أشرطة لسيد أحمد البكاي ولد عو، ولديمي بنت آب، وأخرى للمعلومة، إضافة إلى تسجيلات نادرة لفنانين من بولار وسوننكي، ولا تغيب الموسيقى العربية، كلها من نوع الكاسيت… هذا بعض ما يجده الزائر في متحف بمدينة أطار، عاصمة ولاية آدرار شمال موريتانيا.
آلاف الأشرطة جُمعت على مدى ربع قرن، حيث جاب محمد ولد ابليل شرق وغرب وجنوب وشمال موريتانيا، يلاحق كل شريط نادر يقوده شغفه إلى جمع هذه الكنوز وتحويل منزله الصغير إلى متحف يُعد الأول من نوعه في البلاد.
من داخل المكتبة، يتسلل صوت الفنانة ديمي بنت آب وهي تترنم بلحن قديم، فتستحضر ذكرى زمن ولى، ويسحب هذا الصوت الزائر إلى عالم مفعم بالحنين، عالمٍ كانت فيه الأشرطة والمسجلات تروي حكايات وتحفظ ذكريات لا تُنسى.
على رفوف المكتبة، تصطف آلاف الأشرطة، يحمل كل شريط منها قطعة من التاريخ، وتغلفها صور للفنانين والفنانات الذين جعلوا من الموسيقى والغناء فناً نابضاً بالحياة في زمنهم.
يتذكر ولد ابليل، وهو يحدق في أحد الأشرطة بعينين يملؤهما الشغف، رحلته الطويلة في جمع هذه الكنوز، فقد جاب مدن البلاد بحثاً عن الأشرطة القديمة، وكان يشتريها من أصحابها عند الحاجة، حفاظاً على هذا الإرث الثقافي، وسعياً لإحياء ذكريات ماضٍ عريق.
ويقول ولد ابليل إن المتحف هو ثمرة حوالي ربع قرن من الجهد، بدأه في عام 2001، عندما شعر بأن الأشرطة مهددة بالاندثار مع بروز تقنيات التشغيل الرقمي.
ويضيف، في حديثه لصحراء ميديا، أنه حين بدأت التكنولوجيا تسحب البساط تدريجياً من تحت الأشرطة، انتابه القلق على مستقبل “هذا التراث الثمين”.
ويتابع: «كنت أتساءل ما إذا كانت الأشرطة ستندثر تماماً، وما مصير هذا الجزء الهام من تاريخنا وثقافتنا».
نافذة على الماضي
عايش محمد ولد ابليل العصر الذهبي للمسجلات التي تُشغَّل فيها الأشرطة من نوع “الكاسيت”، وحضر عشرات حفلات الزفاف التي كانت تضفي البهجة والفرح على الأجواء.
يقول ولد ابليل إنهم كانوا يتحلقون حول المسجلة ليستمعوا إلى الأغاني والمعزوفات الموسيقية، ويصفقون على إيقاعها ويتفاعلون معها، مضيفاً: «كانت تعبر عن مشاعرنا وأحاسيسنا».
تلك الحفلات تركت أثراً عميقاً في نفسه، وعلى الرغم من تطور التكنولوجيا التي قضت على كثير من مظاهر الماضي، فإن الأشرطة بقيت بالنسبة له تحمل قيمة خاصة وذكريات لا تُنسى.
اليوم، يشكل هذا المتحف ملاذاً لعشاق الفن والموسيقى القديمة، حيث يمكن للزوار الاستماع إلى الأشرطة النادرة والاستمتاع بها.
ويرى ولد ابليل أن المتحف «فرصة لا تُعوَّض للشباب ليستمعوا إلى الفن الأصيل ويتعرفوا على تاريخنا الثري، وهو ما يمنحني الفخر وسعادة عميقة».
من الكاسيت إلى الرقمنة
بدأ منذ سنتين العمل على مشروع رقمنة هذه الأشرطة، ورفعها على منصة على الإنترنت لا تزال قيد الإنشاء، يمكن للجمهور وعشاق الموسيقى الكلاسيكية من خلالها الاستماع إليها.
يسعى عبر هذا المشروع إلى إعادة إحياء تلك الأشرطة وجعلها متاحة أمام الأجيال الشابة للتعرف على مورثهم الثقافي والفني.
في هذا السياق، يوضح محمد أنه من خلال تحويل هذه الأشرطة إلى صيغة رقمية، يهدف إلى إتاحة الفرصة للجميع للاستماع إليها والاستمتاع بالموسيقى الأصيلة التي تمثل جزءاً من تاريخ البلاد.
التراث الثقافي هو ذاكرة الشعوب، ولا يجوز أن يُترك للضياع. من هذا الوعي، اختار محمد ولد ابليل أن يشرع في رقمنة الأشرطة القديمة، حرصًا على إبقائها حيّة ومتاحة أمام الأجيال القادمة، ليتعرفوا من خلالها على موسيقاهم الكلاسيكية النقية، كما كانت تُعزف في زمن كانت فيه الموهبة وحدها تصنع الفن، بعيدًا عن المؤثرات التقنية الحديثة.
ويشير ولد ابليل إلى أنه تمكن حتى الآن من رقمنة نحو ألفي شريط موسيقي نادر، معظمها لم يُستمع إليه من قبل، إذ لا توجد له نسخ سوى تلك المحفوظة داخل المتحف.
يتطلع ولد ابليل لأن يكون هذا المشروع مصدر إلهام للشباب، ليعرفوا تراثهم الثقافي ويقدروه، ويسهم في نقله إلى الأجيال القادمة بشكل يعزز الهوية الوطنية.
ويتابع: «هذه الأشرطة القديمة تحمل قصصًا تعكس جوانب مختلفة من حياة الناس وثقافتهم في موريتانيا، من خلال تحويلها إلى صيغة رقمية، نحن لا نحافظ فقط على هذه الذكريات، بل نجعلها متاحة للعالم ليستمتع بها ويستفيد منها».
وخلص إلى القول: «هذا المشروع لا يقتصر دوره على رقمنة الأشرطة فقط، بل يهدف إلى الحفاظ على جزء من هويتنا وتاريخنا، وتوثيقه ونقله للأجيال.. إنها فرصة للجميع للاستماع إلى فنانين يعدون من أعلام موريتانيا، ولذلك أعتبر هذا المشروع مهماً لتراثنا ولمستقبلنا الثقافي».