أعلنت الحكومة السنغالية، مساء أمس الخميس، سقوط قتيل وعدة جرحى خلال مظاهرة مناهضة لتوقيف السياسي المعارض عثمان سونكو، نظمها أنصاره في منطقة زيغنشور، أقصى جنوبي البلاد، وقالت الحكومة إنها فتحت تحقيقًا لكشف ملابسات ما جرى.
الأحداث الأخيرة أعادت البلاد إلى أجواء مرت عليها قرابة تسع سنوات، حين سقط عدة قتلى في مظاهرات عام 2012، مناهضة لترشح الرئيس السابق عبد الله واد، فماذا حدث ليشعل الأوضاع في واحد من أكثر بلدان أفريقيا استقرارا ؟
تتمحور الأحداث الأخيرة حول السياسي الشاب عثمان سونكو، الذي ولد عام 1974 بمدينة «تييس»، وسط السنغال، إلا أنه قضى طفولته ومراهقته في مدينة زيغنشور، جنوبي البلاد، وهي المدينة التي ينحدر منها والده.
عمل سونكو لسنوات في سلك الوظيفة العمومية مفتش ضرائب، وظل ينشط في الساحة السياسية، ليؤسس عام 2014 حزبه السياسي (PASTEF)، وبدأ يثير الجدل بتصريحاته حول الأجانب والعلاقات الخارجية.
أُخرج سونكو من الوظيفة العمومية بقرار من الرئيس ماكي صال عام 2016، بعد مخالفته لمبادئ التحفظ المهني، فازدادت حدة معارضته لنظام الحكم، واستطاع أن يستقطب فئة الشباب المستاء من الأوضاع في البلاد.
نجح سونكو عام 2017 في دخول البرلمان، ونافس بشدة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2019)، وقدمه مراقبون على أنه وجه سياسي صاعد بقوة، في ظل تقاعد العديد من الشخصيات السياسية التقليدية والتاريخية، وتورط أقرانه في عمليات فساد.
تهمة أم فخ ؟
يوم الثلاثاء الثاني من شهر فبراير الماضي، رفعت شابة تدعى آدجي صار (20 عامًا)، وهي عاملة في مركز للتدليك بمدينة دكار، دعوى قضائية ضد عثمان سونكو، تتهمه فيها بـ «الاغتصاب المتكرر وتهديدات بالقتل»؛ في اليوم الموالي أحال وكيل الجمهورية الملف إلى التحقيق، ليبدأ الاستماعُ إلى الفتاة التي رفعت الدعوى، والسيدة التي تملك المحل المذكور.
نشرت الصحافة السنغالية الخبر يوم الجمعة الخامس من فبراير، ليهز الرأي العام السنغالي، فيما رفض سونكو جميع التهم الموجهة إليه، ووصف ما نشر بأنه «مؤامرة لتشويه سمعته الأخلاقية»، وقال مخاطبا أنصاره عبر صفحته على الفيسبوك: «اطمئنوا.. لا علاقة لي بهذه الأكاذيب الشريرة».
ولكنه عاد يوم الأحد السابع من شهر فبراير ليعقد مؤتمرًا صحفيا، اعترف فيه بأنه كان يرتاد مركز التدليك المذكور بنصيحة من طبيبه، لأنه يعاني من مشاكل صحية في عضلات الظهر، ولكنه جدد رفض التهم الموجهة إليه، وأعلن أنه لن يستجيب لأي استدعاء من طرف المحققين، ووصف ما يجري بأنه «لعبة سياسية».
يوم الاثنين، الثامن من فبراير، تجمهر العشرات من أنصار سونكو أمام محل إقامته بدكار، ودخلوا في صدامات عنيفة مع الأمن، أحرق خلالها العديد من السيارات وباصات النقل العمومي والمحلات التجارية، فيما جرح العديد من المحتجين ورجال الأمن، وكان المعتقلون بالعشرات.
رفع الحصانة !
فيما كانت الأوضاع مضطربة، ظهر عثمان سونكو وهو يزور أنصاره المصابين في المستشفيات، ويعلن التضامن معهم، وجدد الدعوة إلى الوقوف في وجه المؤامرة ضد «الديمقراطية».
حينها كان ملف «الدعوى القضائية» يتحرك داخل أروقة المحكمة، بل إن مكتب الرؤساء في الجمعية الوطنية، عقد يوم الخميس الحادي عشر من شهر فبراير، اجتماعًا لدراسة رفع الحصانة البرلمانية عن سونكو، وشكلت لجنة خاصة لذلك يوم الاثنين 15 فبراير، وهو ما احتج عليه فريق الدفاع عن سونكو، فوجهوا رسالة رفض مسار البرلمان إلى وكيل الجمهورية، واصفين ما يجري بأنه «مؤامرة سياسية».
الرئيس السنغالي في أول تعليق على القضية، في مقابلة مع إذاعة فرنسا الدولية يوم الاثنين 22 فبراير، رفض الزج باسمه في الموضوع، وقال: «أعتقد أنه لدي ما يكفي لأقوم به، بدل التآمر بهذا الشكل المنحط».
إلا أن سونكو عقد مؤتمرًا صحفيا يوم الخميس 25 فبراير، دعا فيه السنغاليين إلى «الوقوف جسرًا منيعاً أمام المؤامرة الهادفة إلى طمس الديمقراطية في بلدهم»، في نفس اليوم كان قاضي التحقيق يستمع لصاحبة الدعوى آدجي صار.
في اليوم الموالي، الجمعة 26 فبراير، عقد البرلمان جلسة علنية صوت فيها بأغلبية ساحقة على رفع الحصانة البرلمانية عن عثمان سونكو، وهي الجلسة التي قاطعها العديد من نواب المعارضة.
الرضوخ والاعتقال !
بعد رفع الحصانة البرلمانية، أعلن عثمان سونكو يوم الثلاثاء الماضي، أنه بعد استشارة فريق الدفاع عنه، قرر الاستجابة لاستدعاء قاضي التحقيق، وتحرك يوم الأربعاء الماضي نحو المحكمة في موكب كبير، ووسط حشد من أنصاره الغاضبين.
خلال تحرك الموكب وقع خلاف بين عثمان سونكو وقوات الأمن السنغالي، حول المسار الذي يجب أن يسلكه الموكب نحو المحكمة، وهو الخلاف الذي تطور لصدامات بين المحتجين الغاضبين وقوات الأمن، وفق ما أوردت وكالة الأنباء السنغالية (رسمية).
انتهى الأمر بتوقيف سونكو ووضعه رهن الاعتقال، بتهمة «الإخلال بالنظام العام والمشاركة في مظاهرة غير مرخصة»، ليخرج أنصاره في عدد من المدن، وخاصة دكار وزيغنشور، في احتجاجات استمرت يومي الأربعاء والخميس، وأسفرت عن مقتل شخص واحد وجرح عدة أشخاص آخرين.
الحكومة تحذر !
الحكومة السنغالية نشرت بيانا مساء أمس الخميس، أكدت فيه سقوط أول قتيل خلال الاحتجاجات يدعى «الشيخ إبراهيما كولي»، وقالت إنها فتحت تحقيقا للكشف عن ملابسات مقتله، ولكنها في الوقت ذاته نددت بما حدث من «أعمال عنف، ونهب وتكسير الممتلكات العمومية والخاصة»، وعبرت عن تضمانها مع أهالي القتيل ومع المتضررين من العنف.
الحكومة في المقابل حذرت من «التغطية المغرضة» لهذه الأحداث من طرف بعض وسائل الإعلام «ذات الطابع المحرض على الكراهية والعنف».
وكان المجلس الوطني لتنظيم الفضاء السمعي البصري، قد أوقف مؤقتا (72 ساعة) بث قناتين تلفزيتين خاصتين (والفجر، سين تي في)، وذلك بسبب نشرهما المستمر لصور العنف، وهو ما اعتبره المجلس نوعًا من «التحريض والشحن».
في غضون ذلك أعلنت بعض وسائل الإعلام، المتهمة بالقرب من النظام الحاكم، أنها تعرضت لهجمات من طرف محتجين رشقوها بعبوات المولوتوف الحارقة.
جمعة الضغط !
في ظل هذه الأوضاع المضطربة، يترقب السنغاليون ما سيحدث اليوم الجمعة، إذ أنه من المنتظر أن يمثل عثمان سونكو أمام قاضي التحقيق للاستماع إليه في التهم الموجهة إليه، والتي كانت في البداية «الاغتصاب المتكرر وتهديدات بالقتل»، وأضيف إليها الأربعاء الماضي تهم أخرى منها «الإخلال بالنظام العام والمشاركة في مظاهرة غير مرخصة».
وأعلن عضو في فريق الدفاع عن سونكو أن موكله منذ اعتقاله يوم الأربعاء احتفظ بحقه في الصمت، احتجاجا على ما سماه «انتهاك حقوقه القانونية».
وأضاف أن سونكو سينقل اليوم الجمعة، إلى المحكمة ليتم الاستماع إليه، وإذا تطلب الأمر ستستخدم القوة العمومية لإجباره على المثول أمام المحكمة.