“صحراء ميديا” في منزل النازحات!..
نواكشوط ـ محمد ناجي ولد أحمدو
في منزل مؤجر مكون من ثلاث غرف في حي الداية 19 في مقاطعة عرفات قرب بقالة الاسكندرية، يعيشون.. معاناة مجسدة على أرض الواقع.. أربع شقيقات وحوالي العشرين طفلا.. وحد بينهم النزوح وغياب المعيل..
ثلاثة منهن عدن للوطن من بعد ما حلت الحرب محل السلم المؤقت في ساحل العاج، التي كانت لهن وطنا ينوب عن الوطن، قاسمهن المشترك، أن لا رجل في البيت: مطلقتان وأرملة، ورابعة العنقود عادت وأبناؤها السبعة في الرحلة الثالثة من الجسر الجوي الموريتاني القادم من طرابلس، تاركة خلفها زوجها الذي لم يجد مقعدا في الطائرة، ليبقى عالقا هناك.
عجزت المضيفة الهاربة قبل أربعة أشهر من ابيدجان، عن تسديد فاتورة الكهرباء لتعيش الأسر الأربع في ظلام دامس.. والحقيقة أنه في مثل حالة بنات أحمد فال، فإن الكهرباء تعتبر من الترف والكماليات بامتياز.
مع حلول الظلام جلست النسوة والأطفال على حصير في الشارع، فالمنزل يعيش تحت رحمة الظلام، ومن المستحسن جدا توفير بعض مصاريف الشموع.
لاله مريم بنت احمد فال، تتحدث الحسانية بلكنة ليبية اكتسبتها من عقدين أقامتهما هناك، قبل أن تغادر الجماهيرية، إثر الحرب الاهلية المندلعة فيها.. غادرت طرابلس هي وأبناؤها بجلودهم.. “لم يسمحوا لنا باصطحاب شيء.. فقط ملحفتي.. وبقيت وثائقي ووثائق الأبناء.. الملحفة التي ألبس الآن أعطتها لي أحداهن”.. تعلق وقد نكست من رأسها.
رفضت لاله مريم، وبإلحاح أن نلتقط لها صورة.. دخلنا في مفاوضات ماراتونية من أجل إقناعها بضرورة التصوير.. قالت انه “يكفيها إراقة لماء وجهها أن تتحدث للإعلام عن معاناتها، أما نشر صورها على الانترنت وفي الصحف فهو إذلال لها ما بعده إذلال”، ومن العجيب أن جميع أفراد الأسر الأربعة رفضوا، وبإصرار أن نلتقط لهم أي صورة.
“لم تقم الدولة بأي تدخل في صالحنا، ونحن العائدون الى الصفر.. لا منزل.. ولا معيل.. وموارد مالية، اليوم حاولت عبثا أن أجد منزلا للإيجار، عل أن أجد ما أسدد به قيمة الإيجار.. كان الإيجار غاليا جدا.. ارخص منزل قيمة إيجاره 35000، ومن أين لي بخمسة وثلاثين ألف أوقية” تواصل لاله مريم.
طوال سنوات الأسرة العشرين في ليبيا، لم تنجح في توفير قرش أبيض لمثل هذا اليوم الأسود، فقد كانوا يعيشون على الكفاف، تعينهم مجانية الخدمات الصحية والتعليمية وما أشبه.. كان الأب يعمل جزارا في مدينة الصرفان.. وكانت ليبيا على ظنهم محطة الاستقرار النهائية.
الأبناء السبعة في مراحل التعليم المختلفة من الجامعة وحتى الابتدائي.. خسروا على الأقل سنة من تحصيلهم الدراسي، وما زالوا بحاجة إلى تأهيل يمكنهم من التأقلم مع مجتمع جديد بالنسبة لهم.
“لولا أن المحيط الاجتماعي الذي تنتمي له لاله مريم تدخل على جناح السرعة.. وقام بتوفير مبالغ مالية لإغاثتها وأبنائها لكان الوضع سيئا للغاية” يعلق يمهلو قريب العائلة.
قبيل مغادرتنا لمنزل الأسر المسفرة، توقفت أمام بابه الذي يغلفه الظلام سيارة لأحد الأقارب.. لتغادره ببغض سكانه.. هدف الرحلة، وببساطة، هو تناول العشاء عند إحدى الأسر.
على الجانب الآخر.. تبدو المعاناة أكثر بشاعة، عندما تعلم أن ابن رقية شقيقة لالة مريم، الذي يبلغ من العمر أربع عشرة سنة، توقف عن الدراسة لسبب بسيط، قد لا يكون تخمينه متعبا لقارئ القصة.. انه الفقر.. ولا شيء غير الفقر.. وقديما قالوا “كاد الفقر أن يكون كفرا”، ولكنه أصبح هو سبب الجهل وتدمير مستقبل طفل، يوجب القانون الموريتاني أن يكون في المدارس مثل أقرانه، كما في حالة عزيز ولد سيدي محمد ولد صالح، المولود عام 1996 في ابيدجان.. والذي وصل إلى نهاية المرحلة الابتدائية في المدارس الايفوارية، لكن موت الأب ونزوح الأم فرض عليه، وهو الضعيف البنية أن يكون معيلا قبل الأوان.
يقضي عزيز سحابة نهاره في تقاطع الطرق، وهو يحمل أدوات تنظيف بسيطة: سائلا منظفا ومنشفة ويدا صغيرة، أرغمت ان تدخل الميدان الخشن، وينظف زجاج السيارات التي يرغمها الزحام أو الضوء الأحمر على أن تتوقف ولو لدقيقة، قد يزجره احد السائقين، وأحيانا لا تقابل مجهوداته باي تعويض مادي، فبعض السائقين يظنون أن عمله يدخل في باب الهواية والحفاظ على المنظر”السياحي” للمدينة، ولا يدرون أن وراء الأكمة ما وراءها، وأحايين أخرى ينفحه بعضهم بنقود قد تكثر او تقل، تبعا لمزاج صاحب السيارة، ومدى أريحيته في لحظات التوقف أمام الضوء الأحمر.
يعود عزيز العامل الصغير في المساء متعبا.. ولكنه يعود بمبلغ مالي يساهم على أي حال في تدبير المنزل متعدد الأسر.. وفي الصباح موعد له مع رحلة أخرى..فـ”الرأس الذي تحته الرؤوس ما ايظل ولا ايبات” على حد تعبير المثل الحساني.
عملت فاطمة، شقيقة السيدات النازحات ومستضيفتهن، والنازحة مثلهن للبلد منذ أربعة أشهر بعد اندلاع المعارك بين أنصار الرئيسين الخاسر والفائز في بلد هوفوت بونيي: اغباغبو وواتارا، مسيرة وطباخة في مطعم صغير يملكه احد الأقارب، كان العمل يوفر لها بعض المصروفات التي هي في أمس الحاجة إليها، لكن المطعم لم ينجح في اكتساب الزبناء، ليكون مصيره الإغلاق، ومصير مسيرته “أم النازحات، وأخت النازحات” العودة الى المنزل.. لتبدأ رحلة بحث شبه سيزيفي عن مورد يساهم في إطعام الأفواه الجائعة.
داخل المنزل تكدس السكان في الغرف الثلاث، وتموقعت الشموع في الزوايا، وأمسك طفل او اثنان من محظوظي العائلة دفاترهم ليراجعوا دفاترهم، فيما كان للغات الإفريقية التي يتحدثها أهل ساحل العاج حضورها الى جانب اللهجة الليبية.. فنحن في منزل النازحين.
تطالب الشقيقات الاربع الدولة ان تتدخل على جناح السرعة، فالوضع في المنزل الذي يقع في اكبر مقاطعات العاصمة كثافة سكانية خطير جدا، وناشدت لالة مريم بنت احمد فال الرئيس محمد ولد عبد العزيز للتدخل شخصيا لتخفيف المعاناة عنها وعن شقيقاتها.
قصة معاناة لا يتصورها على ما هي عليه إلا من زار العائلة المنكوبة، واستطلع عن قرب أوضاعها المأساوية.. فاللغة أحيانا تعجز عن نقل المشاهد كما هي.. ويبقى عند كرام المعادن من الناس بعض كبرياء، يصرون على الاحتفاظ به، مما يجعل البوح دوما تحت سقف الواقع، والأنين تمثيلا جزئيا للألم.
حالة بنات احمد فال تستحق أن تكون موضوعا لفيلم وثائقي، رغم أن أبطالها رفضوا التصوير الفوتوغرافي، يجسد معاناة الموريتانيين العائدين من أماكن الحروب، وهي مختصر مفيد للمآسي التي يعيشها من داهمتهم الحرب في المكان الخطأ، ليعود إلى ارض لا يجمعه معها إلا الجذور، ولا يملك فيها أي أموال.. ويحتاج، حتى، للتعرف أو إعادة التعرف عليها.
ملاحظة: تحتفظ “صحراء ميديا” بعناوين الأسرة، ويمكن أن تزود بها كل الجهات والأفراد الراغبين في المساهمة في مساعدتها.