في غرفة صغيرة بمبنى تابع لمنظمة إنسانية بولاية كاليفورنيا، وجد “إنجّيه” فرصة للنوم بعد أيام متواصلة من السير على الأقدام في صحراء المكسيك الشاسعة والموحشة.
لقد تمكن من التسلل إلى الأراضي الأميركية بعد أن تسلق السياج الحدودي مع المكسيك، منهيا بذلك رحلة مغامرة بدأها من نواكشوط قبل ثلاثة أشهر، مرورا بحدود تسع دول من بينها البرازيل وكولومبيا وبنما وغواتيمالا.
يتحدث “إنجّيه” بصدمة بالغة عن مشاهد من رحلة ارتفع فيها مؤشر الخطر لحدٍ بات فيه احتمال الموت أرجح من النجاة.
من تلك المشاهد مروره بمضيق في هضبة تقع على حدود بنما وكولومبيا، حين داهمتهم عصابة سلبت ما بحوزتهم وقتلت أحد رفاقه رميا بالرصاص.
كما وجد نفسه مضطرا مع رفاقه لقطع مئات الأميال على أرجلهم يقتاتون على قليل من السكر وشرب الماء الملوث أياما متتالية، وفق ما يروي لـ “صحراء ميديا”.
بيد أن هذا المشوار رغم ما يحفه من مخاطر، بات يشد دائرة اهتمام الشباب الموريتانيين مؤخرا، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن يتسلل عدد منهم لأميركا عبر ولايات حدودية من بينها كاليفورنيا وتكساس.
وساهم تشديد قيود الحصول على تأشيرة الولايات المتحدة في نواكشوط في تفاقم ظاهرة توافد الموريتانيين على الحدود المكسيكية، خصوصا بعد جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية.
يقول “سالم لمين” إنه يتلقى يوميا عدة اتصالات من عائلات موريتانية تتبع أخبار أفراد منها في طريقهم للسياج الحدودي، ويسعى لربطهم بمنظمات إنسانية توفر لهم إقامة لفترة لا تتجاوز أربعا وعشرين ساعة.
مسار الرحلة
تتنوع مسارات الرحلة حسب الوضع المادي للمسافرين، فالمسار الذي يسلكه أبناء الميسورين يمر عبر أوروبا ويمنحهم فرصة دخول المكسيك عبر المطار، ومن ثم التنقل فيها بحرية بما يسهل الخروج من حدودها باتجاه أميركا، حيث يتفادون القيود التي تفرض على من يدخل المكسيك برا.
كما أن هذه الفئة أيضا تتبقى تحت متابعة دقيقة من عائلاتها عبر التواصل الهاتفي وتحويل الأموال في مختلف محطات الرحلة.
وبالطبع فإن فرصة الهبوط في مطار المكسيك تختزل كثيرا من المشوار حيث البلد الأخير قبل أميركا.
أما الطبقة الفقيرة من الموريتانيين فيسلكون مسارا مختلفا، تشكل البرازيل أولى محطاته، ثم يبدأ التنسيق مع عصابات التهريب عبر سماسرة محترفين، ويتطلب الأمر أسابيع للحصول على العدد الكافي من المسافرين.
ويتم استقبال الموريتانيين من طرف أحد المقيمين في العاصمة البرازيلية ويعمل على ربطهم بناشطين في هذا المجال.
يمر هذا المسار بعدة دول من بينها بوليفيا وغواتيمالا وبنما، ويتم استخدام وسائل نقل متنوعة من حافلات وزوارق ثم السير على الأقدام في بعض الأحيان، كما يتطلب الأمر الاختفاء لبعض الوقت في حاويات على الطريق معدة لهذا الغرض، ثم يتراجع مؤشر الخطر نسبيا مع دخول المكسيك.
لكن الوصول إلى الحدود الأميركية المكسيكية يتطلب هو الآخر تنسيقا مختلفا مع مهربين محترفين، حيث تتجه أنظار السلطات لهذا النشاط بموجب اتفاقيات مع أميركا لمواجهة الهجرة غير الشرعية.
كما أن أغلب من ينشط في هذا المجال هم مهربو المخدرات، وتدفع لهم مبالغ معتبرة، مقابل رحلة تتم في أوقات محددة وفي ظروف بالغة الخطورة.
تمتد الحدود المكسيكية مع الولايات المتحدة لأكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر، وتقوم دوريات من الحرس الأميركي بحراسة بعضها، فيما لعب الجدار الذي شيده الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” دورا محدودا في الحد من تدفق المهاجرين، لكن اتساع المسافة وترامي أطرافها يبقي مجالا مفتوحا لاجتيازها بمساعدة مهربين محترفين.
يفضل الموريتانيون العبور عبر مدينة “تيخوانا” الحدودية الواقعة مباشرة جنوب مدينة سان دييجو الأميركية، وكانت هذه الوجهة مسارا دائما للمهاجرين من دول أميركا الوسطى، ثم انضمت لهم مؤخرا أعداد من دول إفريقية من بينها موريتانيا، خصوصا فئة الشباب وبعض العائلات.
ما وراء السياج
بعد الخروج من إدارة الهجرة والجمارك يتجه اللاجئون لمنظمات إنسانية، توفر لهم إيواء يشمل غرفة للمبيت ووجبتين وتؤمنهم لغاية الوصول للمطار أو محطات الباصات، ويتجه الموريتانيون غالبا لولايات إنديانا وأوهايو ونيويورك حيث توجد جاليات موريتانية كبيرة، وتكثر فرص العمل في المحلات التجارية.
كما أن أغلبهم يكون على تواصل مسبق مع بعض أصدقائه أو أقاربه لتنسيق وجهته النهائية.
بعد أسابيع من وصوله يتلقى المهاجر إشعارا من دوائر الهجرة بتحديد موعد لجلسات محاكمة، في سياق البت في طلب اللجوء، ويستغرق الأمر وقتا يختلف من شخص لآخر حسب كل حالة ومبرر صاحبها الذي ساقه لدخول البلد.
وتأخذ عملية البت في طلب اللجوء بين سنة لعشر سنوات، وربما أكثر قبل اتخاذ قرار قضائي بمنح المهاجر حق الإقامة الدائمة أو الترحيل من البلد.
وبعد ستة أشهر من وصوله يحق له التقديم للحصول على إذن عمل في عموم الأراضي الأميركية يتم تجديده كل سنة في انتظار القرار القضائي الحاسم.