جلس «عليون تورى» إلى جانب قائد جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» إياد أغ غالي، وقد تهللت أساريره وبدا سعيداً، إثر عودته رفقة 200 من «إخوته» إلى صفوف الجماعة، بموجب تبادل رهائن مع السلطات في دولة مالي، لقد عادوا وبحوزتهم 30 مليون يورو وعشرات الأسئلة المطروحة حول مدى نجاعة «الحرب على الإرهاب» في الساحل.
أقام العائدون من السجن حفلاً باذخاً، تتوسطه طاولات نُثرت عليها أوراق اليورو، ورائحة الشواء تزكم الأنوف، يوزعون المشروبات والحلويات والابتسامات.. هل كان ذلك إظهاراً لشغفهم بالحياة، أم مجرد احتفال عابر بالنصر ؟!
أشهر طويلة من المفاوضات أسفرت عن خروج 200 من مقاتلي «نصرة الإسلام والمسلمين» من السجن، ودفع ثلاثين مليون يورو، مقابل أن تفرج الجماعة عن زعيم معارضة مالي والسياسي المخضرم سوميلا سيسي وثلاثة أسرى غربيين آخرين.
لقد نجحت الصفقة بعد سنوات طويلة من عدم دفع أي فدية في منطقة الساحل.. إنها لحظة النصر التي نسي فيها مقاتلو الجماعة وقادتها معركتهم الكبرى، فسكتت مدافعهم لتحل محلها أهازيج الاحتفال وطبول النصر، وغابوا في ملذات الحياة وعلى طاولاتهم أكياس اليورو، وأوراقه تتطاير مع الريح في مكانٍ مَّا من صحراء شمال مالي.
تأسست جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» عام 2015، بعد تحالف أربع جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، لتكون بذلك أكبر تنظيم جهادي في منطقة الساحل الأفريقي.
إن صفقة تبادل الرهائن تطرح أسئلة عديدة تشغل أذهان من يتابعون الحدث؛ كيف تمت الصفقة ؟ ما مطالب الأطراف المتفاوضة، خاصة «نصرة الإسلام المسلمين» ؟ ما المكاسب التي حققها كل طرف ؟ كيف حررت فرنسا «صوفيا» آخر رهائنها في العالم ؟
مفاوضات شاقة
«لم تكن المفاوضات سهلة.. كانت معقدة جداً»، هكذا وصفها مصدر قريب من الملف لـ «صحراء ميديا»، مشيراً إلى أن الملف تدخلت فيه أطراف خارجية، على الرغم من أن التفاوض بدأ بين حكومة مالي من جهة، وجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» من جهة أخرى.
حاولت «صحراء ميديا» استطلاع الملف، وكشف ملابسات هذه المفاوضات، وكيف كان الماليون قريبين من إتمام الصفقة مع «نصرة الإسلام والمسلمين»، قبل أن تتدخل فرنسا وتعيق ذلك، وتتحول إلى مفاوض رئيس مع «نصرة الإسلام والمسلمين» وتستجيب بعد ذلك لمطالبها بالإفراج عن أكثر قياداتها الخطرين.
تشير المعلومات التي حصلت عليها «صحراء ميديا» إلى أن الوساطة بدأت بمبادرة من رجل أعمال من أصل مالي، تربطه علاقة خاصة بزعيم المعارضة المختطف سوميلا سيسي، فيما كانت الحكومة لديها رغبة في الإفراج عن «سيسي» لتحقيق مكاسب سياسية في ظل أجواء انتخابية وسياسية مشحونة.
بحسب مصادر «صحراء ميديا» فإن تدخل رجل الأعمال قاد الرئيس «كيتا» إلى أن يسند ملف اختطاف زعيم المعارضة إلى الوزير الأول وكلفه بالدخول في مفاوضات مع الخاطفين، وهو ما يعني البحث عن وسيط موثوق، حينها كان رجل الأعمال القريب من سوميلا سيسي قد تواصل مع رجل الأعمال الموريتاني المصطفى ولد الإمام الشافعي.
لدى ولد الإمام الشافعي تجربة كبيرة في التفاوض مع خاطفي الرهائن، إذ سبق أن شارك في عدة مفاوضات قبل أكثر من عشر سنوات لتحرير رهائن غربيين في منطقة الساحل، ولكنه واجه طلب الوزير الأول المالي بالاعتذار، وبرر ذلك بالقول إنه «بعيدٌ عن الميدان».
وأضاف ولد الإمام الشافعي في رده أن «دور الوسيط في هذا النوع من الملفات يحتاج الوجود على الأرض، وفي الميدان، والتواصل مع مختلف الأطراف، حتى يساعد في إطلاق سراح الرهائن».
تشير معطيات «صحراء ميديا» إلى أن ضغط رجل أعمال مالي أقنع ولد الإمام الشافعي بالمساعدة في تسهيل المفاوضات للإفراج عن «سيسي»، فاقترح الاستعانة برجل الأعمال الشريف ولد الطاهر، المنحدر من مدينة «غاو» عاصمة شمال مالي وأكبر مدنه، إلا أن الأخير اعتذر أيضاً.
كانت حجة ولد الطاهر بسيطة وواضحة، إذ قال إنه «لا يثق في الحكومة المالية ولا في وعودها»، فكيف يقنع «نصرة الإسلام والمسلمين» بالثقة في من لا يثق هو نفسه فيه، لقد كان واضحاً أن مستوى معيناً من الثقة لا بد أن يوجد لتنجح أي صفقة تبادل أو وساطة.
ولكن رجل الأعمال المالي استخدم علاقته بولد الإمام الشافعي في إقناع ولد الطاهر بلعب دور «الوسيط» بين الحكومة والجماعة، وافق ولد الطاهر على خوض الوساطة، ولكنه خرج على عُرف هذا النوع من المهام، إذ رفض الحصول على أي دعم «لوجستي» من الحكومة المالية.. ربما لأنه لا يثق فيها، أو ربما لأنه لا يحتاج.
البداية المبشرة !
أجرى ولد الطاهر أول لقاء مع مفاوضي «نصرة الإسلام والمسلمين»، وعاد من عندهم بتأكيد وجود سوميلا سيسي بحوزتها، وأنه على قيد الحياة ويتمتع بصحة جيدة، معلومات كانت كافية لإقناع الماليين بالمضي قدماً في التفاوض.
كان أول طلب تقدمت به «نصرة الإسلام والمسلمين» للإفراج عن زعيم المعارضة، هو دفع فدية قدرها مليوني يورو، والإفراج عن ثلاثين من مقاتلي قبائل «الفلاني» من أتباع أمادو كوفا، أمير جبهة تحرير ماسينا.
وافقت الحكومة المالية بشكل فوري على مطالب «نصرة الإسلام والمسلمين»، إذ كان تحرير زعيم المعارضة قد تحول إلى مطلب شعبي في مالي، والرئيس «كيتا» يحتاج إليه لاستعادة بعض النقاط في الساحة السياسية.
كانت كل الأمور تسير بشكل طبيعي، وبدأ الحديث عن قُرب عودة سوميلا سيسي إلى بيته، وفي الرحلة الأخيرة التي قام بها ولد الطاهر كانت الطائرة جاهزة لنقل «سوميلا سيسي»، وكافة الأمور جاهزة لإنهاء الصفقة، قبل أن تتدخل فرنسا لدى الرئيس «كيتا».
التقى السفير الفرنسي في باماكو بالوزير الأول، طلب منه بشكل مباشر أن يتوقف عن التفاوض مع «نصرة الإسلام والمسلمين»، فيما تشير المعلومات التي حصلت عليها «صحراء ميديا» إلى أن السفير الفرنسي قال للوزير الأول إن نجاح الوساطة والإفراج عن سوميلا سيسي من شأنه أن يوقع الحكومة الفرنسية في «مأزق» إذا لم تدخل عاملة الإغاثة الفرنسية في الصفقة، هنا حضرت الحسابات السياسية الفرنسية.
استجابت حكومة مالي لضغط الفرنسيين، وأوقفت التفاوض مع الجماعة رغم اقتراب نجاح الوساطة، وحين سُئل الرئيس «كيتا» عن سبب تعليق المفاوضات قال: «إن الأسياد (الفرنسيين) ضغطوا علينا لنتخلى عن الملف».
الإدارة الفرنسية !
بدأت فرنسا إدارة ملف الرهائن، وتحولت حكومة مالي إلى متفرجٍ، يراقب دون أن يكون له أي دور، وأسند الملف إلى رئيس مخابرات مالي «موسى جاورا» وطُلب منه أن يدرج ضمن الصفقة عاملة الإغاثة الفرنسية «صوفيا»، بالإضافة إلى رهينتين إيطاليتين.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها فرنسا، فإن ملف الرهينة الفرنسية كان بحوزة الوسيط «أغ بيبي» منذ أكثر من سنة، فيما كان الوسيط النيجري «محمد أكويتي» يعمل على ملف الرهينتين الإيطاليتين.
«أكويتي» شخصية نافذة من طوارق النيجر، يعمل مستشاراً لدى رئيس النيجر محمدو يوسفو، سبق أن لعب دور الوسيط لتحرير عدد من الرهائن الغربيين، من أبرزهم رهائن شركة «أرليت» الفرنسية.
دخول فرنسا على الخط غيّر طريقة تعامل «نصرة الإسلام والمسلمين» مع الملف، فحين تأكدت من أن الفرنسيين هم من يديرون المفاوضات، وإن من وراء ستار، وأن رهائن غربيين أصبحوا مطروحين على طاولة التفاوض، رفعت من سقف مطالبها.
طلبت الجماعة مبلغ 10 ملايين يورو من كل طرف (فرنسا، مالي وإيطاليا)، أي ما مجموعه 30 مليون يورو، بالإضافة إلى الإفراج عن 200 من مقاتلي الجماعة في السجون المالية، بعد أن كانت تطلب من الماليين تحرير 30 فقط.
وافقت الأطراف على مطالب الجماعة، لتحصل «نصرة الإسلام والمسلمين» على أول فدية لها منذ تأسيسها قبل خمس سنوات، وهي التي تخوض حرباً شرسة ضد «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»، في معركة نفوذ تدور في وسط مالي.
مقاتلون جُدد !
لقد نجح الدبلوماسي السابق إياد أغ غالي، وهو الزعيم الحالي لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، في تحقيق مكاسب سياسية ومادية مهمة خلال هذه الصفقة، ولكن يبقى تدعيم صفوف جماعته بمائتي مقاتل من ذوي الخبرة، من ضمنهم عدد من قادة «القاعدة» البارزين، أكبر مكسب له ولجماعته، في أتون حرب شرسة ضد «داعش».
كان من بين من أفرج عنهم خمسة من قادة القاعدة اعتقلهم الجيش الفرنسي على الحدود بين ليبيا والنيجر، في منطقة منقطعة عن العالم لا يرتادها إلا الأشخاص الخطرون، ويتهم هؤلاء بأنهم متورطون في الهجوم على فندق «راديسون بلو»، أخطر هجوم يضرب باماكو، عاصمة مالي.
كما كان من ضمن المفرج عنهم قيادي يدعى «إبراهيم» ويشتهر بكنية «فوّاز»، موريتاني الجنسية، سبق شارك في جميع العمليات الكبيرة التي شنها تنظيم القاعدة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، بما في ذلك عملية مسلحة بمقاطعة تفرغ زينه في نواكشوط، تمكن من الفرار بعدها.
كما شارك هذا الموريتاني في التخطيط لمحاولة تفجير في مدينة أبيدجان، بكوت ديفوار، وقد اعتقل رفقة مصريين، وها هو اليوم يغادر السجن في صفقة تبادل أسرى مع «نصرة الإسلام والمسلمين»، وفق ما أظهرت الصور.
وهكذا تستعيد «نصرة الإسلام والمسلمين» نخبة من مقاتليها وعدداً من قيادات القاعدة الخطرين، مع غلاف مالي قدره 30 مليون يورو، ما يُنذر بصعود قوي للجماعة التي تأخذ من شمال ووسط مالي مركزاً لنفوذها وقوتها.