لا زالت أحداث المنطقة العربية تستأثر باهتمام الصحافة العربية والعالمية الموضوع السوري لم يبرح مكانه في واجهة الأحداث ، مع تكثيف النشاط علي جبهتين متناقضتين : جبهة دبلوماسية يقودها “أنان ” ، تبحث عن حل توافقي بين الفريقين المتصارعين يوقف حمام الدم، وجبهة عسكرية تزداد اشتعالا وعنفا ، تستنزف النظام السوري وتنذر بسقوطه ، ولكنها تنذر بما هو أخطر من ذلك وهو سقوط الدولة السورية برمتها ، وتقسيمها إلي دويلات إثنية ودينية وطائفية تتحكم فيها القوي الإقليمية والدولية ، وذلك تمهيدا لتقسيم المنطقة بأكملها، وإعادة تموضع القوي العظمي فيها
بشكل جديد ، تطبيقا لخطة ” سايس- بيكو الثانية ” التي حذر منها النائب لبريطاني” جورج غالوي” الذي وصفه بعض الكتاب الإسلاميين بــ ” نجاشي القرن العشرين “.
أما الموضوع الفلسطيني الذي غُيِّب عن الواجهة الإعلامية الدولية بقرار سياسي ، منذ فترة طويلة ، وغاب عن واجهة الإعلام العربي أوغُيب عنها منذ أن بدأت موجات ” الربيع العربي” تضرب المنطقة ، فلا نسمع له همسا لا في الفضائيات العربية ولا حتى في الصحف ، فقد عاد إلي واجهة الأحداث العربية والعالمية بعد التقرير الذي بثته قناة الجزيرة القطرية والفلم الوثائقي الذي بثته قناة ” الميادين ” اللبنانية حول أسباب موت عرفات ، حيث أثبتتا فيه أنه قد اغتيل بمادة سامة أو مشعة دست في طعامه أو شرابه .
الجامعة العربية التي لم يذكر لها التاريخ مأثرة في نصرة القضية الفلسطينية ، ولا في غيرها من القضايا العربية الأخري ، والتي تحولت في أيامنا هذه إلي أكبر منافس “لليون تروتسكي” و”فيدل كاسترو” في تحمسهما و دعوتهما للثورة العالمية الدائمة ! أعلنت حالة الطوارئ واستدعت مجلس وزرائها علي جناح السرعة للإجتماع بصفة عاجلة في العاصمة التونسية لمناقشة من قتل عرفات ! بعض المعلقين توقع أن تصدر من الجامعة قرارات إستثنائية خطيرة – بحجم الإجتماع – تقلب المعادلة الفلسطينية رأسا علي عقب ، لكنهم أختلفوا في نوعية تلك القرارات ، البعض من المحللين استبعد – في الوقت الراهن – أن يبعث الوزراء العرب ياسر عرفات من مرقده ، و يعيدوه حيا إلي مكتبه في رام الله ، فهذا الإحتمال غير وارد علي الإطلاق، ولن تقبله السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن ، لأنه سيهدد المصالحة الفلسطينية و سيقضي علي “خطة دايتون” و” تفاهمات تينيت” وهي مكاسب انتزعتها السلطة – بعد وفاة عرفات – ولا يمكن التفريط فيها أو العودة عنها . ومع ذلك فإن جميع المحللين يجمعون علي أن الإجتماع سيكون في مستوي التحديات المطروحة علي القادة العرب ! فهل سيعلنون الحرب علي إسرائيل ، ويحررون كل فلسطين ، وينقلون رفات ” ياسر عرفات ” ليدفن في القدس كما كان حلمه وكما أوصي بذلك ؟ و هل سيقطعون العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا ويحظرون تصدير النفط إليها وهي التي تمول إسرائيل بالمال وتزودها بالسلاح وتدعمها بالدبلوماسية في مجلس الأمن ؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القليلة القادمة… وفي هذا الأثناء – واستباقا لإجتماع وزراء خارجية العرب ، وخوفا مما سيقررون – يتبرأ المسؤولون الإسرائيليون من مسؤوليتهم ومسؤولية دولتهم عن موت عرفات ، ويلقون باللوم علي الدائرة المقربة منه في حركة فتح أو علي الدائرة البعيدة عنه في حركة حماس ، وبعض الصحف الإسرائيلية تذهب أبعد من ذلك لتشويه صورة عرفات الأخلاقية ، وتشكك في سلوكه ، وسلوك زوجته ” سها “، وتقول إنه قد توفي بمرض ” الأيدز ” ! .
لكن مفاجأة الأسبوع ليست في الملف الطبي لعرفات الذي مضي علي وفاته أكثر من ثماني سنوات كانت كافية لطمس الكثير من معالم جريمة اغتياله ، ولا في سوريا التي تقطر دما منذ أكثر من 17 شهرا ، ولا في مدينة ” تومبكتو” التي تعبث ” طالبان ” الإفريقية بأضرحتها ومتاحفها وآثارها ، كما عبثت من قبل طالبان الأفغانية بتماثيل ” بانيان ” البوذية ، لقد جاءت المفاجأة هذا الأسبوع من مصر وليبيا .
ففي مصر حاول الرئيس المصري المنتخب حديثا – في إجراء يائس يفتقد إلي الحكمة والمرونة – أن يفك بعض الأغلال التي كبله بها العسكر قبل أن يجلس علي كرسي الرئاسة ، فاصدر مرسوما رئاسيا باعادة مجلس الشعب المنحل ، لكن خطوة الرئيس ” مرسي ” بيدو أنها كانت سابقة لآوانها فقد ثارت ثائرة القضاء المصري ولم تهدأ، وأنذرت المحكمة الدستورية الرئيس وأمهلته يومين ليتراجع عن قراره ، وإلا فتهمة الحنث باليمين ومخالفة الدستور.. ستكون له بالمرصاد .
لم يٌغضب المرسوم الرئاسي المؤسسة القضائية فقط بل أغضب أيضا أعضاء المجلس العسكري – وإن كتموا غيظهم – أما القوي العلمانية فقد استبشروا خيرا بهذا القرار ، ووجدوا فيه ضالتهم المنشودة ، و فرصة سانحة للتحذير من الإخوان الذين يتربصون شرا بالثورة ويهددون بابتلاع السلطات كلها : التشريعية والتنفيذية والقضائية دون أن يشركوا فيها أحدا ، وهو ما يعتبر انقلابا علي الثورة و استنساخا لنظام مبارك باسماء وعناوين جديدة .
لم يكن أمام مرسي إلا أن يتراجع عن قراره ، ويستسلم للأمر الواقع ، ويظل أسير محبسيه : القضاء والعسكر ، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولقد عاش اردوغان تجربة مماثلة مع العسكر والقضاء في تركيا ، إلا أنه انتظر عشر سنوات قبل أن يتحرر منهما، فهل سيصبر مرسي كما صبر أولوا العزم من اسلاميي الأتراك ؟ ، أم سيحاول حرق المراحل واستعجال قطف الثمرة قبل أوان نضوجها ؟
أما في ليبيا فقد مثلت نتيجة الإنتخابات التأسيسية مفاجأة من العيار الثقيل ، وانعطافة كبيرة في مسار الربيع العربي الذي لم يثمر حتى الآن – حيث أثمر- إلا الأنظمة الإسلامية ، بعض الصحف وصفت ما حدث في ليبيا من فوز كاسح لقوي التحالف الوطني الذي يشكل خليطا من الأحزاب الوطنية والوسطية والليبرالية ، علي حساب الحركات الإسلامية ، بأنه ” أم المفاجآت ” ، حيث كانت كل توقعات المحللين تذهب لا إلي فوز الإسلاميين المعتدلين ، بل إلي صعود السلفيين في طبعتهم الجهادية واكتساحهم صناديق الإقتراع ، بل إن بعض الكتاب تحدث عن بداية ” الربيع الليبرالي ” الذي ظل بعيدا عن العالم العربي! ما الذي حدث في ليبيا ؟ لماذا هذه المفارقة الغريبة والعجيبة حيث يصعد الإسلاميون في الدول العريقة في ليبراليتها ( تونس ومصر ) وينتصر الليبراليون في مجتمع تحكمه العادات القبلية والثقافة التقليدية ولم يعرف حياة سياسية معاصرة ؟.
بعض الكتاب اتخذ من الحادثة لليبية مناسبة لنقد ” الإعلام الإنتقائي ” الذي كان يركز في تغطيته الأحداث الليبية علي تيار سياسي وفكري معين ، وإهمال تيارات أخري أظهرت الإنتخابات أنها الأقوي علي الأرض ، ولا يعتبر هذا النوع من الإعلام إعلاما متحيزا فقط بل هو مضلل أيضا ، فهو يختار من الأحداث ومن الضيوف والمحللين بعناية فائقة ما يخدم أجندته السياسية أو الفكرية ، ويطوي صفحة كل ما يتعاكس معها ، وهو يندرج ضمن ” الإعلام الحربي ” الذي وضع ” غوبلز ” وزير الدعاية النازي أسسه وقعَّد قواعده .. ويبدو أن هذا النوع من الإعلام هو الأعلي صوتا والأوسع انتشارا والأشد تأثيرا في عالمنا العربي … ولهذا كانت نتائج الإنخابات الليبية مفاجأة لنا، نحن ضحايا ذلك الإعلام ، ولكنها لم تكن أبدا مفاجأة لليبيين ! .