كيف السبيل إلى القضاء على آفة الفقر والهشاشة في موريتانيا وتخفيف الأعباء الاجتماعية التي تنوء بها الدولة؟ حل مبتكر: الإدارة الوطنية للزكاة
أولا: ملخص الدراسة
- الزكاة فرض على كل مسلم يملك نصابا من المال، مثلها مثل الصلاة. وتقع مسؤولية تحصيل الزكاة على رئيس الدولة حتى وإن تطلب الأمر جبايتها بالقوة. لكن ما هي الطريقة المثلى لجمع الزكوات وتوزيعها؟
- إنشاء إدارة وطنية للزكاة ذات طابع مؤسسي للخروج من الإطار التقليدي الفوضوي المتبع في أداء هذا الواجب لتجنب التفريط فيه.
سنرى لاحقا أن ميزانية هذه الإدارة قد تضاهي أو تفوق ميزانية الدولة برمتها. ومن المنتظر أن تصل إلى مئات المليارات.
- سيمكّن هذا الرافد المالي الضخم من تحسين الظروف المعيشية للطبقات الاجتماعية المعوزة ويسهم بذلك في تهدئة النفوس وتخفيض التوتر.
- وفضلا عن تقليص نفقات الدولة على نحو معتبر (بتحمّل تكاليف الجامعات والمستشفيات وغيرها من المرافق الخدمية)، ستوفر الزكاة لمصارفها (المستفيدين منها) دخلا شهريا قارّا بمقدار 30 أو 40 ألف أوقية تكفل القضاء على الفقر.
- لن يترتب على التداخل فيما بين الزكاة والضرائب أي نقص في إيرادات الدولة. فالزكاة عشر يُطبّق على الثروة في حين أن الضرائب مرتبطة بالدخل. وعلى العكس، ستنعش الزكاة النشاط الاقتصادي مما يؤدّي إلى زيادة محصول الجباية.
- لن تتولى مصالح الدولة تسيير ميزانية مؤسسة الزكاة بل سيُعهد بتسييرها إلى هيئة مستقلة تستمد شرعيتها من الدستور.
- ولضمان الشفافية التامة في تسيير مؤسسة الزكاة يمكن إسناد رقابة محاسبتها إلى مكتب للتدقيق الدولي يضم خبراء مستقلين تُنشر تقاريره السنوية في الموقع الإلكتروني التابع لهذا المكتب.
- يُحتمل أن يعترض العديد من الأثرياء ورجال الأعمال على هذه المبادرة وأن يسعوا بكل ما أوتوا من قوة لوأدها في المهد حرصا على تجنب فقدان جزء – ولو يسير – من أموالهم، مع أن من الثابت أن تأدية الزكاة مدعاة لنماء المال.
- من شأن تطبيق هذه المبادرة أن يؤمّن البلد من مغبّة الهزات الاجتماعية ومخاطر الاضطرابات الناجمة عن الإدلاف إلى مستقبل مجهول.
- على صعيد آخر، ستجعل الموارد الضخمة المتحصّلة لدى مؤسسة الزكاة البلدَ بمنأى عن مشكلات عجز الميزانية الذي كثيرا ما يضطر الدول إلى الرضوخ لمقتضيات إعادة الهيكلة للحصول على قروض صندوق النقد الدولي.
- كل المؤشرات تدل على أن المبادرة ستحظى بتأييد تلقائي من لدن الموريتانيين. وستشكل علاوة على ذلك سابقة على المستوى العالمي وقد تقتدي بها الدول العربية والإسلامية. ولعلها أن تصبح نموذجا مبتكرا للتضامن الاجتماعي يُدرّس في جامعات العالم أجمع.
- وسنجد في هذه المبادرة كذلك دحضا ساطعا للأيديولوجية المنحرفة لما يسمى بالحركات “الجهادية” التي تشوّه صورة الإسلام دين السلام والتسامح والتضامن والتكافل الاجتماعي.
ثانيا: خطاطة للبنية الهيكلية للإدارة الوطنية للزكاة
ثالثا: الدراسة
الزكاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
لقد فرض الإسلام أداء الزكاة لمواجهة غريزة الأنانية التي جُبل الإنسان عليها. وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كانت الزكاة تجمع وتوزع بشكل عادل بين الفقراء والمساكين لكيلا يكون المال دُولة بين الأغنياء ولئلا تتسع هوّة التفاوت الطبقي.
وتعتبر الزكاة واجبا دينيا متحتّما على المسلم على غرار الصلاة، ويُعدّ منعها عصيانا لله ولرسوله.
وفي أرض الإسلام، يتعيّن على المُمْسكين بدفة الحكم ملوكا كانوا أو رؤساء أن يسهروا على تطبيق هذه الدعيمة الإسلامية. وهذه مسؤولية جسيمة سيسأل عنها الحاكم غدا بين يدي الله الواحد القهار.
ووجوب الزكاة مجمع عليه لقوله عز وجل لنبيه الكريم: ” خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.
وهذا أمر من الله تعالى للنبي (ص)، لذا يستحيل على المسلم التهرب من دفع الزكاة مهما يكن ميله إلى التحايل واختلاق المعاذير.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن فقال له: “… ادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم …”.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: “انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله …”.
وعلى حاكم المسلمين أن يقوم بتحصيل الزكاة ولو أدّاه ذلك إلى استعمال القوة. وهذا ما أقدم عليه دون تردد خليفة الرسول (ص) أبو بكر الصديق رضي الله . ذلك أن الكثير من القبائل البدوية رفضت الانقياد للسلطة في المدينة المنورة إثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمنعت الزكاة. فكان الوضع حرجا للغاية. وترافق مع تمرد القبائل البدوية ظهور متنبّئين دجاجلة اتبعهم كثير من الناس.
وقد استشعرت المدينة المنورة وهي ما تزال في فترة الحداد الخطر المحدق بالدولة الإسلامية الوليدة.
وهذا ما حدا بالصحابة إلى أن ينصحوا الخليفة بالتريّث في إجبار المرتدّين على دفع الزكاة.
لكن أبا بكر أصر على موقفه وأقسم ليفرضنّ أداء الزكاة على النحو الذي كانت تدفع به في عهد النبي (ص) مهما كانت العواقب المترتبة على ذلك. وأضاف أن الأمر يتعلق بفريضة دينية لا يمكن بحال المهادنة بشأنها. عندئذ انطلقت الحروب المعروفة بـ”حروب الردة” وفيها أظهر الخليفة قدرا كبيرا من الحزم والصرامة.
الإدارة الوطنية للزكاة مكسب ثمين للفقراء وللدولة
يبدو اليوم جمع الزكاة وتوزيعها على يد هيئة مستقلة تحت وصاية الدولة أمرا يكتسي صبغة الأولوية المطلقة. فالبطالة المزمنة والفقر المدقع اللذان يتفشيان بحدة في العديد من البلدان العربية والإسلامية يمكن التخفيف منهما بل والقضاء عليهما إلى حد كبير بفضل الاستخدام السديد المبتكر للمورد المتحصّل من الزكاة في حالة استقصائها وتأطيرها.
ولئن استثنينا بعض التجارب التي ما تزال في طور جنيني كما هو الحال في ماليزيا فإننا لا نجد أي ضبط مؤسسي لتسيير الزكاة ما عدا منظمات خيرية في الخليج أساسا تباشر هذه المهمة.
ومهما يكن سخاء المانحين يظل التسيير المقطعي المتجزّئ عاجزا عن تلبية حاجات الجماهير الغفيرة من الفقراء والمساكين. فالمؤسسة المركزية المستقلة المتوفرة على الوسائل المادية والبشرية هي وحدها القادرة على مواجهة التحدي المتمثل في إحصاء مصارف الزكاة (مستحقّيها) ومساعدة المحتاجين.
وللخروج من ربقة الطريقة الحالية في توزيع الزكاة بالشكل التقليدي الفوضوي والفاقد للمصداقية، بالإمكان التفكير في إنشاء إدارة وطنية للزكاة في كل قطر عربي بحيث تكون مؤسسة نابعة من دستور الدولة. ويمكن أن تنال هذه الهيئة طابعا دستوريا بوصفها ذات نفع عام عن طريق استفتاء أو تعديل للدستور يقوم به البرلمان في اجتماع بصيغة مؤتمر. ثم يصدر قانون عضوي لتحديد هيكلتها وطريقة سيْرها.
للوهلة الأولى قد يثير التداخل ما بين الزكاة وبين الضرائب مخاوف من خسارة الدولة لبعض إيراداتها.
ولحسم هذا السجال المحتمل نشير إلى أن الزكاة عشر على الثروة وليس على الدخل كما هو الحال في الضرائب. وبذلك تكون المخاوف غير واردة. بل على العكس سينعش تحصيل الزكاة النشاط الاقتصادي مما ينعكس على زيادة الدخل وبالتالي ارتفاع حجم الضرائب. ومن الواضح أن الإيرادات الضريبية ستزداد نتيجة إنشاء مؤسسة مركزية للزكاة. فكيف سيتم ذلك؟
بادئ ذي بدء سيتسع الوعاء الضريبي وغيره من الرسوم بشكل كبير لأن الخاضعين للضرائب ستزداد أعدادهم.
ذلك أنه، إذا ما استثنينا الفاعلين الاقتصاديين الكبار والمتوسطين، يظل عدد الأشخاص المؤدّين للضرائب محدودا. وبالمقابل، لا تغطي الجباية معظم التجار الصغار، والمنمين، والمزارعين بفعل تشتتهم.
أما في حالة إنشاء الإدارة الوطنية للزكاة فسيكون الجميع تقريبا معنيين بأداء هذه الشعيرة. وعندما تضع مصالح إدارة الزكاة قوائم الذين يملكون النصاب المالي الخاضع لهذا الواجب سيتشكل رصيد ضخم من البؤر الجبائية. وسينجم عن توزيع ريع الزكاة تأثير أكيد في الدورة الاقتصادية بفعل تشجيع الاستهلاك المؤدّي في التحليل النهائي إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي.
وستتكفل الإدارة الوطنية للزكاة على مواردها الذاتية بالنفقات المترتبة على نشاطاتها كافة فيما يتعلق بجمع وتوزيع الزكاة من أجور الموظفين إلى تحمل أعباء التسيير.
ولا تقتصر هذه الإدارة على توفير دخل شهري قارّ (معاش القضاء على الفقر) لفائدة المعوزين وإنما ستسهم كذلك على نحو معتبر في نفقات استثمار الدولة في المدارس، والجامعات، والمستوصفات، والمستشفيات، والمساجد وغيرها من البنى التحتية.
أهمية الزكاة في الإسلام ومقاديرها
أولى الإسلام عناية فائقة للضعفاء والمحتاجين. ويشكل هذا الاهتمام حجر الزاوية في صرح النظام الاجتماعي الإسلامي القائم على التآزر والتضامن فيما بين مختلف مكونات المجتمع.
ولو قُيّض للتضامن الاجتماعي الذي يدعو إليه الإسلام أن يُطبق حرفيا على صعيد الواقع لتغير وجه التاريخ البشري وانقلب رأسا على عقب. ولربما كان في ذلك قضاء مبرم على ظواهر ما انفكت تؤرّق ساكنة أرض الإسلام مثل الفقر والهشاشة والإقصاء والحرمان. وما من ريب في أن ذلك مدعاة أيضا لاختفاء الأزمات الاقتصادية والمالية، وللقضاء على التوتر الاجتماعي وعلى حوادث العنف في الوسط الحضري، كما سيحدّ كثيرا من الانحراف السلوكي ومن الميول الإجرامية…
يرتكز النظام الاجتماعي الإسلامي على ثلاث دعامات أساسية:
- الزكاة المبنية على مبدأ توزيع الثروة بأخذ مال من الأغنياء يُرد على الفقراء؛
- الوقف؛
- النظام المصرفي المحرّم للربا والمضاربات.
والنموذج الاقتصادي الإسلامي المستوحى من الهدْي الرباني يمثل منهجا وسطا بين الاشتراكية والرأسمالية بما يتطابق مع تعاليم الإسلام نفسه الذي هو دين الوسطية والاعتدال. والواقع أن هذا النموذج لم يسبق تجريبه على نطاق واسع. وبالمقابل، أفلست الاشتراكية وتعيش الرأسمالية حاليا، على عكس ما يظهر للعلن، سكرات الموت المحقق.
وتشكل الزكاة القائمة على نقل جزء من أموال الأغنياء يُدفع إلى الفقراء الركنَ الأساسي للنموذج الاقتصادي الإسلامي. ذلك أن الإسلام يعتبر الفقراء شركاء للأغنياء في أموالهم.
فالزكاة ليست – كما قد يظن البعض – منة للغني على الفقير، بل هي حق للفقير في مال الغني. والأمر الإلهي الموجه للنبي (ص) صريح في هذا الصدد: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيكم بها”.
وهكذا يكون كل رأس مال للمسلم، سواء أدرّ دخلا أم لا، خاضعا لهذا التصدّق الواجب (أي الزكاة) خدمة لمجهود التضامن الاجتماعي.
ونورد فيما يلي مقادير الزكاة بصورة تقريبية:
- يؤخذ من محاصيل الزراعة غير المروية وغير المُمَكْنَنَة أي التي لا تتطلب استثمارات، نسبة 10%؛
- أما الزراعة المروية فيؤخذ من محاصيلها 2.5%؛
- وبالنسبة للنشاطات التجارية والصناعية: 2.5%؛
- في حين يؤخذ من الثروات المعدنية نسبة 5%؛
- وتنطلق زكاة المواشي من عتبة 2.5%. وتختلف بحسب أصناف النَّعم (البقر، الغنم، الإبل) تبعا لنصاب كل صنف، وتتزايد النسبة المأخوذة باطراد مع زيادة عدد الرؤوس؛
- وتجدر الإشارة إلى أن من يكنزون الثروة ولا يُدخلونها في الدورة الاقتصادية ملزمون بأداء الزكاة كأصحاب الحسابات المجمّدة، والممتلكات العقارية، والذهب، والأحجار الكريمة …
ويُخصّص محصول هذه الصدقة الواجبة للفقراء والمساكين: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل …”.
وبما أن الزكاة واجب ديني فلا بد لها من نية تسبق أداءها. وتجب الزكاة على المسلم الحر البالغ العاقل الذي يملك النصاب المحدد في الشريعة حسب صنف المال المعني. ولا تجب الزكاة قبل حلول الحول على ملك النصاب.
ويمكن – عند الاقتضاء – أن يحصل الذميّ (وهو المواطن غير المسلم الخاضع لحماية الدولة الإسلامية) على جزء من الزكاة ومن خمس الغنائم. كما يمكن أن يخصص جزء من الزكاة للمصابين بالكوارث.
المال المتحصّل من جباية الزكاة مخصص حصْرا لتحسين الظروف المعيشية للفقراء
استعرضنا آنفا بعض المزايا والفوائد المترتبة على إنشاء مؤسسة تؤطر جباية الزكاة. ولعل من المفيد أن نبرز بإيجاز نقطتين أساسيتين: الرفع المعتبر للقدرة الشرائية للمعوزين من جهة، وزيادة الإيرادات الضريبية للدولة وخاصة الرسوم على القيمة المضافة، من جهة أخرى.
وصفوة القول إن إرساء نظام تضامني على غرار نظام الزكاة يتيح اليوم – إذا ما أحسن تطبيقه – إمداد الدول العربية بموارد مالية إضافية ضخمة من شأنها، إن لم تحل جميع المشاكل الاجتماعية للطبقات المعوزة، أن تسهم إلى حد كبير في حلها.
بيْد أن من الجدير التنبيه هنا إلى ملاحظة هامة. فمن المحتمل أن تكون ميزانية الإدارة الوطنية للزكاة أكبر من ميزانية الدولة نفسها. وعندئذ يكون هناك إغراء ملح يدفع الحكام إلى التصرّف في هذا الصندوق. وتعتبر أي محاولة لتغذية أرصدة الدولة بموارد الزكاة خرقا سافرا للتعاليم الدينية. فالمال المتحصّل من الزكاة له مصارف محددة من قبل الشارع الحكيم ألا وهي مساعدة الفقراء والمعدمين. ومن هذا المنظور بمقدور الإدارة الوطنية للزكاة أن تنشئ على النمط الإسلامي بنكا، قد يكون هو الأكبر في البلد، يتولى تمويل السكن الاجتماعي، والمشاريع الصغيرة، والمراكز الصحية كمستوصفات الأحياء الشعبية، والمستشفيات، وتوفير منح لأطفال الفقراء، والمخصصات الشهرية للمعوزين والعجزة، إلخ.
وبإمكان الإدارة الوطنية للزكاة كذلك أن تودِع – وفق الصيغة الإسلامية – جزءا من أرصدتها في البنوك الأخرى مقابل ريع بواسطة المرابحة مثلا.
ويجدر القيام بحملة شرح وتحسيس على نطاق واسع بالاعتماد على حجة دامغة مفادها أن الزكاة واجبة وجوب الصلاة. ويمكن للدولة أن تشترط في الحصول على الأوراق الإدارية (كجوازات السفر، وبطاقات التعريف، وتوقيع العقود أو تصديقها …) تقديم براءة من تأدية الزكاة بالنسبة لمن هم مطالبون بها.
ملاحظات ذات طابع عام
قبل أن نختتم هذا التحليل لا بد من إيراد بعض الملاحظات ذات الطابع العام:
- بإنشاء إدارة للزكاة ندحض كثيرا من الصور النمطية التي يروّجها أعداء الإسلام في الغرب والتي تشوّه سمعة المسلمين. وبهذا نبرز الوجه الحقيقي للإسلام بوصفه دين سلام، ووئام، وتضامن، وتكافل اجتماعي.
- بحكم الطابع الديني والاقتصادي الذي تكتسيه إدارة الزكاة تشير كل الدلائل إلى أن هذه المؤسسة التي تستهدف القضاء على الفقر ستُستقبل بحماس شعبي غامر.
- لقد أظهرت الدولة المُعيلة عجزها سواء في النظم الاشتراكية أو الرأسمالية. ففي فرنسا مثلا يوجد رسميا ستة ملايين من العاطلين عن العمل وقرابة عشرة ملايين من الفقراء.
- يجب ألاّ يعزب عن بالنا أن الثورات العربية الأخيرة قد نشبت على خلفية التفاوت الطبقي وانعدام العدالة الاجتماعية.
- بإنشاء إدارة للزكاة نسهم في تحسين الظروف المعيشية للفئات المحرومة وبالتالي تهدئة الخواطر وتوطيد السكينة العامة.
- وبذلك “نقطع العشب من تحت أقدام” الإسلاميين المتطرفين الذين يكتتبون الأنصار في صفوف المهمّشين، وذلك بسدّ الذرائع التي يحتجون بها.
وفي الختام نذكّر بأن المبادرة التي استعرضنا ملامحها في الفقرات السابقة قد تتحصّل على ميزانية أكبر من ميزانية الدولة.
ومن شأن هذه الميزانية الضخمة، إن لم تقض على الفقر، أن تخفف من حدته بصورة كبيرة.
واللافت هنا أن هذه المبادرة لن تكلف الدولة أوقية واحدة. بل على العكس من ذلك، ستزيد من إيراداتها، وستعزز القدرة الشرائية وتدفع عجلة النمو قُدُما.
وأكثر من ذلك، ستخفف هذه المبادرة من الأعباء الملقاة على كاهل الدولة بإسهامها في العديد من المنشآت ذات الطابع الاجتماعي: المدارس، الجامعات، الطرق، التعويضات الشهرية الممنوحة للفقراء، تعميم فتح “دكاكين أمل” في جميع المدن والقرى، التزويد المجاني للفقراء بأعلاف الحيوان، إلخ. دون أن ننسى توفير الماء والكهرباء في المناطق المعزولة.
وهي إذ تتولى عن الدولة هذه النفقات الباهظة، ستعطي متنفّسا للاقتصاد الوطني في انتظار المداخيل المالية الواعدة التي يبشر بها الاستغلال المستقبلي للمحروقات. وفضلا عن ذلك، ستطفئ المبادرة المقترحة شرارة التوتر الداخلي وتعزز استقرار المؤسسات الوطنية.
وختاما، ستشكل هذه المبادرة سابقة عالمية قد تقتدي بها الدول العربية والإسلامية. وتدل كل المؤشرات على أنها ستكون نموذجا للتضامن المبتكر يُدرّس في جامعات العالم كله.
ملاحظات وتنبيهات
- يدعي البعض أن من الأفضل دفع الزكاة للأقارب المحتاجين. وهذا الأسلوب الموروث عن عادة قديمة أصبحت اليوم القاعدة المتبعة في العديد من البلدان الإسلامية. وهي وإن نبعت من نية طيبة فإنها لا تتطابق تماما مع الطريقة التي كانت سائدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. فالزكاة حينذاك كانت تدفع في بيت المال ثم توزع على الفقراء والمساكين.
أما الطريقة المعتمدة الآن في تأدية الزكاة فتعود، من بين أمور أخرى، إلى أسباب تاريخية: فبعد تفكك الإمبراطورية الإسلامية تلاشت تدريجيا فكرة الدولة المركزية، وظهرت كيانات مستقلة لا تتبع للحواضر الإسلامية الكبرى (المدينة المنورة، دمشق، بغداد …). ومع تعدد مراكز السلطة بدأنا نلاحظ، لدواعٍ سياسية في الغالب، انحرافات عن النهج الإسلامي القويم.
ومهما تكن فضائل توزيع الزكاة على الأقارب، فلن تسدّ حاجات الأفواج الغفيرة من الفقراء والمساكين لأن انحصارها في الأقربين يجعلها مجرد قطرة في بحر من الفاقة والعوز.
ولنكن واضحين! هناك فرق بين الزكاة وصدقة التطوع. فالأولى واجبة والثانية اختيارية. وبقدر ما نستطيع أن نعطي الصدقة حسبما نشاء ولمن نشاء، يلزم حتما ألا نعطي الزكاة إلا لمصارفها المنصوص عليها في القرآن والسنة، وهي تتلخص في الخزينة العامة. لذا يحق للمشرع أن يقرر أن يمركز الزكاة قبل توزيعها لتحسين الظروف المعيشية للمسلمين المعوزين، دون تمييز ولا إقصاء.
- لضمان الشفافية التامة في تسيير مؤسسة الزكاة يمكن إسناد رقابة محاسبتها إلى مكتب للتدقيق الدولي يضم خبراء مستقلين تُنشر تقاريره السنوية في الموقع الإلكتروني التابع لهذا المكتب.
- ينبغي أن تحظى المعارضة بتمثيل واسع خاصة على مستوى مجلس الإدارة الوطنية للزكاة.
- يلزم أن يكون المفوض السامي وهو الإداري المسيّر لمؤسسة الزكاة شخصية معروفة باستقامتها ونزاهتها وورعها. ويجب أن يكون تعيينه في هذا المنصب نابعا من إجماع الطبقة السياسية بكل أطيافها.
- وأخيرا، ينبغي عقد جلسات وطنية حول الموضوع يشارك فيها أعضاء الحكومة، والأحزاب السياسية، والنقابات، والعلماء، وأرباب العمل، والمجتمع المدني. ويلزم القيام بحملة شرح وتحسيس واسعة على امتداد التراب الوطني بشأن البعد الديني والاجتماعي لهذه العملية.
- خدمة للصالح العام للبلد وفق الفهم السليم لهذه المصلحة، يتحتم على كافة القوى الحية للأمة أيًّا كان لونها السياسي أن تعمل على تضافر جهودها لتجسيد هذه المبادرة.
وتبعا لذلك يُستحسن أن تضع التشكيلات السياسية سواء أكانت من الأغلبية أم من المعارضة هذه المبادرة في صدارة برامجها برسم الانتخابات القادمة.
كما ينبغي أن تعرض وسائل الإعلام بمختلف توجّهاتها هذه المبادرة للنقاش على الصعيد الوطني.
ذلك أن من اللازم التنبّه إلى أمر بَدَهي: ألا وهو أن الدولة مهما تكن مواردها الذاتية لا يمكن أبدا أن تقضي على الفقر والهشاشة. ولا أدل على ذلك من المثال الذي سقناه آنفا عن فرنسا البلد الغني بملايينه من الفقراء والعاطلين عن العمل. ومع ذلك فلم يألُ بلد “الهكزاكون” (ذي الخريطة على شكل سُداسي) أيَّ جهد في سبيل القضاء على ظاهرة الفقر. لكن دون جدوى. فلم تُجْد في ذلك القوانين ولا المخططات الاقتصادية ولا تداول الأغلبية. وما زال الهدف بعيد المنال، إذ لا ينفك الفقر بفرنسا في تزايد مطرد.
ولئن كانت بلدان غنية ومصنّعة تعترف بعجزها حيال هذا المشكل، فما بالك ببلدان فقيرة ومتخلفة؟ لذا يكون من قبيل الوهم الاعتقاد بأن الدولة بوسائل تدخلها التقليدي تشريعيا وماليا واقتصاديا تستطيع أن تضع حدا للفقر والهشاشة.
وحده التشريع النابع من مصدر إلهي يمكنه التسامي على الأنانية المتأصّلة في الجبلّة الإنسانية والتوصّل بالتدريج إلى تقليص الفوارق والتفاوت الطبقي بوضع حل لهذه المعضلة بشكل مستدام وموثوق به.
وعلينا ألا نخادع أنفسنا. فانعدام المساواة الاجتماعية هو منبع الفقر. فلا بد من أخذ القليل من صاحب المال لتحسين الظروف المعيشية للمُعدم. وهنا تكْمن العقبة التي اصطدمت بها التشريعات البشرية. وهنا بالضبط تظهر الزكاة بكثير من الإنصاف والعدالة الطريق الذي يتعيّن انتهاجه. إنه الطريق الوحيد السالك، وما سواه طرق مسدودة.
- على الصعيد الداخلي، من المؤكد أن هذه المبادرة ستحظى بانخراط تلقائي ومكثف من لدن الموريتانيين. وفي الخارج، وبالأخص في الغرب، قد يُنظر إلى المبادرة على أنها وسيلة مبتكرة وفعالة وغير مسبوقة لمكافحة عدم المساواة المؤدّي إلى الاضطرابات المتفاقمة عبر العالم. وبطبيعة الحال، سيُنظر إليها على أنها دحْض للطرح الأيديولوجي المنحرف المتفشي لدى الحركات “الجهادية” بما يشوّه صورة الإسلام دين السلام والتسامح والتكافل الاجتماعي.
موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط