بعد ما انتهينا إذن من الكلام على ما أعد الله لأهل الإفك والافتراء من الخيبة والخسران؛ نصل الآن إلى ما توقفنا عنده وما كنا وعدنا القارئ الكريم به من مناقشة إشكالية الوضع السياسي في البلاد، وهل ما يوجد عندنا هو أزمة حقيقية أم مصطنعة؟ وماذا عن مقولة ما يسمى بشغور المنصب الرآسي أو وجود المانع النهائي؟ تلك المقولة التي ظل البعض ممن دأبوا على استسهال قلب الحقائق بها يتغنون؛ وعليها يقسمون ولا يستثنون؛ ولو أنهم اتبعوا منهج القرآن فتبينوا وتثبتوا لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون.
والواقع أنني أخشى أن تكون مسألة الشغور أو المانع النهائي هي مما يصدق فيه قول الحق جل من قائل ﴿…ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون﴾ (الزخرف/58)؛ وإلا فإن المادة 41 من الدستور الوطني صريحة في تناولها لمثل هذا الإشكال؛ وذلك بشرط أن يكون مقصودنا هو مجرد زوال الإشكال ولم تكن هناك حاجة أخرى في نفس يعقوب؛ حيث تنص تلك المادة على أنه: “يتحقق المجلس الدستوري من الشغور والمانع النهائي على أساس طلب من:- رئيس الجمهورية أو رئيس الجمعية الوطنية أو الوزير الأول”.
وهكذا يتضح لكل من يقرأ نص المادة –ما لم تكن على بصره غشاوة- أنها قد حددت الجهة المسؤولة عن التحقق من الشغور والمانع النهائي؛ وزادت في التوضيح والتحديد حيث هما مطلبان ومعياران أساسان في المواد القانونية لرفع الخلاف وتجنب الالتباس؛ فحددت لنا الشخصيات التي يحق لها طلب التحقق من ذلك؛ لترفع بذلك أي لبس محتمل وتقطع السبيل أمام أصحاب القيل والقال اللذين نهى عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. (مسلم / كتاب الأقضية / باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة).
وإذا أردنا أن نتناول الموضوع عموما من منظور السياسة الشرعية فإن مقاربتنا حوله تبدأ من النظر العقلي والشرعي حول المفارقة التي تبدو للوهلة الأولى بين اتساع نطاق المسؤولية التي أناطتها الشريعة الإسلامية بصاحب الإمامة العظمى (الرئيس)؛ حيث هو مسؤول أمام الله تعالى عن جميع الولايات الشرعية (القطاعات الوزارية وغيرها) وكل ما يدخل في مفهوم الحديث المتفق عليه: <<كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته…>>؛ هذا من جهة. ومن جهة ثانية ما يعتري الإمام الأعظم ويلحقه من الصفات والأعراض البشرية من حيث هو بشر فهو بطبيعة الحال يأكل ويشرب وينام ويمرض ويحضر ويسافر… قال تعالى في حق رسله الكرام الذين هم صفوة البشر وأفضل الساسة؛ حيث كانوا يسوسون أممهم؛ وهم أرعى الناس لحدود الله: ﴿وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين﴾ (الأنبياء / 8)
وهكذا يتولد الجواب على مسألتنا من آلية الجمع بين تينك المفارقتين المذكورتين؛ حيث أباح الشرع للإمام الأعظم أو الرئيس -بل أوجب عليه في أغلب الحالات- أن يستنيب من يباشر أو بالأحرى من يباشرون المهام والأعمال بمختلف تلك الولايات الشرعية حيث أنه ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾(البقرة/ 286) ولقاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. فكل القائمين على القطاعات بالمفهوم الشرعي هم نواب عن الرئيس أي في أجزاء من مسؤولياته ووظائفه التي سيسأل عنها؛ وما عليه إلا أن يحسن اختيارهم ويجتهد قدر الاستطاعة في توجيههم ومتابعتهم…
وهذا الفقه السياسي أو إن شئت قلت الفكر السياسي الإسلامي عام لا يخص مذهبا دون آخر؛ ولهذا قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في “كشف الضبابة في مسألة الاستنابة”: “قد أباح الله ورسوله وحملة الشرع من جميع المذاهب الاستنابة في عدة مواضع كل واحد منها يصلح على انفراده دليلا مستقلا لجواز الاستنابة في الوظائف….الحادي والعشرون إلى الثالث والثلاثون: ولاية الحسبة وولاية المظالم وولاية الجرائم وإمارة الجهاد وإمارة سائر الحروب وإمارة تسيير الحجاج وإمارة إقامة الحج وولاية قسم الفيء والغنيمة وولاية الجزية وولاية الخراج وولاية الإقطاع وولاية الديوان وولاية النظر في بيت المال كلها ولايات شرعية وهي من وظائف الإمام وتفويضه إياها لغيره استنابة وهم نواب له وقد عقد لها الماوردي أبوابا في كتاب الأحكام السلطانية” (السيوطي؛ الحاوي للفتاوي؛ ج1؛ ص 158 وما بعدها).
فإذا تقرر لدينا ذلك علمنا أن إصابة فخامة الرئيس وسفره لاستكمال العلاج قد لا يشكلان أحسن مادة للاستهلاك في إيقاظ الفتنة بالبلاد؛ لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القانونية ولا حتى من الناحية الأخلاقية أو العرفية، لأن أمر الرآسة لا يتعلق بمدى القوة البدنية أو العضلية كما يحاول البعض أن يوهم الرأي العام على سبيل المغالطة؛ بل يتعلق بالدرجة الأولى وكما رأينا بمدى الاجتهاد في حسن الاختيار وحسن التدبير والتوجيه والمتابعة…
وكما أكدنا في الحلقة الماضية فإن ما بلغنا وما علمناه وعلمه الجميع من وسائل الإعلام هو انتظام الأعمال إن لم نقل تضاعفها وتنوعها بمختلف القطاعات الحكومية خلال الأسابيع الجارية بأوامر وتوجيهات ومتابعة من فخامة رئيس الجمهورية رغم وجوده في باريس وذلك بشكل يجعل مجرد الحديث عن فراغ منصب الرآسة أو العجز النهائي أو نحوها أمور في غير محلها…
والواقع أن استسهال اقتحام الإفك والأكاذيب وانتهاج أسلوب الشائعات المغرضة هي أمور لا يمكن أبدا أن تكون مشرفة؛ وقد تشتد خطورتها ونشازها في مجتمعنا المسلم المحافظ؛ لاسيما إن كانت تصدر عن من يمكن أن يظن بهم خيرا.
ولكن الذي لا ينبغي للقارئ الكريم أن يشك فيه ولو للحظة واحدة هو أن أولئك الأشخاص الذين يراهنون في عملهم السياسي على مثل تلك الموبقات الشرعية والشذوذات الأخلاقية والاجتماعية ويعولون عليها كسبيل لتحقيق مآربهم الشخصية الآنية الضيقة ﴿إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه﴾ (غافر/ 56). وعلى كل حال فليس المجتمع الموريتاني المسلم المحافظ منهم في شيء ﴿…إنما أمرهم إلى الله ثم ينبؤهم بما كانوا يفعلون﴾. (الأنعام /159).
وإنما الشيء الذي لا بد أن يدركه هؤلاء هو أن اختباءهم وراء الشعارات الكاذبة والأقنعة الزائفة لن يغني عنهم من الله شيئا؛ فسيكشف أمرهم ويرد كيدهم ومكرهم؛ فتجارتهم خاسرة وبضاعتهم كاسدة؛ فالله يمهل الظالم ولا يهمله؛ وهم على ما أعده لهم لا محالة قادمون حيث قال جل من قائل: ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون﴾ (إبراهيم/42).
ومهما يكن فإن الخطوط العريضة والقواعد الكبرى لمنهج الشرع الإسلامي الحنيف فيما يتعلق بموضوع الشائعات؛ والتي بدون مراعاتها يصبح مجتمعنا المسلم البريء تحت رحمة المرجفين والمفسدين في الأرض أصحاب الأغراض والأجندات الضيقة –لا قدر الله- تلك القواعد الإسلامية الكبرى إذن هي إجمالا واختصارا -لمن يهمهم أمرها- على النحو التالي:
– وجوب التثبت وطلب البرهان: وهذا ما ندب الله تعالى إليه في كثير من آي القرآن، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات/6) وقال تعالى: ﴿لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء﴾ (النور/13).
– عدم ترديد الإشاعة وعدم الخوض مع الخائضين: لأن ترديدها مساهمة في ترويجها ونشرها من حيث ندري أو لا ندري؛ فإذا لم تتمكن من معرفة صحة الخبر أو كذبه فانه يتوجب علينا طرحه جانبا، ولا نعيره أي اهتمام ولا نتحدث به قال تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام/68) وقال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور/15) وفي الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: <<كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع>>. وفي رواية أخرى <<كفى بالمرء كذبا>>.
– أن يرد الأمر إلى أهل الاختصاص: قال تعالى: ﴿وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء/83)
وختام المسك:﴿يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين﴾ (النور/17).