نواكشوط ـ سعيد ولد حبيب
أمام شاشة بلازما عريضة تستكمل أمينة تفاصيل الصورة الفوتوغرافية، تضع الخطوط.. تزيل وتضيف الرتوش، تغرقها في اضاءة ثم تغمقها في بحر ألوان ، فتختار اللون والحجم والقياس.. إنها تعيد إنتاج اللقطة التي لفظتها ماكينة الديجيتال الصغيرة بعد كبسة زر من أناملها، قبل لحظات، في مكان مغلق، اغلب زبائنه من الرجال.
لقد خلقت الصورة التي يريدها صاحبها للأرشيف، أو للسفر، أو لغيرهما من الرغبات الأخرى، بيد أنها خلقت حولها هالة من الاهتمام والإثارة عندما امتهنت حرفة تفرض عليها الخلوة بالرجال في مجتمع يرى في ذلك خطورة على شرف المرأة وخروجا على عادات تحشر المرأة في زوايا بعيدة عن حياض غير المحارم …!
العقدة الاولى …
داخل معمل مجهز بأحدث المعدات، تعمل بجد أول مصورة فوتوغرافية في موريتانيا.. وهي في عقدها الخامس تبدو كشابة في الثلاثين.. تحظى أمينة بمساعدة بناتها فتعمل على أرشفة الأفراح وإفراز الصور المطلوبة للوثائق والملفات المعلقة بالعمل او السفر او الدراسة، غير آبهة بما قد تتعرض له من سخرية في المجتمع.
تتداخل أبعاد الصور التي تنغمس في إعدادها كنسيج متجانس، بينما تتناثر نظرات زوجها الدبلوماسي العراقي المتقاعد إعجابا؛ وسط المحل الذي تحول في فترة وجيزة إلى خلية نحل تعمل ليل نهار لتقديم خدمات سريعة للزبائن، تعرفت أمينة على زوجها العراقي في نواكشوط حينما كان موظفا في السفارة العراقية .. منذ ارتباطها به لم تكترث تلك المرأة بما قيل عنها لتفك بزواجها منه، أول عقدة في مشوار الألف عقدة، فالمجتمع الذي تنتمي إليه من العصي عليه قبول زواج البنت بغير ابن عمها، أحرى إذا لم يكن من بلدها، ويعتبر ارتباطها بغير ابن العم نقصانا في سعادتها و كفرا بقيم اجتماعية متوارثة.
نصف الصورة “من العراق”
حركة دؤوبة من الجنسين تشهدها أروقة معمل أمينة للتصوير الفوتوغرافي، وهي بجهودها تلك أصبحت أول سيدة موريتانية تمتهن التصوير الفوتوغرافي من خلال وحدة تصوير خاصة بها، وقد تخطت الخطوط الحمراء لمجتمع يرى في عمل المرأة في هذا المجال خروجا على الأعراف.
ويرى خبراء اجتماعيون أن المجتمع الموريتاني المحافظ لا يقبل بممارسة المرأة لمهنة تفرض عليها الخلوة مع الرجال لكن أمينة كسرت القاعدة ليس خروجا على القيم ولكنها الرغبة في تحقيق حلم،” كان لدي حلم ممارسة مهنة التصوير منذ نعومة أظافري، وقد تزوجت ورحلت إلى العراق.. هناك كانت التجربة غنية “، تعلق أمينة وتضيف: “في بلاد ما بين النهرين تتمتع المرأة بحرية أكثر، وفيه أكثر من ظروف تلهمك للتصوير، مشاهد العنف ومناظر “الاركيلوجيا” وجدوال الماء وهامات النخيل الباسقات وتراث يعيدك إلى ما قبل التاريخ، وعادات وتنوع ثري، مشاهد كان لها تأثير كبير في تكوين الذوق بالنسبة لي”، تعلق أمينة وهي تضغط بزر على ذلك المجسم الصغير في غرفة التصوير، وإذا كانت الصورة الذهنية قد توفرت لدى أمينة وهي في العراق فان الصورة الحقيقة لتحقيق حلمها قد اكتملت في نواكشوط، عندما عادت رفقة زوجها المتقاعد وبناتها اللواتي يدرسن، “جئت إلى موريتانيا وأنا احمل هذا المشروع، أعرف أن الناس هنا لم تكن تحب الصورة، وبالتالي ضاعت العديد من الأفراح والحفلات لان أهلها لم يكونوا يحبون التصوير من الرجال، وعندما جئت عملت على رفع اللبس وكسر حاجز الحياء الشديد لدي العديد من السيدات فوفرت لنساء المدينة، معملا للتصوير يمكنهن من خلاله تسجيل أفراحهن، بواسطة مصورة أنثى مثلهن فزال الحرج وأصبحوا يفدون إلي المعمل باستمرار لقد عملت على تشجيع النساء لتسجيل أفراحهن في بيوت ليس بها الذكور”.
يكشف زوار معمل أمينة للتصوير الفوتوغرافي في نواكشوط عن مشاعر من الاحترام والإشادة بجهود امرأة، أنجزت باجتهادها قصة نجاح عندما غضت طرفها عن ما قد تتعرض له من انتقادات، وكرست جهدها للقيام بدور البديل في العناية بالأسرة عندما تسلم الزوج رجل البيت الأول وثائق التقاعد لتمسك أمينة بداية مشوار حياة زوجية واجتماعية سعيدة يقوم فيها كل بدوره كما هي سنة الحياة ، وتمضي أمينة في تجربتها مزهوة بنجاحاتها في هذا المجال وفاتحة عهدا جديدا للمرأة الموريتانية التي بدأت شيئا فشيئا تطلع بدور فاعل في الحياة العامة لبلادها .