من الاستشكالات التي أثيرت في العصر الحديث المتعلقة بالفكر الإسلامي قضية قتل المرتدّ والحجاب وقضايا المرأة والاسترقاق وعلاقة المسلم بالكافر وأحكام أهل الذمة وما إلى ذلك مما روّج له المستشرقون والمستعربون بالطعن وتلقّفه غير المحصّنين فكريا من أمثال عدنان إبراهيم وجمال البنا ومحمد المختار الشنقيطي وغيرهم من متخرجي مدرسة رشيد رضا.
أثار انتباهي ما نشره محمد المختار الشنقيطي بأنّ عقوبة قتل المرتد أخروية لا دنيوية مذكّرا بنقاط عدّدها كحجج لمقاله الذي نفى فيه قتل المرتد .. سأعرضها تباعا مع نقدها باحثا عن الحقيقة بين أقوال الفقهاء ومقاصد الشريعة ومتطلبات واقعنا المعاصر.
إن أول من أثار مسألة قتل المرتدّ وأنكرها في العصر الحديث هو الشيخ رشيد رضا ـ غفر الله له ـ بعد أن تأثر بالهجمة الاستشراقية الطاعنة في الإسلام والباحثة عن أي شيء يكون سببا في تقويضه من الداخل.
يقول الشيخ رشيد: ما حصل من ذلك في صدر الإسلام فقد كان لضعف المسلمين وقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم والخوف من إفشاء أسرارهم وإعانة العدو عليهم، وتمكينه منهم، وتشكيك ضعاف المسلمين في دينهم، أو لأن المرتد كان ممن آذاهم وأبيح لهم دمه، فلمَّا تظاهر بالإسلام كفوا أيديهم عنه، ثم لما عاد عادوا إليه فهذه أسباب قتل المرتد في العصر الأول، أما الآن فإن وُجدت ظروف مثل تلك، وحصل مثل ما كان يحصل جاز لنا قتله؛ لأنه صار ممن حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد … وأما قتل المرتد لمجرد ترك العقيدة فهذا مما يخالف القرآن الشريف (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) مجلة المنار (9/515) .
إن رشيد رضا يرى أن المسألة أقرب إلى السياسة منها إلى الدين، وأن ما جرى في صدر الإسلام كان من أجل الحفاظ على الملك والحكم، وأن ما حصل كان عملية سياسية خشية إنهاك الدولة وتخلخلها… وهو بهذا يقرر قول المستشرقين المناهضين للإسلام، لكننا نجد في تفسيره ـ تفسير المنار ـ يقرر ويقعد قاعدة ( لا إكراه ) بأنها من أعظم أركان الإسلام لا مناص من تقريرها حيث يقول : لا إِكراه في الدين قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته فهو لا يجيز إِكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه، وإِنّما نكون متمكّنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن معتمدين على تبين الرشد من الغي بالبرهان. تفسير المنار (3/33) ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
يقول المستشرق البلغاري توفيان نوفا ـ الذي أسلم فيما بعد ـ جوابا على سؤال وجّه إليه في شأن قتل المرتد عند المسلمين كباحث غاص في أعماق الشريعة ودرسها لسنوات وسنوات فكان جوابه : قد تضمّنت مؤلفاتي الكثير من الحقائق التي نادى بها الإسلام … ومنها أن يكون لكل إنسان حرية اختيار العقيدة التي يؤمن بها … لأن العقيدة اقتناع داخلي وعمل باطني لا يُجدي فيه الإكراه … وأن لصاحب هذه العقيدة الحق الكامل في ممارسة شعائرها والعمل وفقاً لشريعتها ـ في حرية وعلنية تامة ـ وقد تمتع بهذه الحرية المطلقة أتباع الديانات الأخرى في ظل الدولة الإسلامية الأولى وحتى اليوم … وتوفّر لهم الدولة الإسلامية جميع الضمانات للعيش في أمن وسلام وأضاف: أما بالنسبة لما يردده بعض المستشرقين عن قتل المرتد عن الإسلام… فأنا أقول لهؤلاء: إنه في ظل النظم الغربية هناك عقوبات صارمة على جريمة الخيانة العظمى … والمرتد في الإسلام هو الذي يُنكر الأمور الثابتة في الإسلام ثبوتاً قطعياً … فالعقوبة هنا لا تكون نظير الردة، وإنما هي عقوبة للمكيدة الدينية التي ارتكبها هذا المرتد في حق المجتمع الذي عاش في نطاقه فهي ليست عقوبة على تركه الدين الإسلامي بأي حال من الأحوال، نعم، العقوبة هنا للمكيدة الدينية التي ارتكبها هذا المرتد في حق المجتمع الذي عاش في نطاقه … صيانة للمجتمع وحفاظا على نظامه الاجتماعي العام الذي ينطلق من الدين ويتحكّم في سلوكياته اليومية .
قال الأستاذ الشنقيطي : ( من أعظم المبادئ الإسلامية التي فرَّط فيها المسلمون على مرِّ القرون منع الإكراه في الدين، ليكون الدين لله.. ويبقى باب الرجوع إلى الله مفتوحا للناس ما بقُوا )
نعم، لقد حافظ المسلمون على مرَّ عصورهم على أن يبقى هذا الدين نقيا خاليا من الشبه والمستحدثات، كما ساهموا بشكل كبير في سبر أغواره واستخراج صدفه التي أضاءت للبشرية وأخرجتها من غياهب الظلم والفجور إلى رحابة الإسلام وسعة الدنيا.
لم يفرط المسلمون في شيء من دينهم، والذي وقع من تغير هو محاولة بعضهم إرضاء المجتمع الغربي بتنازله الماجن وانسلاخه من القيم الاسلامية التي ورثها عن آبائه وأجداده حتى يكون له عندهم وزن وهيهات له أن يكون ذلك حتى يتخلى عن الإسلام بالكلية.
الإكراه في الدين حين يخرج عن سياقه السببي ـ كما هو معروف عند أهل التفسير ـ سيؤدي حتما إلى ثقافة الخلط والتخبط الفكري بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ، فآية (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) أساء فهمها الكثير من الحداثيين والمحدثين من معتزلة العصر.
قال ابن جرير الطبري: سبب نزول هذه الآية أن قوما من الأنصار كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (4/546) ط، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع.
فهؤلاء القوم أرادوا إقناع أبنائهم بدين جديد وطارئ على دينهم السابق، وبهذه الطريقة سيكون إسلامهم من غير رضا ولا اختيار والله – سبحانه – يقول (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فمن رشد وعقل سيدله ذلك لامحالة إلى الإسلام وقيمه، ومن لديه خبط وطيش فلن تجد له وليا مرشدا.
يدل الأمر كذلك على أن الإسلام يتيح للشخص حرية الاختيار والتفكير قبل أن يقدِم على عقد ميثاق يلزمه الانصياع والتسليم لكل ما يتضمنه من أوامر ونواهي، وأنّ هذا العقد يترتب عليه أن يصان له عرضه ودمه وماله، وأي إخلال بهذا يترتب عليه كذلك أن يستباح دمه وماله وعرضه، حفاظا على المجتمع الذي يعيش فيه ويكون بمثابة بتر لعضو فسد من الجسد عجز الأطباء عن علاجه ويترتب على تركه نقل العدوى إلى سائر الجسد .
من ناحية أخرى نجد أن بعض العلماء قالوا إن الآية قد نسخت بقوله ـ تعالى ـ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) وكذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) والأمر كما هو معلوم للوجوب حتى يأتي صارف أو مخصص، وقد نُسب هذا القول إلى الشعبي وقتادة والحسن والضحاك رحمهم الله تعالى. تفسير القرطبي (3/280) ط ، دار الكتب المصرية .
وبهذا تكون آية الإكراه لها محل من النظر فيما يتعلق بالكافر الأصلي، أمّا صاحب الكفر الطارئ فتواترت الأخبار وتنوعت مقاصد الشريعة في أحكامه ولم ينكر أحد من المسلمين في القرون المفضلة أنه لا يكره على الإسلام .
ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية وإن كان ورودها جاء في شأن الأنصار الذين أرادوا إرغام أبنائهم على الإسلام فإنها تعم كذلك باقي أهل الكتاب وبهذا تكون خاصة في شأنهم.
أمّا باب الرجوع إلى الله فهو مفتوح إلى أن يغلق الله باب التوبة، إلا أنّ المرتدّ الذي استهزأ برسول الله عليه الصلاة والسلام أو أحد من الأنبياء أو الرسل فإنه يقتل ولو تاب لأنّ الأمر متعلق برسول قد توفاهم الله تعالى، أما غير هذا فيجوز الرجوع فيه عن ردته ولا يقتل بضوابط وأحكام مبينة في كتب الفقهاء.
المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
يتواصل هذا الموضوع في عشر مقالات ….