ها هي دورة المجلس الأعلى للقضاء قد انتهت، وتلك التحويلات قد استكملت وهناك التعليقات ربما قد بدأت، لكن قبل هذا وذاك، ومن باب تذكرة لأولي الألباب، ارتأيت استحضار بعض الملاحظات تبدو بالنسبة لي مفيدة ونعي كل المفاهيم قطعا البالية والتليدة بهدف اقتناء مناهج صالحة ونبذ تلك الطالحة وفرض سبل التأقلم كما تقتضي ذالك العصرنة وتتطلبه المدنية بغية تحديث قطاع طالما انتظر ذالك، حتى استيأس الناس وظنوا أن لا ملجأ من الفساد إلا إليه.
إن قطاع العدالة، بحق هو من أكثر القطاعات تعقيدا وأكثرها حساسية وبالمقابل قدرة علي المشاركة بفعالية في إنجاح أي مخطط تنموي، فالقضاء الموريتاني معروف بثرائه وتنوع مصادر المعرفة فيه، غير أنه لابد من تحديثه وعصر نته والتضحية في سبيل ذالك مهما كلف الأمر، وجعله وسط القافلة وفق رؤى القائمين عليه، فهؤلاء وحدهم من وقع عليهم الاختيار دون غيرهم فلا اشمئزاز ولاضير.
من هذه الزاوية يتوجب إذن علي الجميع، وهذه أولي ملاحظات هذه المداخلة، فهم قدسية العدل وأهميته والتحفظ إذا ما تعلق الأمر بالعدالة أو القضاة. فالله تبارك و تعالي وصف القضاة بأنهم خليفته في الأرض وجعل العدل من أسمائه الحسني. لتكون بذالك المسؤولية الملقاة علي عواتق القضاة جسيمة وعظيمة لدرجة لا توصف.
وفي هذا الإطار أشير إلي أن ما زودت به بعض المواقع مؤخرا من معلومات مفادها أن قضاة انتزعت منهم الثقة غير صحيح ويأتي وفق عمل ممنهج لقلب الحقائق ومغالطة الناس، فلم تنتزع الثقة من أحد ولم يعزل أيا كان، فما حدث مؤخرا إجراء إداري ليست المرة الأولي ولن تكون الأخيرة القائمون علي القطاع وحدهم ادري بخلفياته وتبعاته، كغيره من الإجراءات التي اتخذت في هذا البلد وتتخذ وظن الكثيرون بل ويتمنون ظلمها وعكسها لحاجة في نفس يعقوب الله وحده اعلم بها.
الملاحظة الثانية التي أردت استحضارها في هذا المقام انه لم يعين أحدا ناطقا رسميا للكلام باسم المجموعة، ولم يكلف بالدفاع عنها، فلا فرق بيننا وزملائنا من الممارسين وما زلنا نحظي بالوصف دون مضايقة فلم ينتقص الراتب ولم تسحب البطاقة ولم تعد التقارير ولم توفد بعثات التفتيش، فالمفترض إذن أن نستحضر قول الله تعالي (قال هذا أخي له تسع و تسعون نعجة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب) وان لا نرغب كثيرا ونبذل الجهد في تقلد المناصب العليا في القطاع وممارسة المهام الإجرائية إذا لم توكل لنا تلقائيا.
إن مواكبة مسيرة التنمية والسير المسرع للقافلة، أمور من بين أخري تفرض أكثر من أي وقت مضي التأقلم والاستعداد للتضحية وتثبيت الثقة، وفي هذا الإطار وبينما كنت أتصفح موقع “أقلام حرة” يوم الاثنين الموافق 27/12/2010 في تحديثه عند الساعة الثالثة بعد الزوال إذ طالعت خبرا مفاده مقابلة نشرت نفس اليوم مع أسبوعية La Tribune أجراها رئيس الجمهورية يبدى فيها أسفه على ما تم انجازه خلال خمسين سنة منذ الاستقلال إذا ما قورن مع إمكانيات البلد ليستطرد ويقول:”” حتى القضاة يعانون من تدهور التعليم، فالكثير يظن خطا أن مشكلة القضاء هي الرشوة وينسى ضرورة تكوين القضاة لأداء مسؤولياتهم على أكمل وجه”” وهنا بيت القصيد وهذه الملاحظة الثالثة مما يجب فهمه جيدا والعمل بمقتضاه.
إن التكوين العلمي هو العمود الفقري والأساس الصلب والحصن المنيع لكل تنمية يراد لها الاستمرار، أكثر من ذالك سيشكل حتما سورا رفيعا علي تلك الثقافة الواسعة والعلم الغزير حيث هذه خصال حميدة كانت لجل قضاتنا.
إن الثقافة التقليدية رمز من الرموز الواجب حمايتها فلقد شكلت منذ غابر الأزمان صرحا اشرأب عليه تاريخ هذا البلد وقامت وحدته وذاع صيته في أرجاء الدنيا فتخرج علماؤه وتسلح أبطاله للمقاومة الفساد والمفسدين من مستعمرين وغيرهم، حتى شكلت وقتها منهجا تربويا فريدا وتكوينا علميا نادرا. استحداث وعصرنة هذه المناهج هي اليوم إذن ساحة معركتنا ومن ثم تبدو الحاجة ملحة إلي التكوين بمفهومه العصري، تكوين يحمل في طياته تكوينا آخر لشخصياتنا سيحملنا علي الممارسة المدنية والتطور.
فعلي المستوي الشخصي يرتفع الموظف عن الكثير من الممارسات التليدة والتي تعكس بموضوعية فترة ظلمات بعضها فوق بعض أي لابد من بذل مجهود شخصي يرتكز في الأساس علي مظهر خارجي يليق بالقطاع يساهم في فرض احترامه ويعيد له المصداقية، فمن غير المقبول اليوم بعد كل التضحيات المقام بها ان تسيطر أدران الماضي في المظهر والممارسة المدنية، فاستغلال سيارة غير مجمركة! غير مقبول السير في الاتجاه المعاكس! مرفوض، التعامل مع الأعوان!……………………..الخ
وعلي المستوي المهني فلابد من التكوين العملي وهنا أيضا لابد من المجهود الشخصي والرسمي فعلي سبيل المثال يكون المتقن لاستغلال الشبكة العنكبوتية بامكانه التطلع بسهولة لما يجري في العالم حوله من ملتقيات وندوات متخصصة ستمكنه المشاركة فيها من تحسين وتطوير أدائه علي النحو المطلوب، وهنا لايمكنني إلا أن انوه بما فعله أحد القضاة مؤخرا حيث ذهب الي فرنسا واستفاد من فترة تكوين سجل لها بطريقته الخاصة أكسبته خبرة حتما ستعود بالنفع علي أدائه المهني.
فمن أحيل إلي الوزارة إذن ليس ذلك تحقيرا ولا تقليلا من شأنه مرة أخري فلم تنتزع الثقة من أي كان، و من كلف بالممارسة فتلك مسؤولية جسيمة فليخشي “يوم التلاقي يوم هم بارزون” وليتق الله “يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها” وليتذكر “ها انتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة“.
ختاما، الأمر يتعلق بإستراتيجية قطاع حساس القائمون عليه أدري بحيثياتها وسبل تحقيقها وما يحتاجونه، والقطاع، هو عون الجميع وتكاتف جهود الكل نابذا الحساسيات غير الشريفة والتحاسد فالكل من موقعه له واجبات ويتحمل مسؤوليات، وبذلك وحده يتحقق العدل ويعم الرخاء وان لم يتساووا في الأجران ففي الواحد هم متساوون ولمثل هذا فليعمل العاملون.
الشيخ محمد