محمد عبد الله محمد محمود
باحث متخصص في القانون العام
لئن كان ربيع الثورات العربية قد فاجأ جل المراقبين إن لم يكن كلهم، فإنه بالنسبة لي كان متوقعا في كل حين نظرا إلي التأزم المزمن والذي من تجلياته تردي الأوضاع بهذه الأقطار في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومصادرة الآراء والحريات وانعدام العدالة… ومن المسلم به أن التأزم إذا لم يعالَج تكون النتيجة انفجار الوضع المتأزم وحينها لا يمكن التنبأ بما يتمخض عنه، وهذا هو مانشاهده الآن في الأقطار العربية التي هبت عليها رياح التغيير، والتي وإن أطاحت برءوس العملاء ومافيات الفساد فإنها لا تزال بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها رغم وضوحها وضوح الشمس في رابعة النهار! فما هو السبب إذن في ذلك؟ وهل ستنجح هذه الثورات في الوصول لأهدافها؟ أم أنها ستعود القهقرى؟ وما هي الآثار التي تترتب على كلا الاحتمالين؟
بادئ ذي بدء أعترف بأن استشراف مصير هذه الثورات وتحديد وجهتها يبدو أمرا في غاية الصعوبة، لعدة أمور لعل من أبرزها كون هذا الحراك لا يزال في مهده، وتحيط به إكراهات داخلية محلية وأخري خارجية إقليمية ودولية ولها جذور وامتدادات في الداخل تجعلها متشابكة، ولا يفصل بينها إلا خيط رفيع وفي الغالب لا تراه العين المجردة ولا يصل إلي باقي الحواس الأخري المدركة، وبالتالي لا يمكن الحديث عنه إلا بضرب من الكهانة والتنبؤ مما يجعله يستعصي علي التحليل الموضوعي، مع أنه لا مناص من الاسترشاد به للوصول إلي استشراف مستقبل مازال مجهولا وغامضا، ومما يزيد الطين بلة أن المحللين السياسيين في مجتمعنا الموصوف بالعالم الثالث يتجاهل أو يجهل الدراسات الاستشرافية، ورغم هذا وذاك فقد قبلنا خوض غمار هذا الموضوع الشائك مع اعترافنا المسبق بأن بضاعتنا مزجاة.
أسباب عدم تحقيق الثورات العربية أهدافها رغم وضوحها
لا شك أن الحراك الثوري العربي الذي تزداد رقعته يوما بعد يوم ويشتد عوده صلابة لا زال في مهده، ومن التعسف أن يقول أحد أنه قد أخفق في تحقيق أهدافه المتمثلة باختصار شديد في تحقيق العدالة في جميع حقول الحياة المجتمعية ممثلة في دولة الحق والقانون، فالأهداف التي يسعى هذا الحراك لتحقيقها تحتاج إلي نقلة نوعية تحدث تغييرا جذريا وعميقا في الأفكار والبني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. تعيد للمجتمع ثقته في حضارته الروحية والمادية وقدرته علي الإبداع والابتكار والتثاقف والتلاقح والانفتاح علي الآخر، بعيدا عن الانبطاح والتبعية العمياء والاستيراد للمجون باسم الفنون.. وتعترض هذا السبيل معوقات متعددة ومتنوعة يمكن تصنفيها مبدئيا إلي معوقات داخلية وأخري خارجية بما يكتنفهما من تقاطع، وسنحاول الإلمام بأبرز هذه المعوقات في نقطتين أساسيتين:
المعوقات الداخلية
يصعب حصر المعوقات الداخلية لأنها كثيرة ومتداخلة نظرا لكونها تجليات لأزمة مزمنة مرت بأطوار مختلفة، لا يمكن تتبعها في هذه العجالة التي تتعامل مع ظرفية آنية بغض النظر عن التفاعلات الزمانية التي سبقتها، ومها يكن من أمر فإن الحراك الثوري العربي يواجه تركة ثقيلة تتلخص في الآتي:
– نظام سياسي مستبد يسيطر علي كل مفاصل الدولة ويتواجد في كل مؤسسة من مؤسساتها، ومن السذاجة أن يقدر أحد بأن هذا النظام قد زال بزوال رأسه والذي هو في الحقيقة ما هو إلا فرد من أفراده، وإن كان من الناحية القانونية يجب أن يكون بحكم مسئولياته يتحمل القسط الأكبر من الجرائم التي وقعت إبان حكمه، إلا أن ذلك لا يعفي بقية من شاركوه طيلة حكمه وبالخصوص بقية أفراد ذلك النظام والذين يحكمون البلد بصفة فعلية رغم سقوط رئيس النظام، فهؤلاء بالفعل يشكلون أكبر المعوقات الداخلية أمام تحقيق أهداف الثورة، لأنهم بكل بساطة يعدون أنفسهم أول ضحايا الثورة وأكبر خاسر إذا هي نجحت في تحقيق أهدافها، وبالتالي فإنهم وإن أظهروا في العلن مساندتها ومباركتها، فلا شك أن ذلك للتقية والتعمية علي النيات والأعمال المضادة التي يقومون بها في الخفاء لإفشال الثورة واحتوائها وتفريغها من مضمونها، وهم هنا يتقاطعون مع المعوقات الخارجية الأقليمية والدولية ولا شك أنهم ينسقون معها في هذا الإطار بطرق مختلفة قد نتعرض لبعضها لاحقا عندما نتكلم علي المعوقات الخارجية.
– نظام اقتصادي منهار نتيجة عوامل خارجية كالأزمة الاقتصادية العالمية والمديونية.. وعوامل داخلية نتيجة الفساد بشقيه الإداري والمالي ومن تجليات ذلك غياب البنى التحتية في بعض الحالات وضعفها إن وجدت، وتفشي البطالة الحقيقية والمقنعة وتواجد شرائح واسعة تقيدها الأميّة، وتجمعات الصفيح المنتشرة في أطراف المدن، وخوصصة المؤسسات والمرافق العمومية بطريقة غير مدروسة أتت بنتائج عكسية، كان من تجلياتها تسريح آلاف العاملين لينضافوا إلى أرقام البطالة المرعبة، مما نتج عنه تداعي القدرة الشرائية لدى شرائح واسعة جداً من السكّان لا تستفيد من أيّة تغطية اجتماعية، بالإضافة إلي إدارة فوضوية للقطاع الخاص الذي يمارس هو أيضاً الفساد على أكثر من صعيد والذي غالباً ما يكون كما في تونس.. فريسة رموز السلطة، فمعدّلات النموّ المرتفعة نسبياً خلال الأعوام الأخيرة والإصلاحات المزعومة ما هي إلا فبركة للحصول على علامات جيّدة من قبل المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي، حيث كان الواقع الاجتماعي والاقتصادي مختلفاً كليّاً [1]. كما لم تكن نوعية تطوّر الاقتصاد الحقيقي أبداً موضع اهتمام الحكومات المحليّة أو الدول والمؤسسات التي تقدّم لها الدعم مقارنة مع الإنتاجية الضئيلة للأنظمة الاقتصادية التي بالكاد تُستثمر قدراتها.
وبقي الاستثمار في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة العالية (المعلوماتية، الإلكترونيات، الأبحاث والصناعات الطبيّة، الطاقة الشمسية، النفايات، البيئة، إدارة المياه، الخ.) غير كافٍ ولا يتناسب مع الطلب عليه، أضف إلي ذلك أن مختبرات الأبحاث والتنمية شبه معدومة في القطاع العام والخاص، الذي لا يستثمر سوى في نشاطات ذات قيمة مضافة ضئيلة وبمعدّلات ربح عالية جداً لا تتضمّن أيّة مخاطر مالية.(2)
مما نتج عنه تحكم بارونات الفساد واستحواذهم على أكثر مقدرات البلاد في الداخل والخارج، وهؤلاء البارونات يكونون طابورا خامسا يشد أزر بقايا النظام السابق (الحالي) ويحرضونه على المقاومة بكل الوسائل من أجل أن يبقي الحال علي ما كان عليه.
– نظام اجتماعي تنخر جسمه االإيديولوجيات المستوردة والتي جفت في تربتها الأصلية، واعترف منظروها هناك بأنها فاشلة ولم تعد صالحة للاستعمالي بعد أن وضعت على محك التجربة لعقود خلت، بيد أن هؤلاء المستوردين لا يزالون يراهنون عليها باعتبارها الوصفة السحرية لحل مشاكل المجتمع!؟
المعوقات الخارجية
إن أكبر المعوقات الخارجية تتمثل في الأجندات الإقليمية والدولية المدفوعة بالمصالح الوطنية لتلك القِوي، والتي تري أن سقوط الأنظمة البائدة الموالية لها يعد خسارة كبرى بل وتهديدا لمصالحها القومية، وبعبارة أو ضح أمنها القومي القائم بالأساس علي تلك المصالح المحمية بالقوة بمفهومها الواسع.. وتتقاطع الأنظمة السلطويّة والقوى الخارجيّة هنا باللعب دوماً على ورقة الانقسامات الطائفيّة والتهويل والترهيب من خطر التطرّف الديني والإرهاب، كي تستمرّ هيمنتها باسم “نحن أو الفوضى” أو “حماية الأقليّات“.
إن التدخّل الغربي العربي المشترك بتبريراته الغربية هو لحماية المدنيين العرب و لصالحهم في تقرير المصير، لكنه في الحقيقة لحماية المصالح الغربية!! المتمثلة بالأساس في الاستثمارات التي بدأت تتجه نحو المنطقة بوتيرة أكبر من ذي قبل وبمعدلات أكثر سخاء وتنوعا، مما يثير علامات استفهام كثيرة حول التوقيت وتنوع التمويلات ووفرت الموعود به منها، هل هي مجرد وعود لتطمين ركائز الأنظمة التي أطيح برءوسها أم أنها محاولة لتثبيط عزائم القائمين بهذه الانتفاضات من خلال تحقيق بعض المطالب الملحة من أجل التخلي عن الاستحقاقات الأخري الأهم لا سيما النظر إلي الآخر بالندية أو هما معا…؟
ومهما يكن من أمر فإن القوي الخارجية الأقليمية والدولية تراقب عن كثب تلك الانتفاضات وتعمل بكل ما أوتيت من قوة علي تحجيمها قدر المستطاع، ولا شك أن ذلك يعد من أكبر المخاطر التي تواجه هذا الحراك الذي لا يزال في مهده، ومن المؤشرات الدالة علي صحة هذا التوجس تلك “الرغبة التي عبّرت عنها بقوّة كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا بمرافقة الإصلاحات الديموقراطية التي بدأت ترتسم. و”مرافقة” تعني هنا كسب زبائنٍ جدد بواسطة الدولارات واليوروهات. ” (3)
وإذا ما كانت المخاوف من هجرة كثيفة تنطلق من ليبيا هي التي تهيمن على الاتحاد الأوروبي في المقام الأول، فإنّ الولايات المتحدة تهتمّ أكثر لتداعيات اليقظة العربيّة على النظام الإقليمي، فهي تخشى نتائج سقوط حسني مبارك ركيزة سياساتها، إن كانت على الملفّ الإيراني أم على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أم علي استمرار تدفق البترول والمواد الأولية والأسواق المفتوحة، بيد أن هذه الحسابات يمكن لها أن تنهار من جرّاء طوفان الرأي العام العربي الحسّاس جدّاً لمعاناة الفلسطينيين.” (4)
“لكن ألم يحن الوقت لكي تتمكّن الشعوب التي بدأت انطلاقتها من تحديد مصيرها بنفسها دون توجيهٍ من أحد أو تدخّلٍ في شؤونها؟ لقد أصبحت المبادىء الجمهورية والمواطنية التي وضعتها الثورة الفرنسية شائعةً منذ العام 1820 في أوساط النخب في العالم العربي، من خلال العديد من الكتابات التي وضعها مثقّفون ورجال دين متنوّرون، وطليعة المدافعين عن حقوق الإنسان. هكذا ساهم كافّة المفكّرين الذين انتموا إلى حركة النهضة هذه في إظهار التطوّرات التي حقّقتها أوروبا في مجال الحريّات. ففي ظلّ الأنظمة الملكية، شهدت مصر حياة برلمانية ناشطة؛ كذلك العراق، وسورية الجمهورية قبل استيلاء الضبّاط البعثيين على الحكم. وماذا عن تونس التي ساهمت فيها الإنتليجانسيا بقوّة، بدءاً من القرن التاسع عشر، بالترويج للمبادىء الدستورية الحديثة؟ يجب إذاً وبسرعة شكر الأوروبيين والأمريكيين على عنايتهم المفرطة.”(5) والتوسل إليهم بأن يتركوا هذه الانتفاضات تحدد مصيرها ووجهتها حسب ما تراه يحقق أهدافها وطموحاتها المشروعة، والتي طال انتظارها عقودا كان من أكبر أسباب تأخرها السياسات الغربية الاستعمارية والامبربالية.
فعلي القائمين علي هذا الحراك المبارك أن يحاولوا الاعتماد علي المصادر والموارد الداخلية وترشيدها وتثمينها بدل التماس المساعدات الخارجية، ويجب السعي من أجل استقطاب العديد من ذوي المواهب والخبرات والكفاءات الوطنية الموجودة في الخارج لتعود إلي أوطانها من أجل ضم جهودها إلى جهود نظرائهم الذين بقوا في الوطن، للعمل علي إنشاء دراسات جديدة للسياسات العامّة، مستوحاة من سياسات النمور الآسيوية وغير مشروطة أبداً بالمساعدات الخارجية، إن اعتماد دينامية اقتصادية جديدة هو المبادرة الوحيدة القادرة على إجهاض أيّة محاولة لاستغلال واحتواء هذه الانتفاضات.
آليات التأثير والاحتواء للانتفضات العربية
بعد هذا التمهيد يتضح أن المعوقات الخارجية والإقليمية والدولية متعددة ومتنوعة، وبالتالي فإن أصحاب صنع القرار في الدوائرالأقليمية والخارجية بما فيهم الفاعلين العابرين للحدود هم الآن منغمسون في رسم آليات مختلفة ومتنوعة، من أجل التأثير علي مجريات الأحداث التي فرضتها هذه الانتفاضات، مباغتة بذلك أصحاب النظريات في العلوم السياسية مما تسبب في صدمة نظرية، حيث لم يكن بمقدور أحد التنبأ بما حدث، رغم شيوع نظريات “العدوي السياسية” و”نماذج الدومينوا” فلم يكن التيار الرئيسي في مصر يتصور أنما حدث في تونس سيتكرر في مصر، لكن بعدما تكرر في مصر أصبح هناك يقين بأنه سينتقل إلي الدول الأخري في النطقة، وحتى إلي دول وديمقراطيات مستقرة خارج الإقليم.(6)
فما هي إذن أبرز تلك الآليات التي قد يعتمدها هذا الثالوث الإقليمي والدولي والفاعل العابر للحدود؟ يمكن القول بأن هذه الآليات سيكون في مقدمتها بطبيعة الحال الآليات المعهودة والمتمثلة في شقين أحدهما مالي ولآخر أمني نجملهما في الأمور التالية:
ـ القروض التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
ـ المنح والهبات مقابل شروط غير معلنة يمكن أن تشمل مختلف المجالات.
ـ استثمارات سخية مقابل تسهيلات قد تصل حد الإجحاف.
ـ ربما الاعفاء من الديون أوبعضها أو تحويلها إلي استثمارات.. بعد الاتفاق علي الثمن المقابل لذلك.
ـ زعزعة الاستقرار الداخلي من خلال إثارة القلاقل بين المجموعات الدينية والمذهبية والإثنية..
ـ التدخل المباشر من أجل حماية الأقليات وحقوق الإنسان..
ـ التدخل بدعوي حفظ السلم ولأمن الدوليين وذلك عند ما تكون مصالح الثالوث مهددة، من قبل نظام متمرد علي الوصاية المفروضة علي العالم الثالث.
ـ التدخل من أجل محاربة الإرهابيين تلك الحرب التي شعارها من لم يكن معنا فهو ضدنا.
يتواصل بإذن الله