في لحظة سنية من تاريخنا، طبعتها عواصف صحوة 68 في فرنسا، والثورة الثقافية الصينية، وانتصار العرب في أكتوبر، ونجاح الثورة الفيتنامية العظيمة، ظلت جزائر بومدين وبوتفليقه متشبثة باشتراكيتها الخاصة (التسيير الذاتي)، وتنتهج سياسة خارجية حرة تلائم روح العصر، وتحفظ للنظام شرعيته الثورية. لذا دعمت بقوة صمود العرب في وجه أمريكا والصهيونية، وأيدت بوضوح حركة التحرر العالمية ضد الاستعمار والفصل العنصري، واتبعت سياسات نفطية وطنية، وشيدت قاعدة صناعية مثيرة للجدل. هذا عموما.
وعلى المستوى الإقليمي خصوصا، شكلت الجزائر ـ قبل غيرها ـ دعامة الإصلاح الوطني الذي أنجزه الرئيس المختار بن داداه في النصف الأول من السبعينيات. الشيء الذي نسج أواصر تحالف موريتاني جزائري لا تنفصم عراه!
***
.. وفجأة عصفت ريح مدريد، ومن بعد مدريد بشار، بما سطره الشعبان، في حين غفلة منهما.. واندلعت بين البلدين حرب غبية، فأصبحا عدوين لدودين!
***
لم يقم الوسيط بواجبه في إخطار “العدو” بقدومي إلى الجزائر، فتوجهت رأسا من المطار إلى المجاهد. ومنها رافقني ممثلون من بوليزاريو، التي أشعرت بوجودي بمقر الجريدة، إلى فندق أليتي، أضخم فنادق الجزائر، حيث نزلت أهلا مع العديد من كبار قياديي وضيوف المنظمة الصحراوية الفتية من أمثال الأستاذ أحمد بابه مسكه ومـد هوندو وغيرهم.
بعد عرض أغنية عاطفية مصورة، في نشرة المساء (نبتدي امنين الحكايه)، تروي لواعج حب عاصف مندثر، كالذي خرجنا منه للتو، أذاع التلفزيون الجزائري بيانا للجبهة الصحراوية تعلن فيه “تحرير مركز عين بنتيلي الموريتاني، والانتقام للشعب الموريتاني من جلاديه”! في إشارة إلى استشهاد المرحوم اسويدات بن وداد الذي قاد الحرس الوطني خلال سنوات النضال الوطني، ومات كريما في ساحة الوغى دفاعا عن الوطن. كنت أتصور إلى حد بعيد مدى ما تجره الحروب من ويلات على المناطق الآمنة والشعوب المسالمة، وأعلم كذلك أن الحرب سجال! ومع ذلك، فقد أزعجني جدا ذلك البيان، وأفزعني ما انطوت عليه عباراته من مضامين.
بادرت الاتصال بمضيفي الذين تركوني أستريح بعد سفر مرهق، وطلبت منهم سحب البيان فورا وإعادة صياغته بصورة يتم فيها حذف عبارة “تحرير” التي تنم بما لهم من مطامع إقليمية في موريتانيا، وإبدالها بعبارة احتلال، وكذلك شطب فقرة “الانتقام للشعب الموريتاني” الذي لم يخولهم ذلك “الحق” حسب ما لدي من علم! كما اقترحت عليهم أيضا رفع العلم الموريتاني إلى جانب العلم الصحراوي فوق عين بنتيلي المحتلة من طرفهم، كبادرة حسن نية تطمئن الموريتانيين. وأكدت لهم بحزم أن تلبية هذه الطلبات شرط مسبق لأي لقاء أو بحث! .. وسحب البيان فعلا تلك الليلة وعدّل.. وبدأت المباحثات صباح الغد!
الكادحون وقضية الصحراء الغربية
يثير حزب الكادحين، في أدبياته، على ما أتذكر، مسألة تحرير الصحراء الغربية من الاستعمار الإسباني.
ومنذ إعلانها في العشرين من مايو 1973، في موريتانيا على الأرجح، تبنى الكادحون جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليزاريو) بصفتها مولودا شرعيا لحركتهم، قام على أكتافها، ورعاه رجال أنجبت معظمهم ساحة النضال الوطني المدني في موريتانيا. ولا أذيع سرا، بالنسبة للعارفين بتلك الفترة، إذا قلت إن أول عدد من نشرة “20 مايو” (لسان بوليزاريو) طبعه الكادحون على مطابعهم في نواذيبو! وأن بعض عمليات تلك الجبهة ضد الوجود الإسباني نفذت بسلاح موريتاني متواضع يناسب مرحلة الولادة.
وفي طفولتها، تذبذبت بوليزاريو بين أبوين متخاصمين، تنازعاها، هما النظام الموريتاني والكادحون. كان النظام يريدها أداة سياسته الصحراوية التي أملتها إلى حد بعيد مطالب المغرب (لم يكن قد أنشأ جبهته الخاصة به بعد). أما الكادحون، الذين أجّلوا همّ الوحدة العربية، فقد دعوا إلى استقلال الصحراء، محبذين قيام دولة حاجز بين المغرب وموريتانيا. لذلك نصحوا الصحراويين بالسعي إلى الاستقلال الداخلي أولا، وتبني تجربة موريتانيا في المجال: أي الاحتماء بمظلة الدولة المستعمرة، وقبول بقاء قواعد إسبانية على أرضهم في انتظار قيام ورسوخ قواعد دولتهم. ذلك هو مضمون رسالة نُقِلت إلى الولي رحمه الله سنة 74 وهو يومها في نواكشوط حيث التقى بالرئيس المختار بن داداه! وكانت إسبانيا في ذلك الوقت المبكر نسبيا توافق على ذلك الحل، كما باركه أيضا السيد خليهن بن الرشيد، رئيس مجلس الأعيان التابع لها. ولم تكن الجزائر يومئذ قد دخلت بعدُ حلبة السباق إلى كسب ود الغانية الصحراوية!
ولما اندلعت حرب الصحراء، تلبدت سماء المنطقة بالغيوم، وأصبح الموقف من تلك الحرب ومن الجبهة محورا أساسيا في محاور الصراع داخل حركة الكادحين التي قال بعض زعمائها، ممن لا تروق لهم سياسة الوحدة الوطنية التي تنتهجها، بضرورة فسخ سياسة الجبهة مع النظام واقتفاء ببوليزاريو التي يشكل خطها، في نظرهم، حقيقة مطلقة، لأنها تمارس أرقى أشكال النضال السياسي، الحرب ضد الاستعمار! وعندما رفضت الأغلبية هذا الرأي، أصر أصحابه على طرحه رسميا للتصويت صحبة آراء أخرى تقول بوجود ميز عنصري في موريتانيا! وقد تم رفض جميع تلك الأفكار جملة وتفصيلا.
كانت موريتانيا تعيش عصرا ذهبيا نسبيا: فبعد إلغاء اتفاقيات التبعية لفرنسا، وإنشاء الأوقية، خطت خطوة كبرى إلى الأمام، فتصالحت أخيرا مع نفسها.. وأممت ميفرما وسوميما وبياو، وشيدت أسس اقتصاد وطني يقوم على بنى تحتية رائدة (ميناء نواكشوط، طريق الأمل) وصناعة وطنية واعدة (مصنع السكر، مصفاة البترول)، ودعمت أسعار الدواء والمواد الضرورية، وعززت روح الدولة، ووأدت القبلية والجهوية، وكافحت “استغلال الإنسان للإنسان” (التعبير المستخدم في “الميثاق الوطني” لحزب الشعب لرواسب العبودية)، وشجعت الثقافة والفن، وكادت تنعدم فيها آفات الفساد والرشوة واختلاس المال العام! وبالتالي فقد كانت في غنى عن مغامرة الصحراء، التي لم تغنم منها غير الخسران؛ خلافا لما كانت عليه الحال في المغرب الذي شكلت الصحراء حافزا لوضعه المحتقن، وحملت إليه الأمل والعمل والفضاء الرحب والشواطئ الزاخرة!
ومن هنا، عارض الكادحون بشدة، وهم يتمسكون بأسباب الوحدة الوطنية، سياسة بلادهم في الصحراء، ونبهوا مرارا إلى ما تسببه الحرب من خراب، في نظرهم، لمكاسب البلاد وتوجهاتها التقدمية، وما سوف ينجم عنها من تنامي قوة ونفوذ المؤسسة العسكرية، واليمين العشائري المنظم، ومن تدخلات أجنبية في المنطقة، خاصة تدخل الغول الأمريكي! بالإضافة إلى استحالة التوفيق بين المحافظة على النهج الوطني التقدمي للنظام ودخوله في مغامرة توسعية!
أما اليمين الوطني التقليدي الذي وجد في رجل النظام القوي ووزيره للسيادة الداخلية زعيمه الفذ وعقله المدبر، فقد رأى في مدريد والحرب فرصته السانحة للتخلص من التوجهات الوطنية والقضاء على القوة السياسية العنيدة التي تقف وراءها، وراهن على الجيش.. وربح الرهان.
في وزارة الدولة للسيادة الداخلية
مقت الرجل الكادحين الذين لا يرى فيهم منافسين غير أكفاء فحسب، بل وخوارج أيضا! وعاملوه بسخاء بالمثل! كان يجسد في، نظرهم، كل ما هو سلبي في نظام طالما اعتبروه استعماريا. وعزز من ذلك الشعور ما كان يتمتع به هو من كفاءة وصلابة ووعي فئوي. ولما لم يتمكن من قهرهم بالقوة خلال المواجهة، بل كانوا هم الذين قهروه حين أفشلوا خططه الأمنية، وأملوا برنامجهم السياسي على الدولة التي يحرسها؛ كرّس جهود أجهزته، للثأر منهم خلال فترة السلم، فتسور حاجز سرية تنظيمهم، خاصة بعد الالتحاق المبكر لكاتب مركزيتهم بمصالح الداخلية! وتبنى الإقصاء، وأيد مدريد والحرب!
قبيل اندلاع الحرب بقليل، قابلت معالي وزير الدولة للسيادة الداخلية في مكتبه، بطلب مني، ودار بيننا حديث مسهب حول قضية الصحراء، كاد يتحول في مناسبات عديدة إلى مشادة، بينتُ له خلاله جميع المخاطر التي تنطوي عليها السياسة الصحراوية المتبعة من طرف نظامه. وما زلت أتذكر، ولعله كذلك، حين وقفنا أمام خريطة موريتانيا المعلقة على جدار مكتبه البسيط المرتب.
قال لي:
ـ “سنعتبركم خونة إذا لم تدافعوا عن الوطن”!
فقلت له: “عندما يُعتدى على هذا الوطن المرسوم في هذه الخريطة ـ وأشرت إليها ـ فسوف ندافع عنه بشراسة منقطعة النظير، ولسنا ملزمين بالدفاع عن غيره”.
وعدني معاليه ألا تكون موريتانيا البادئة بإطلاق النار! وأغلب الظن أنه وفى بوعده.
وافترقنا.. لنلتقي أواخر مارس 1981 في جوك حيث قضينا الظهيرة معا في جمع من المعتقلين، في طريق المنفى، على ذمة الشرطة! فحكا لي أسطورة مفسر أحلام هاو تتلون مواقفه من معلمه حسب ما عليه أحوال المجتمع! أو ليست الرعية على قلب الأمير؟
***
ضم وفدنا إلى جانبي السيد الطالب محمد بن لمرابط، الذي قدم من فرنسا لنفس الغرض، وأظن أن السيد يعقوب جالو (النقيب يعقوب جالو) الذي كان طالبا في الجزائر شارك من طرفنا في بعض تلك المباحثات. أما الوفد الصحراوي فقد تشكل في البداية من السادة محمد الأمين بن أحمد رئيس الوزراء، ومحمد سالم بن السالك، وأحمد باب مسكه، الذي تحفظنا عليه، وتقبل تحفظنا بصدر رحب، وكان يلتحق بهم أعضاء ويتغيب آخرون ممن تربوا في كنفنا، حسب مشاغلهم.
في تلك الفترة، الثلث الأول من سنة 1976، كانت الحرب في عنفوانها. وكانت سياسة محور الجزائر ـ بوليزاريو تتلخص في نقطتين هما: التركيز على ضرب موريتانيا بصفتها الحلقة الضعيفة في سلسلة الأعداء، وتهجير سكان الصحراء وبعض قبائل الشمال الموريتاني، على أساس قبلي، إلى تيندوف ليكونوا في منأى عن تأثير المغرب وموريتانيا من جهة، ووقودا لأتون الحرب من جهة أخرى، وورقة دعائية رابحة من ناحية ثالثة.
تركزت المباحثات حول ذلك الخط، وكانت صعبة وطويلة.
كانت آراؤنا واضحة جدا، ومن السهل فهمها ممن تجمعنا وإياهم اللغة والفكر والمبادئ. قلنا للصحراويين إن خصمكم الرئيسي هو المغرب، وعليكم أن تركزوا عملكم السلمي والحربي على الوصول معه إلى حل، على أن تؤجلوا إلى حين حسم نزاعكم مع موريتانيا. فإذا تم التوصل إلى حل مع المغرب فلن تشكل موريتانيا عقبة كأداء أمامكم، وإن غُلِبتم يكون وادي الذهب الذي نحتله رصيدا وملجأ لذوي الدراريع. أما إحلال رابطة القبيلة، في جبهة ثورية، محل البرنامج السياسي والخط الثوري، فسيؤدي، رغم خطئه وتناقضه مع المبادئ الثورية، إلى تفكك الجبهة قبائل متنافرة المصالح بقدر اختلاف الجهات التي تنتجع فيها مواشيها. هذا فضلا عما ينجم عن القبلية من توتر ونزاع مع الدول المتاخمة للصحراء والتي تقوم الجبهة بتجنيد وترحيل مواطنيها. بينما يفترض انتهاج الثورة سياسة مرنة وصائبة تجاه تلك الدول حتى تكون ظهيرا واحتياطيا وعونا لشعب الصحراء، لا عونا عليه!
بيد أن القلعة الحصينة التي احتمت بها المنظمة الصحراوية الوليدة من أعدائها، لم تترك لها في واقع الأمر كبير مجال للاختيار! كانت بوليزاريو، التي لم تطف بعد شمعتها الثالثة، قد شبت كثيرا عن طوق الكادحين، وكبرت بشكل خارق بفعل التعديل الوراثي والزق (لبلوح) اللذين تعرضت لهما بعدنا، حيث أصبح لها حكومة وجيش جرار قوي مسلح بصواريخ سام، وميزانية ضخمة لا تعرف التقشف أو العجز!
ورغم ذلك، فقد اتفقنا في نهاية المطاف! وأصدرنا بيانا مشتركا يفند سياسة الحلقة الضعيفة، وتتعهد فيه بوليزاريو بوقف عملياتها داخل موريتانيا، وتخفيف ضغطها في الجبهة الجنوبية، والتركيز بدلا من ذلك على جبهة الشمال، مع تحبيذ الحلول السلمية المتفاوض عليها.. وذلك رغم ما أبدوه من تحفظ على إمكانية التوصل إلى حل سلمي مع المغرب، ليس بسبب عدائية التناقض القائم، وإنما لعدم اطمئنانهم للتفاوض مع ملك داهية لا يسبر له غور. كما اتفقنا أيضا على نبذ القبلية كنهج سياسي، واحترام الحدود الاستعمارية، وتخلي بوليزاريو عن ترحيل واكتتاب الموريتانيين!
في فيلا عزيزة
وفي فيلا عزيزة التي وصلنا إليها في رتل من السيارات الفخمة، والتي تبدو بمثابة مقر الحكومة الصحراوية، أعدوا لنا عشاء فاخرا لم يكن مبرمجا من قبل، حضره جل القادة السياسيين ومستشارون جزائريون، وجرى فيه نقاش مرتجل مفتوح بيني وبين المرحوم الولي حول نفس المواضيع التي نوقشت آنفا وتم الاتفاق حولها. قال الولي، رحمه الله، في نهاية الحفل بانفعال وضيق غير معهودين، وكأنه يزيح جبلا عن كاهله، وكانت بيده برتقالة يقشرها: “النظرية جميلة ولكن الواقع عنيد.. هذه ليست سوى برتقالة! لقد غرق شعبنا ولن نغرق وحدنا.. لا بد أن يغرق معنا الآخرون! أما القبلية فقد استطعنا أن نعبئ بها في شهر واحد ما لم نستطع تعبئته بالمبادئ الثورية في سنوات!
فاجأني الموقف.. أكيد أن الولي -رحمه الله- لم يشارك في المباحثات، لكنهم كانوا يوافونه، على الأرجح، بتفاصيل ما يجري! وقد حسمنا الموضوع وأصدرنا فيه بيانا! وهذه اللغة؟! ألا تتعارض مع الحقيقة المطلقة التي يدعي بعضنا امتلاكها من طرف الصحراويين؟ كما تتعارض أيضا مع أفكار وقناعات نيرة عهدناها لدى الرجل الذي عاش بين ظهراننا!
فهل هو مكره؟ أم صعقته سرعة الأحداث وفظاعة الحرب؟ قلت في نفسي!
على كل حال.. لا بد من مصارحته!
قلت في النقطة الأولى: “إنه لا داعي للتشاؤم والانتحار.. فالشعب الصحراوي لم يغرق ولم تهزم ثورته. ودليل ذلك وجود رجاله متشبثين بحقوقه، وما ضاع حق وراءه طالب! وهب أنه فعلا غرق، فبماذا يفيد إغراق شعوب المنطقة معه؟ ألا توجد حلول أخرى غير “علي وعلى أعدائي”، بل وحتى على أصدقائي أيضا!؟. أما بخصوص القبلية، فإنها منافية لروح العصر، ومتعارضة مع مفهوم الدولة الوطنية التي نطمح إليها، ورجوع سحيق عن الأفكار التي قامت عليها حركتانا، وعن المصالح العامة التي تخدمانها. وهي، كذلك، لا تسمح بالتمييز الدقيق بين عدو القضية وصديقها، بين من له مصلحة في التغيير ومن له امتيازات مرتبطة بالاستعمار يتشبث بها ويدافع عنها؛ كما أنها تذكي نزعات وحميات الجاهلية، وهي كفيلة غدا بتشتيت ما جمعته اليوم!
لم يعقب أحد على حديثي!
أخبرونا بإلغاء رحلة كنا سنقوم بها في الطائرة إلى تيندوف دون تبيين السبب! تعانقنا بحرارة ونحن نتبادل عبارات وداع ما كنت أظنه أبديا!
* * *
وفي أقل من شهر من ذلك اللقاء، غزا الولي -رحمه الله- نواكشوط، بصورة مفاجئة، خلافا لما رسمنا في الجزائر! وقد تقرر مصيره المؤسف خلال تلك الغزوة!
هل كان الراجح لدى القوم ترشيحنا لمرتبة طابور خامس، يقوم من الداخل، بدور محدد في كسر الحلقة الضعيفة! ولما لم نرض بذلك الدور، وأقنعنا الصحراويين بتعديل السياسة المرسومة لهم، وجب إسقاطنا جميعا من المعادلة!؟
وهل كانت عملية نواكشوط خطة رسمت للتخلص من الولي؟ خاصة أن موته -رحمه الله- نجم عن خلل في خطة الانسحاب سببه إهمال بعض رفاقه؟
أسئلة تراودني بإلحاح، باحثة عن جواب، كلما فكرت في هذا الموضوع!
لكن ما أعلمه علم اليقين، هو أن المرحوم الولي كان رمزا للثورة الصحراوية. وبغيابه غاب بعدان أساسيان في تلك الثورة هما: جماهيريتها، وبعدها الصحراوي البيظاني ذو الجذور الضاربة جنوبا.. وخلا الجو لكل من سولت له نفسه توجيه البندقية الصحراوية في غير وجهتها.. وانهمر الطوفان الذي تحدث عنه الولي بمرارة تلك الليلة في فيلا عزيزة!
.. لقد كان آخر عقبة في وجه التيه والانحراف!
لم نجر بعدها أي اتصال مباشر بيننا وبين الجبهة، واكتفينا بتوجيه رسالة نقد واحتجاج إليها عن طريق الزملاء في فرنسا عنوانها “بوليزاريو ثورة أم عدوان؟”! ولا أتذكر أنهم ردوا عليها في يوم من الأيام!
وحلت محلنا في “مؤازرتهم” جماعات قلدتهم وراهنت عليهم في تحقيق مآربها “الثورية”!
.. وتواصلت سياسة “الحلقة الضعيفة” والعدوان الغاشم التي أهلكت الحرث والنسل في موريتانيا. ومن أغرب ما في الأمر أن تلك السياسة الغاشمة وجدت من بين الموريتانيين من يقرها ويشجعها، بل ويشترك فيها بحماس! إلى أن تم إسقاط النظام الوطني الموريتاني من طرف جيش وجد بعض قادته المدعومون من الخارج والمرتبطون بطابور خامس شكل باكورة الفساد، أن غزو السلطة في عقر دارها أولى من منازلة العدو، صيفا، في الجبال والمهامه والوهاد!