في المنطقة.
قال ولد زمزام إن حوالي 20 شخصا كانوا على متن سيارتهم رباعية الدفع، السائق “اميليد” ومؤجر السيارة يجلسان في المقاعد الأمامية، وبقية المسافرين يتكدسون في الخلف، ومع دخول السيارة القادمة من باسكنو إلى بلدة “بوكري” المالية العربية، إذا بطفل يلوح للسيارة بإشارة تطالبها بضرورة مواصلة السير
وعلى عكس إشارة الطفل، فقد توقف السائق بسبب الفضول أو انه اعتقد أن الطفل يوفقهم لأمر طارئ، لكن لم تكن الحقيقة سوى أن الطفل سعى لتوصيل رسالة من شخصية مهمة في البلدة تقول إن على السيارة عدم التوقف لأن عناصر من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي فروا من معركة وقادو يتواجدون بحثا عن سيارة تقلهم رفقة جريحين حالتهما خطيرة.
توقفت السيارة، وفجأة ظهر ثلاثة من عناصر القاعدة كانوا مختبئين خوفا من أن تكون السيارة التي سمعوا صوت محركها من بعيد تابعة للجيش الموريتاني، غير أنهم حين تأكدهم من هويتها خرجوا إليها، وحيوا الركاب.
وأكد حينه ولد زمزام أنهم كانوا موريتانييْـن وجزائري، قالوا لهم : “نحن من المجاهدين، ولا نستهدف المدنيين إطلاقا، ونريد لهم الخير، إنما نقاتل أعداء الله ومن يوالونهم من الحكومات”. بعد ذلك قال أحد الموريتانيين ـ بتفويض من أميره الجزائري ـ للسائق إنهم يريدون السيارة لتوصلهم إلى معاقلهم بأي ثمن، رد السائق على الفور بالنفي، وأكد أن المسؤول عن السيارة هو ذلك “الشريف” الذي يجلس إلى جانبه.
بدأ النقاش، قال عنصر القاعدة إنهم مستعدون لتأجير السيارة بأي مبلغ مالي، لتوصلهم ومن ثم يعيدونها إلى صاحبها، بل وبإمكانهم شراءها بضعف ثمنها ثلاث مرات. وكان مع “الأمير” الجزائري حقيبة تبدو مليئة بالنقود من مختلف الفئات (خصوصا اليورو والفرنك الافريقي).
بدت المفاوضات غير مجدية، وجه حينه سؤالا إلى “المجاهدين”، قائلا :”كيف نضمن أن تعيدوا السيارة، في حال أنكم أخذتموها؟؟” رد عليه الموريتاني على الفور :”يبدو أنك تتفهمنا..بإمكان شخص مثلك مرافقتنا لنعطيه السيارة بعد وصولنا…وبإمكان أحد عناصرنا إعادتها…المهم أن نتفق أولا”.
طال النقاش: أخذ الجزائري بيد السائق اميليد وذهبا بعيدا في محاولة لإقناعه..أثناء ذلك تقدم الموريتاني الأول طالبا من كافة الركاب النزول وإنزال أمتعتهم، ومن ثم رمى سلاحه في مقدمة السيارة وأسند ظهره على باب السائق استعدادا للانطلاق، وقام الموريتاني الآخر بالتوجه للجانب الأيمن من السيارة وتحدث إلى النساء المتواجدات على متنها دون أن ينظر إليهن طالبا منهن النزول بسرعة.
في ذلك الحين كان السائق و”الأمير” الجزائري عائدان من مفاوضات يبدو أنها فشلت، وبدأ الجزائري مفاوضات جديدة مع “الشريف” المسؤول عن السيارة، غير أن الشريف استشاط غضبا وفي طريق العودة إذا به يقول :”هذا ليس فعل المجاهدين ولا حتى المسلمين……” عندها وجه له الموريتاني الثاني سلاحه غير أن “الأمير” الجزائري نهره من خلال النداء عليه باسم “عبد الحميد” وإشارة إلى أن يعود لمكانه.
كان الوقت فيما يبدو يداهم عناصر القاعدة، ولكن السائق “أميليد” بدأ يتسلل بين الركاب بحجة مساعدة بعضهم في إنزال الأمتعة، وفي لحظة غفلة من عنصر القاعدة الموريتاني الواقف يمين السيارة، انتهز السائق الفرصة ودخل بجرأة من الباب لينطلق كالبرق ويختفي بعيدا بالسيارة، التي لم يتوقف محركها عن العمل…. تاركا عناصر القاعدة والركاب وحتى سكان القرية في ذهول تام.
وأكد “حينه” أن أحد عناصر القاعدة قال لهم : بإمكاننا أن نطلق النار عليه ونرديه قتيلا ونأخذ السيارة، غير أننا تجنبنا ذلك حقنا لدماء المسلمين”. وحين فر “اميليد” بالسيارة كان على متنها سلاح رشاش يعود لعنصر القاعدة، وسلمه السائق للأمن المالي الذي وجد به 6 رصاصات.
وأكد حينه أن السبب الحقيقي لعدم إطلاق عناصر القاعدة النار قد يكون انعدام الذخيرة، مع أن أحدهم يحمل كما كبيرا من مزودات الرشاشات (شرجيرات)، غير أن بعضا من سكان القرية أكدوا أن أي إطلاق للنار يعني أن الجيش الموريتاني سيقتحم المكان مستدلا بصوت الرصاص.
انسحب عناصر القاعدة، وأخذوا جملا كان في المنطقة، ونقلوا عليه جرحا كان معهم بدا أن حالته خطيرة، ولم يكن الوحيد فقد أكد سكان البلدة المالية أن عناصر أخرى سبق وأن نقلت جريحين آخرين على الحالة نفسها، في حين شاهد “حينه” ورفاقه وسكان القرية عددا كبيرا من ضمادات الجراح وآثار الدماء والعلاجات الأولية في عين المكان.
العناصر الثلاث ألقي القبض عليهم لاحقا، من طرف الجيش المالي على حسب الروايات المتداولة، ذلك أنهم في وقت لاحق بدأوا التمويه من خلال اختطاف قطعان إبل ليظهروا وكأنهم رعاة لها، غير أنهم لم يكونوا على هيئة الرعاة الاعتيادية مما أثار الانتباه لهم.
كان “حينه” محظوظا حيث توجد معه شريحة هاتف نقال مالية، تسلق شجرة طويلة رفقة صديق كان معه ونجحا في الاتصال بباسكنو وأخبرا عن الورطة التي هم فيها، وبعدها قام حاكم المقاطعة بتأجير سيارة توجهت إليهم لإنقاذهم.
سكان البلدة التي وقعت فيها الحادثة أكدوا أن الناجين من معركة وقادو كان هاجسهم الكبير هو الطيران العسكري الموريتاني، الذي مشط المنطقة بحثا عنهم، وأن رئيس القرية اضطر أكثر من مرة لإخراج النساء والأطفال أمام خيام وبيوت حيه ليظهر للطيران الموريتاني الذي يحلق على ارتفاع منخفض طبيعة سكان البلدة.
المصير المجهول
ناج آخر من القاعدة، يروي أحد سكان قرية مالية قصته، قائلا إنه كان في حالة يرثى لها، مع أن إصاباته لم تكن بليغة، غير انه كان يعاني حالة هيسيرية، قال مخاطبا أحد زعامات القرية :” أريد أن تعطيني ما أطعم به نفسي وأخي الجريح، وأن تؤمنني، وتساعدني للذهاب إلى النيجر”.
قبل زعيم القرية تلبية طلبين أي أن يطعمه ورفيقه، وأن يساعده للذهاب إلى النيجر أما أن يؤمنه فلا يمكنه ذلك، وقدم الجريح نفسه على أنه موريتاني تقيم عائلته في المملكة العربية السعودية وأنه انضم للتنظيم دون اطلاع تام على ما يقوم به، وأنه منذ فترة يحاول الانسحاب، غير أنه شاهد اثنين من المقاتلين أعدما أمامه لمجرد أنهما حاولا الهرب من التنظيم، وبالتالي بات خائفا على حياته في حال قرر الهرب.
كان يتحدث بنبرة تطبعها الصدمة والذهول والخوف من المستقبل، جراحه في بطنه وفي رجله أيضا، وزميله في حالة سيئة، لكن ذلك فيما يبدو لم يحل دون أن يتحدث عن رغبته في الاختفاء بعيدا، قال لمحدثه :” لا يمكنني أن أذهب إلى موريتانيا أو أسلم نفسي، سأكون الخاسر…أريد فقط أن أذهب إلى النيجر علي أعود إلى السعودية سالما”
لاحقا تحدثت أنباء واردة من القرية أن ذلك الجريح لا زال متواجدا بها، ويطلقون عليه اسم “لمدكدك” نظرا لإصابة رجله بكسر، وانه يخاف أصوات السيارات ويخشى من عثور الجيش الموريتاني عليه، وكذلك القاعدة التي أفصح عن نيته الهرب منها.
المعركة الأعنف
كانت معركة وقادو الأشرس والأكثر قوة بين الجيش الموريتاني وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، كانت تحديا للطرفين فالجيش يريد الانتقام، وإبعاد التنظيم عن تخوم البلاد وتحويله من مصدر تهديد إلى عناصر مشتتة، والقاعدة تسعى لإثبات وجودها وتأكيد أنها قادرة على التحدي والمواجهة.
تفاجئت وحدة الجيش الخاصة، المدربة تدريبا عاليا والمجهزة للمواجهة، بتواجد عناصر القاعدة على بعد 300 متر فقط، على عكس ما أخبر به أحد الرعاة في المنطقة بأنهم على بعد 4 كلم، لم يعد بإمكاننا التراجع يقول الملازم أول الذي كان في المقدمة، لقد بات يرى تحصينات القاعدة وأي تراجع لأخذ موقع جديد يعني الانتحار، لذا توقفوا عن التقدم وأصدر الملازم أول ـ بعد ان نسق من النقيب الموجود في الطرف الأخر للوحدة ـ أوامره للجنود ببدء إطلاق الرصاص والنزول فورا من السيارة التي ستكون عرضة لقصف القاعدة، وهو ما كان بالفعل، حيث أن الملازم أول نفسه جرح وهو ينزل من سيارته.
كانت اللحظات الأولى عصيبة، فقد كانت النيران كثيفة للغاية، واستخدمت كافة الأسلحة المتاحة، لكن التفوق كان لرشاش 14,5 مم العملاق، وكذلك 12,7 مم.
توقفت القاعدة عن القصف، وهدأت نيرانها تماما في محاولة لاستنزاف ذخيرة الجيش….وبعد وقت أصدر القائد الموريتاني تعليماته للجنود بالتوقف تماما عن إطلاق النار…لقد نجحت خطته فاعتقد عناصر القاعدة أن ذخيرة وحدة الجيش الموريتاني قد نفدت فخرجوا عن بكرة أبيهم يهللون ويكبرون…عندها كانت لحظة الانقضاض، فشنت وحدة الجيش الموريتاني هجوما مضادا قويا، وبدأ عناصر القاعدة يتساقطون قتلى وجرحى… قبل أن يتدخل الطيران العسكري الموريتاني الذي حسم المعركة.
تظهر تسجيلات صوتية للحظات اقتحام الغابة أن الجنود الموريتانيين كانوا متحمسين جدا، وأن حالة ضباط الصف والجنود المعنوية كانت عالية، يروي أحد العسكريين المشاركين أن جنديا موريتانيا كان يقصف بمدفع ثقيل ورأى شيخا متقدما في السن في صفوف القاعدة وهو يتشبث بشجرة فسأل قائده إن كان بإمكانه أن يقصفه، فرد عليه القائد : ليس بالرشاش أو المدفع وإنما ب الا ربي جي، وبعد لحظات تطايرت جثة المقاتل المسن ومعه جذوع الشجرة التي كان يحتمي بها.
“إنهم يهود ملاعين… لا ترحموهم اقصفوا وتتبعوهم…” يقول أحد قادة المعركة في وحدة الجيش الموريتاني، كما يظهر في تسجيل صوتي، ويبدو وهو يرشدهم إلى عناصر من القاعدة تهرب في اتجاهات مختلفة من الغابة….لكن يستدرك بالقول :”عمر اقتصد في رصاصك، وجه ضربات محددة… إنه يهرب في ذلك الاتجاه وهو يرتدي جلبابا بلون قاتم”.
لكن الجيش كان محظوظا بحسب أحد ضباط الصف، حيث لم يدخل من البوابة الملغمة للغابة كما أشيع وإنما من الممر الذي أعده عناصر القاعدة لأنفسهم.
إمام المسجد الذي غسل قتيلي الجيش الموريتاني أكد إن أحدهما أصيب بعشر طلقات أغلبها في الفخذين، وأن الآخر أصيب بثماني طلقات في الرقبة والصدر، فيما يبدو أنهما كان من رماة المدافع الثقيلة.
ورغم أن القاعدة اعترفت بشراسة المعركة إلا أنها تؤكد أنها قتلت وجرحت العشرات و لم تصدر ما يثبت ذلك، في حين نشر الجيش الموريتاني صورا لسيارات محترقة وسط تحصينات القاعدة، ولعناصر الجيش وهم يجمعون عددا كبيرا من الأسلحة والمؤن وحتى النقود، وتؤكد مصادر من الجيش أن كميات كبيرة من الأموال تمت مصادرتها، بل إن أحد الضباط المشاركين يؤكد العثور على كميات من المخدرات “للاستعمال والاتجار” حسب قوله.