يقع الكتاب الصادر عن “مطبعة المنار” بالعاصمة نواكشوط في حوالي 340 صفحة من الحجم المتوسط، ويبدأ بتقديم شيق كتبه الشيخ محمدْ ابن الشيخ بابَ خيْ القيم على محظرة “أفجار” وهي قرية معروفة على نطاق واسع في ولاية اترارزة، وهي مسقط رأس الأستاذ محمدُّ سالم ابن جدُّ، تناول فيها ملامح من نشأة المؤلف، وبعض من تاريخ أسرته، والسياق العام لحياته وتحصيله العلمي.
وتؤكد المقدمة أن محمدُّ سالم لم يكن إلا نبتة نمت في تربة طيبة خصبة، من العلم والدين والأخلاق الفاضلة.. ونتاجا لمسيرة اجتماعية تاريخية مظفرة، جبل أهلها على حب القرءان ولغته، وإقامة الدين الصحيح كما جاء من نبعه الصافي الزلال.
ورغم أن المقدمة لم توف أستاذنا محمدُّ سالم حقه، إذ أنها لم تستفض في تعداد مناقبه الجمة، ومواهبه الفذة، وغيبت الشاعر الكامن فيه، ولم تبن عن براعته في الطب الشعبي، ولم تعرج على سرعة بديهته، وتمكنه من معظم اللغات الوطنية المنطوقة محليا، وفى مقدمتها اللغة الصنهاجية (كلام ازناكه) شبه المنقرضة، إلى جانب كونه خبير معلوماتية فائق الخبرة، ومدققا للغة العربية في عدة صحف وطنية ومؤلفات محلية، إلا أنها -على أية حال- ألقت الضوء على جوانب مهمة من حياة هذا الوجه الثقافي البارز محليا؛ والذي اختار لنفسه البقاء خلف الأضواء، ليعمل بصمت ونكران للذات في خدمة الأدب والثقافة والإعلام.
بعد المقدمة نجد تقديما أو مدخلا اختاره المؤلف توطئة لعمله القيم، واضعا العمل في سياقه، منبها إلى أنه عمل نابع من حب قديم وراثي ومتجدد للقرآن ولغته، وأن العمل – أولا وأخيرا- هو استجابة لرغبة شخصية في خدمة اللغة العربية، التي يقول عنها بالحرف :”عشقتها في شتى ثيابها ومختلف مواطنها وأفردت قلبي لها عن كل لسان”.
بعد تلك التوطئة -التي سلكت مسلك المختصر المفيد- يدخل بنا المؤلف مباشرة إلى شرحه لشواهد القاموس، حيث وجدنا أنفسنا في كنز حقيقي من المعارف اللغوية الفذة المسورة بشلال معلومات موثقة ومدققة، تناولت أشعار العرب وأيامهم، وأعلامهم وغريب لغتهم، وجمهرة من أمثالهم وأشعارهم.
والرائع في عمل الأستاذ ولد جدُّ – بالإضافة إلى كونه عملا بكرا وفريدا من نوعه- أنه ألف لنا قاموسا جديدا، قد يشغلنا حتى عن العودة للقاموس المحيط، تماما كما يسحر الناس بذيل الطاؤوس، وينشغلون بالافتتان به عن النظر إلى بقية جسمه، كما توضح مقدمة الشيخ ولد باب خي بأسلوب شيق لا تكلف فيه ولا إسفاف.
ونرى أن هذا العمل البديع لم يوف حقه إعلاميا، حيث لم يحظ بالاهتمام المناسب من طرف وسائل الإعلام المحلية على اختلاف مشاربها ومسمياتها، في نفس الوقت الذي تنصرف فيه الصحف والمواقع الالكترونية المحلية إلى نشر مقالات ومواضيع أقل أهمية، لا تقدم جديدا ولا تحرك الساحة الثقافية المحلية.
إن الأستاذ ولد جدو قدم كتابا عظيما، وجهدا جديرا بالتوقف عنده؛ خاصة من طرف المهتمين باللغة العربية وعلومها ولسانياتها.. فالكتاب قدم شواهد القاموس تحقيقا وشرحا، مع كم هائل من المعلومات المتعلقة بها من حيث الإطارات الزمانية والمكانية، والتعريف بالأعلام والشعراء، والخوض في السياقات الأدبية والتاريخية لتلك الشواهد.
ليست هذه إلا عجالة أردنا من خلالها الإشادة بهذا الجهد، والتوقف معه باعتباره يقدم إثراء للمكتبة الوطنية، والتوقف عند مؤلفه الذي هو أستاذنا وشيخنا في اللغة العربية وعلومها، وهو -إلى ذلك- قامة فارعة في سماء الأدب والثقافة العالمة، وقمة من قمم الصحافة والإعلام، سخر نفسه لخدمة مواهبه وهواياته، مبتعدا عن الابتذال، متحملا في سبيل مبادئه ورسالته كل المشاق، صابرا محتسبا قانعا مبتعدا عن فتات الموائد ومظان التكسب والارتزاق، قابضا على جمر خدمة القرآن ولغته، لا تأخذه في ذلك لومة لائم.. فجازاه الله خيرا عن العربية وعشاقها ومريديها.. وجعل عمله هذا في ميزان حسناته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حبيب الله ولد أحمد