“حمدت الله أنها التقته، وأنه احتال عليها، وأن سيارتها تعطلت بفعل الدليل، فلولاه لما تعرفت على موريتانيا”
لم تسمع عن موريتانيا شيئا حين أرادت البرتغالية “إيزابيلا فيديرو” السفر إلى غينيا بيساو، فمعلوماتها عن إفريقيا تقتصر على المستعمرات البرتغالية، كان ذلك قبل 13 عاماً، حين توقفت رحلتها في موريتانيا بعد أن احتال عليها دليل سياحي ليستحوذ على سيارتها، اليوم تملك بيتاً “فنياً” في قلب نواكشوط.
اليوم تتحدث إيزابيلا أو “عزيزة” -كما يناديها البعض- اللهجة الحسانية بلكنة أعجمية، وتتحدث اللغة الفرنسية أيضا، وهي التي لم تكن تعرف عن موريتانيا ولهجاتها أي شيء، ولا عن اللغة الفرنسية سوى أنها لغة نابليون، وجان جاك روسو، وهي ذات جذور مشتركة مع لغتها البرتغالية الأم.
رحلة البرتغاليين إلى إفريقيا
وهي تحزم أمتعتها في بحر لجي من الأفكار والتصورات عما عليه إفريقيا، كانت “إيزابيلا” تعرف أن القارة السمراء في الإعلام ليست كما هي في الواقع دائما.
في وفد من البرتغاليين من أصدقائها، الذين اقترحوا عليها الصحبة في الطريق، عبرت البحر الأبيض المتوسط، في مجموعة من السيارات من اسبانيا إلى المغرب عام 2003؛ بانحدار بسيط عن مسار أسلافهم من البرتغاليين، الذين ركبوا المحيط الأطلسي للوصول أول مرة إلى الشواطئ الموريتانية قبل مئات السنين.
عبرت سيارات البرتغاليين المغرب من شماله وحتى وصولهم لجنوبه، حيث بدأت الحياة تكون أكثر هدوء ورتابة، عما عليه في الضفة الأخرى من المتوسط، وكلما اقتربت من الحدود الموريتانية اتسعت الأرض وقلت الساكنة، وارتفعت درجات الحرارة، وشوهدت الابتسامة على الوجوه، في مشاهد لم تعهدها المواطنة البرتغالية، التي قضت 15 عاما من عمرها في لندن، حيث السرعة وضغط العمل، والجدية، ودرجات الحرارة المنخفضة، والملامح الباردة.
الحمد لله على لقاء “البندي”
عام 2003 لم يكن يربط بين نواكشوط ونواذيبو إلا الجو، والمحيط الأطلسي، أو المسالك القريبة من شواطئه، وتلك يحتاج المار منها للاستعانة بدليل، وهو ما استقر عليه أمر الوفد البرتغالي الذي يضم “إيزابيلا”، دون أن تعرف هذه الأخيرة أن هذا الدليل الذي وصفته حينها “بالبندي” أو اللص، ستجلس بعد ذلك بسنوات لتقول بلهجة حسانية واضحة ” الحمد لله الل جبرت البندي”.
في حديثها لـ”صحراء ميديا”، تقول “ايزابيلا” إنها أدركت أن سيارتها أعجبت الدليل الذي استعانوا به ليوصلهم إلى نواكشوط، وأنه قام بوضع مسحوق في “الرادتيير” أدى إلى تعطلها في مكان ما من حوض آرغين، لتضطر إلى تركها في ذلك المكان.
ما لا تعرفه هي حينها أن أسلافها من البرتغاليين، وصلوا إلى الشواطئ الإفريقية وإلى حوض آرغين بالذات، خلال القرن الخامس عشر بأمر من الملك “ألفونصو الخامس”، وأقاموا به عدة موانئ، للتبادل التجاري مع السكان المحليين، وسعوا إلى معرفة نمط حياة السكان القاطنين تلك الشواطئ.
وهي عزت عدم معرفتها لذلك، إلى أن المرحلة الدراسية التي تقرر فيها دراستها لجانب من التاريخ البرتغالي، تزامن مع الثورة البرتغالية عام 1974 والتي أعقبها عدم ثبات في المناهج الدراسية، فكلما جاءت حكومة غيرت في المنهج، وكل تغيير يصاحبه إضراب، إما من قبل الأساتذة أو الطلاب، حتى تخطت مرحلة دراسة الوجود البرتغالي في بعض الشواطئ الإفريقية، والتي منها موريتانيا.
انبهرت المرأة البرتغالية بموريتانيا وبصحاريها الشاسعة، ولأن سيارتها تعطلت في مكان ما على شاطئ الأطلسي، قررت عدم المواصلة في اتجاه المستعمرة البرتغالية السابقة غينيا بيساو، حيث وجهتها في الأصل، أقامت قبل عودتها إلى البرتغال في إحدى الإقامات بنواكشوط، حيث التقت مواطنا فرنسيا سيصبح بعد ذلك بسنوات زوجا لها.
عادت بعد ذلك بعام إلى موريتانيا لتقيم فيها، استقرت في آدرار لفترة، حيث وصفت بالمجنونة البرتغالية، وزارت لبراكنة، وغورغل، والحوض الغربي، وولاتة في الحوض الشرقي، وقري حوض آرغين.
تقول “ايزابيلا” إنها تعلمت اللهجة الحسانية من النساء الموريتانيات، لأن عملها كان في الغالب معهن؛ منهن تعلمت ارتداء الملحفة التي أثارت استغرابها أول مرة، حين رأتها في الجنوب المغربي، تماما كما استغربت من الزي الرجالي الموريتاني “الدراعة”.
منزل على شكل معرض
في منزل بسيط وأنيق في أحد أحياء تفرغ زينة، وبالقرب من المكتب الوطني للسياحة، تتخذ إيزابيلا مسكنا ومعرضا، وهي التي وصلت أول مرة إلى موريتانيا كسائحة عابرة باتجاه الأدغال الأفريقية، فالصدفة وحدها هي التي جاورتها مع هذا المكتب الذي أوكلت إليه مهمة التعريف بالسياحة في موريتانيا.
في بهو المنزل الخارجي أزواج من القنافد تتحرك بسرعة أمام الدالف إلى المنزل، متخذة من الشجيرات الصغيرة مِـجـنًا تحتمي به من نظرات الزوار التي ترمقها بانبهار وتعجب، وربما بسعادة، لرؤية هذا الحيوان في قلب العاصمة.
قبل مدة خرج أحد الحيوانات الصغيرة عن نظام زملائه ربما بالصدفة، فالصدفة هي التي سيرت حياة المواطنة البرتغالية في كثير من المناحي منذ وصولها إلى موريتانيا، هذا القنفد الصغير مرق عن جماعته إلى المنزل المجاور، حيث تعيش عجوز موريتانية قدمت له المأوي دون أن تعرف له أصلا، وحين تتبعته “ايزابيلا” وجدت “الكهلة” ـ كما تقول ـ قد تعلقت به فعز عليها أن تخالف رغبة عجوز بلغت من العمر عتيا، فتركتهما لبعضهما البعض.
منزل إيزابيلا الصغير مقسم بين مسكن ومعرض فني، في جانبه مكان لسكنها وزوجها الفرنسي الذي التقته صدفة حين وصولها إلى نواكشوط أول مرة.
في نصفه الآخر معرض فني به لوحات للفن التشكيلي، وأدوات تقليدية موريتانية تم تصميمها بلمسة عصرية.
تقول “عزيزة” إن بعض الأدوات التقليدية في معرضها من تصميم صناع تقليديين موريتانيين، تطلب منهم في بعض الأحيان إضافة لمسات فنية، حتى تخرج القطعة مكتملة بجهود مشتركة بينهما، ثم تعرض القطع في معرضها وحين تباع يأخذ كل نصيبه.
ايزابيلا فيديرو.. النشأة
ولدت “ايزابيلا فيديرو” عام 1963 في مدينة “بورتيماو” في ولاية “الكرف” وهو اسم تقول إنه عربي محرف وأصله “الغرب”، لأب برتغالي يمتلك شركة في مجال السياحة، وأم اسبانية من مدريد، درست في بلدها حتى بلغت من العمر 20 سنة، انتقلت بعد ذلك إلى انكلترا حيث درست في معهد الفنون الجميلة بلندن، وفيها أقامت لمدة 15 سنة.
تتحدث “ايزابيلا” عن مدينة لندن وعن صعوبتها، فلا مجال للراحة في مدينة الضباب هذه، ولا للابتسامة أيضا.
درست الرسم والفن التشكيلي، لكن رسمها ظل حبيس الخيال، لم ترسم خلال إقامتها في أوروبا ـ كما تقول ـ إلا من خيالها، وهي التي تفضل أن ترسم أشخاصا تعرفهم في الواقع.
موريتانيا أتاحت لها ذلك، فمنذ وصولها بدأت ترسم كل ما تقع عليه عينها، وأنشأت مدونة على الانترنت، تنشر عليها رسوماتها عن موريتانيا، كما ُنشرت لها أعمال ضمن كتاب عن “رسامين من اسبانيا والبرتغال” تضمن بعض للوحات والرسوم عن موريتانيا.
كانت ترسم كل ما تقع عليها عينها، كما عملت في مشروع لرصد حياة بعض قرى إيمراغن، وأرشفت بعضا من تلك الحياة.
نظمت معرضين للفن التشكيلي في موريتانيا، في سنوات مختلفة، وكانت مداخيلها مرضية حسب قولها؛ ليس هنالك اهتمام كبير بهذا الفن في موريتانيا، رغم وجود جمهور يقدره بدرجة كبيرة، كما ترى إيزابيلا، رغم ذلك ما يزال المجال مغريا في هذه البلاد.
تفضل ايزابيلا دائما الحديث بالحسانية، وتسجل كل كلمة أو معنى تسمعه لأول مرة، قبل مدة شاهدت في شوارع نواكشوط، ذلك الدليل الذي احتال عليها أثناء دخولها لموريتانيا، وحرمها من مواصلة السفر إلى غينيا بيساو، لكنها حمدت الله أنها التقته، وأنه احتال عليها، وأن سيارتها تعطلت بفعل الدليل، فلولاه لما تعرفت على موريتانيا، ولما أقامت بها.