تعرفت على رئيس الجمعية الوطنية ورئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي النائب مسعود ولد بولخير في عقد التسعينات، حين كنت عضوا في لجنة قيادية لمجموعة من أطر إحدى الحركات القومية التي قررت في مرحلة من مراحلها فتح حوار جدي وفاعل مع حركة الحر ذات المطالب الاجتماعية التي تدعوا إلى محاربة العبودية وإلى العدالة والحرية والانعتاق، وهي نفس الأهداف التي كنا ولا زلنا نتقاطع معها فيها إلى أن تتحقق في يوم من الأيام، ولا زلت أذكر بعضا من تفاصيل ذلك الحوار وما تطرقنا إليه من مواضيع وطنية كانت مطروحة بشكل ملح في تلك المرحلة، ومنها قضية أخوتنا الزنوج.. التي أخذت في بعدها الثقافي الكثير من وقتنا، ولعل السبب في ذلك راجع إلى توقنا جميعا في الانخراط في تشكلة سياسية وطنية جامعة… وهو ما يتطلب توافقنا في كافة الرؤى والتصورات، لكن تجاذبا حول بعض من الأطروحات والأفهام شكل فيما بعد عائقا أمام عدم تجاوزها… مما أوقف مواصلة الحوار…
وللتوضيح لم تكن العبودية ومحاربتها و لا الوحدة الوطنية وضرورتها من العوائق التي وقفت أمام نتيجة عملية في تلك المرحلة من مراحل حوارنا.. بل كانت هناك فقرات تحتاج الكثير من الوقت والاحتكاك والاستيعاب…ولا زالت أذكر جيدا أن كل حواراتنا جرت تحت رعاية وعناية الرمز الوطني السيد مسعود ولد بولخير وداخل بيته الذي شكل في تلك المرحلة بيتا وطنيا بكل امتياز وسيظل كذلك في كل المراحل الحاضرة والقادمة… ومما أذكر قدرته على إدارة الحوار واهتمامه الفائق بضرورة كسر الحواجز والأوهام بين المكونة الواحدة من مكونات مجتمعنا أحرى ما بينها وبقية المكونات الأخرى…. وتعرضنا في لقاءاتنا تلك لكل مسكوت عنه أو مؤجل إلى حين… ولعل ذلك الحوار أسس فيما بعد الانطلاق مرحلة لاحقة، كانت هامة وأساسية وكنت أحد الداعمين والمساهمين في بلورتها بل والمشاركين في وضع لمساتها الأخيرة وإن بشكل غير مباشر، والتي توجت فيما بعد بالاندماج السياسي الطبيعي بين مجموعة من القوى الوطنية التحررية والتقدمية سلمت فيها القيادة بكل قناعة وطواعية إلى الرئيس الرمز مسعود ولد بولخير في حفل فريد من نوعه حفر في ذاكرة التاريخ وضرب المثل في عمق الإخاء بين طرفي مكونة واحدة من مكونات مجتمعنا تسعى معا إلى مقاومة كل الفوارق الاجتماعية ومحاربة جميع أنواع الاسترقاق أو المعاملة بالدونية التي كانت سائدة في المراحل السابقة… ومهدت هذه الانطلاقة السياسية التاريخية لتلاشي تلك الفوارق والارتسامات السلبية بشكل نهائي، ولعل درس الانتخابات الرئاسية الأخيرة أعطى إشارة واضحة في هذا الاتجاه حين تجمع كافة الشرائح والطوائف حول الرئيس مسعود لتقول بذلك الكلمة الفصل أن الرئيس مسعود لم يعد ملك فئة أو شريحة أو طبقة معينة بل هو ملك جميع الموريتانيين، وهذه قناعة عندي وإن كنت لم أصوت له لالتزام قطعته على نفسي قبل أن يعلن الرئيس مسعود ترشحه للرئاسة ولفهم خاص لطبيعة الظروف التي جرت فيها تلك الاستحقاقات.
لقد كان قرارا وطنيا شجاعا وعميقا ذلك القرار الذي أخذه الأصدقاء في حزب التحالف الشعبي التقدمي والذين لحق بهم فيما بعد مجموعة من الأطر والمناضلين الناصريين الذين واكبت صدقهم ورغبتهم الجامحة في إعلان قرار ذلك الاندماج، وهنا ولأني أعرف وفاء الرئيس الرمز مسعود فإني أوصي بأن يعض عليهم بالنواجذ كما كان دائما يعض بها على مبادئه وقيمه النبيلة، وأن لا يترك السابحين في المياه العكرة أن يدفعوه وبقية المناضلين في حزبه إلى اتخاذ أي شكل من أشكال القرارات غير الحكيمة التي ستأتي على زرع آتى أكله… حتى وإن كنت مؤمنا أن ذلك لن يحدث لمعرفتي بحكمة الرجل وبصدقه وحبه للوحدة الوطنية ورغبته الجامحة في العدالة… وأنا الذي وقفت على الكثير من ذلك عبر محطات عديدة… فقد كان دائما إلى جانب كل المناضلين الذين آمنوا بوحدة الوطن وظلوا يتشبثون بها وسيظلون كذلك…. وأنا الذي اشتركت معه في زنزانات إدارة الأمن الوطني، وضربت عن الطعام وبقية زملائي في الزنزانة عندما علمنا بإضرابه عن الطعام في تلك الزنزانة المعتمة، لكنه لم يكن ليتركنا عندما خرج من زنزانته… بل ظل إلى جانبنا وحرص على حضور محاكمتنا … وقاد التظاهرات والمهرجانات المطالبة بإطلاق سراحنا… بل كان أول القادمين إلى يوم المحاكمة المشهود وهو يحاول أن يخترق البوابة الحديدية لقصر العدالة ذات يوم من سنة 1997.
إنها جمل من الوفاء أردت تسطيرها في حق رجل لم ألتقيه منذ سنوات…وأردت كذلك أن أذكرها في وقت كثر الحديث فيه حول هذا الرمز الوطني وحول خطاباته الأخيرة التي فهمها البعض على أنها دعوة إلى الانقلابات وشق الوحدة الوطنية أو بحث عن المكاسب المادية على حساب الأمن والاستقرار، لكنها أفهام مغلوطة عن رجل يؤمن بهويته العربية الإفريقية الإسلامية حتى النخاع …. ويحنو على كل أبناء هذا الوطن ويتشبث بقيم الأصالة الحسانية أكثر ممن يدَّعونها كلاما لا تطبيقا،
إنها كلمة في حق رجل ينشر بساطه الأبيض داخل بيته ويركن إلى سبحته وهو يدعو الله بالخير للجميع… إنه رجل سيبقى يحمل هم موريتانيا في قلبه الأبيض الكبير.. وستظل دموع الرأفة والمحبة والوطنية تغسل كمد وحزن كل المقهورين، ولن يكون قلبه يوما مأوى لأطماع المطففين والمحرضين الذين يعيشون على التجييش وإنهم على رهانهم ذلك لخاسرون