تعيش الساحة اليوم تحت صدمة جريمة بكل المقاييس، جريمة إحراق كتب ظلت المرشد المعين والخليل الناصح والحطاب المبصر في رابعة النهار، في بلاد الإسلام عامة وكانت الحلي الذي يوسوس على صدور الشناقطة أنى ضربوا في بلاد الله الواسعة فبه ملكوا الألباب وسحروا النفوس.
والمفارقة لا تكمن في مجرد المكان بل في الزمان والفاعل، أما الزمان فزمان العتق والتحرر والثورة والتنوير والوعي وفي زمان يحوي تلك الظواهر تروج الكتب وتغلى لا تداس ولا تحرق إذ هي إما أن تحوي فكرا ناصعا ونورا ساطعا فلا غنى عنها، أو تحوي ضلالا وظلاما فتبقى شاهدا يستنطق منها الدليل على تلك الظلامية وذلك الضلال، وتستخلص العبر والحق أبلج لا يخفى على أحد.
أما الفاعل فأستاذ مهما اختلفنا معه فلا يمكن أن ننكر أنه ذو حظ من العلم والثقافة الشرعية والعصرية، ولا بهذه ولا بتلك يمكن أن يسوغ الفعلة النكراء، ثم إنه صاحب قضية وأصحاب القضايا يفترض أنهم أرحب الناس صدرا وأقواهم تحملا وأبعدهم عما يتناقض ومنطلقاتهم ومبادئهم وإن فاتهم بذلك قدر كبير من المصلحة الآنية الضيقة، ولا يخفى أن حرق الكتب اعتداء على المجتمع في دينه واعتداء على الإنسانية في تراثها، واعتداء من الفاعل على نفسه بانتحار معنوي تفوق خطورته الانتحار المادي، لأنه سيخلد في الذاكرة الإنسانية خلود الكتب الضحية وجماهيرها.
لا يجد المرء تحليلا موضوعيا للحرق إلا أحد ثلاثة احتمالات:
ـ أن يكون الفاعل أصبح كما يروج الكثيرون أداة طيعة في يد الماسونية والمنظمات اليهودية الحاقدة على الإسلام والتي لا تألو جهدا في العمل على إهانته من أهله وفي ديارهم، خاصة بعدما كشف عنه الربيع العربي من تغلغل العاطفة والفكر الدينيين لدى المسلمين، وبذلك يكون رشح نفسه باستحقاق لإحدى أكبر الجوائز العظيمة المرصودة لمثل هذا الفعل ويلتحق بركب سلمان رشدي، ولن يعيي المنظمات التي أغرته بالجريمة أن تجد له المخرج من الورطة الناجمة عن تنفيذ الجريمة.
ـ أن يكون الفاعل صنيعة لاستخبارات مهدت له السبيل إلى ما وصل إليه ليقدم لها أعظم خدمة وفي وقت أحوج ما يكون النظام إلى ما يشغل عنه الرأي العام الذي أجمع على الاستياء من سياساته في كافة المجالات، وبلغ الحد بالمعارضة ومسيراتها الحاشدة أن تطالبه بالرحيل، فجاءت هذه الجريمة عساها تكون زورق للنظام والخروج به من عنق الزجاجة وبدا الرئيس وكأنه الملا عمر يضحي بالديمقراطية وكل شيء من أجل الدين الذي لم تكمل سخريته منه الأربعين يوما.
وقد يشهد لهذا ما في تصريحاته الأولى قبل القبض عليه من الثناء على المنسقية وخاصة تواصل الذي كاد يقول إنه يتفق مع حركته في كل شيء وأن النظام لن يفلح في التفريق بينهما.
ـ أن لا يكون الفاعل عميلا ولا مخبرا لكن بعض المقربين منه والقادرين على توجيهه هم الموظفون في الجريمة ويكون بيرام ضحية الغرور والغباء والولع بالإثارة والخروج على المألوف، وفي هذه الفرضية سيدفع الثمن أكثر، غير أنه حينما يكون كذلك عليه أن يدرك حجم الفخ الذي وقع فيه والجريمة التي ارتكب فليبادر إلى التوبة والاعتذار بقوة ووضوح وصدق ليقطع الطريق على الصائدين في المياه التي عكرتها جريمته.
إن هجوم بيرام على المذهب المالكي والدعوى بأنه يمجد العبودية يحتم علينا أن نقف قليلا عند المذهب المالكي وخصائصه، وهل انفرد من بين المذاهب بالتفريق بين العبد والحر في بعض الأحكام؟
مفهوم المذهب لغة:
قال الزمخشري في أساس البلاغة: ((ذهب من داره إلى المسجد ذهاباً ومذهبا وذهب مذهبا بعيدا وأذهبه: جعله ذاهبا وذهب به: مر به مع نفسه… ومن المجاز والكناية: ذهب فلان مذهباً حسناً. وذهب عليّ كذا: نسيته. وذهب الرجل في القوم والماء في اللبن: ضل. وفلان يذهب إلى قول أبي حنيفة أي يأخذ به. وذهبت به الخيلاء. وخرج إلى المذهب وهو المتوضأ عند أهل الحجاز)).
المذهب اصطلاحا:
هو ما ترجَّح عند المجتهد في مسألة من المسائل بعد الاجتهاد ، فصار له معتقدًا ومذهبًا ، وعند بعضهم ما قاله مجتهد بدليل ومات قائلاً به ، وعند بعضهم أنه المشهور في مذهبه، ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف ، وقال بعضهم : هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية.
خصوصيات المذهب المالكي
یمتاز المذهب المالكي بعدة مزایا وخصوصيات من أهمها.
أولا: وفرة مصادره وكثرة أصوله المتمثلة في الكتاب نصه وظاهره ومفهوم الموافقة فيه ومفهوم المخالفة و الإيماء منه ومثلها من السنة ثم إجماع الأمة وعمل أهل المدینة، والقياس،والاستحسان،وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، والاستقراء، والأخذ بالأحوط، ومراعاة الخلاف.
هذه أمهات الأصول إضافة إلى القواعد المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف ومائتي قاعدة.
وهذا الثراء أعطى الفقه المالكي حيویة وقوة وإذا كانت بعض المذاهب شاركت المذهب المالكي في بعض هذه الأصول فإن ميزة الفقه المالكي تكمن في الأخذ بجميع هذه الأصول بينما غيره لم یأخذ إلا ببعضها.
ثانيا: تنوع هذه الأصول والمصادر فإنها تتراوح بين النقل والرأي فكان المذهب المالكي ملتقى لمدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي، وهو سر وسطيته ورجحان غالب أقواله.
رابعا: انفتاحه على الشرائع السماویة السابقة والمذاهب الفقهية واعترافه بها بفضل قاعدة “شرع من قبلنا شرع لنا ما لم یرد الناسخ” وقاعدة ” المصيب واحد، لكنه غير متعين” لذا أباح المالكية الاقتداء بالمخالف في الفروع ولو ترك شرطا من شروط الصلاة أو ركنا من أركانها في الفقه المالكي إذا كان الإمام لا یرى ذلك شرطا ولا ركنا في مذهبه، كالصلاة خلف من نام ولم یتوضأ.
كما يصحح المذهب المالكي حكم المخالف ويمنع نقضه وإن خالف المشهور أو الراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة في المذهب بحكم الحاكم یرفع الخلاف المشار لها بقول خليل: رفع الخلاف لا أحل حراما.
خامسا: قابليته للتطور بفضل أخذه بمبادئ العادة الحسنة والمصلحة المرسلة؛ فإن هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، مما یفتح الباب أمام الفقيه لاستنباط ما هو الأفضل والأنسب.
لا غرابة إذن أن يعم المذهب المالكي أصقاع العالم الإسلامي قديما وحديثا لما اتسم به من رجحان لجمعه بين الأثر والنظر ومرونته العظيمة خاصة في المعاملات وهذا شهد به بعض المحققين من غير المالكية كابن تيمية وابن القيم.
أضف إلى ذلك أن الإمام مالك فقيه الثائرين وفتواه مشهورة في أنه ليس على مستكره يمين مبيحا بذلك التحلل من الأيمان التي كان يأخذها الأمراء على الناس بالطاعة، وجاء في الخرشي أحد شراح الضحية الكبرى للمحرقة (خليل): (روى ابن القاسم عن مالك: إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه، ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما) .
ومالك إمام المضربين دفاعا عن الحق العام فقد روى عياض عن عبد الجبار بن عمر قال حضرت مالكا وقد أحضره الوالي في جماعة من أهل العلم فسألهم عن رجل عدا على أخيه حتى إذا أدركه دفعه في بئر وأخذ رداءه، وأبوا الغلامين حاضران فقال جماعة من العلماء: الخيار للأبوين في العفو أو القصاص فقال مالك: أرى أن تضرب عنقه الساعة فقال الأبوان: أيقتل ابننا بالأمس ونفجع بالآخر اليوم؟ ونحن أولياء الدم وقد عفونا.
فقال الوالي: يا أبا عبد الله ليس ثم طالب غيرهما وقد عفوا فقال مالك والله الذي لا إله إلا هو لا تكلمت في العلم أبدا أو تضرب عنقه.
وسكت وكلم فلم يتكلم فارتجت المدينة وصاح الناس إذا سكت مالك فمن نسأل ومن يجيب؟ وكثر اللغط وقالوا لا أحد في مصر من الأمصار مثله ولا يقوم مقامه في العلم والفضل.
فلما رأى الوالي عزمه على السكوت قدم الغلام فضربت عنقه فلما سقط رأسه التفت مالك إلى من حضر وقال: إنما قتلته بالحرابة حين أخذ ثوب أخيه ولم أقتله قودا إذ عفا أبواه.
العبودية في الإسلام
لم يكن الإسلام هو ما أتى بالرق بل كانت أعداد الرقيق عند مجيء الاسلام هائلة جدا فكان من الواقعية وسنة التدرج الاعتراف بالواقع والتدرج للقضاء عليه فحرم استرقاق الحر ففى الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره } . رواه البخاريّ
وجعل إعتاق الرقبة من كفارات القتل والصوم والأيمان وحرم استرقاق الأصول والفروع وندب إلى عتق الرقبة فقال تعالى (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن أبي هريرة (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه).
وأوصى الإسلام بمعاملة الرقيق أحسن معاملة ففي الصحيح عن أبي ذر قال: (إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم أعيرته بأمه ثم قال إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).
والأصل في كافة أحكام الإسلام أن يتساوى الخطاب بين الناس عامة ذكرهم وأنثاهم حرهم وعبدهم، وقد ورد تمييز في بعض الأحكام بين الحر والعبد اقتضتها واقعية الإسلام وكان أكثرها إسقاطات عن العبد رأفة ورحمة به كسقوط الحج والجهاد عنه وتنصيف الحدود عليه وكان بعضها محل خلاف كبير بين أهل العلم كقتل الحر به وكوجوب الجمعة عليه…
وورد في العبد الذي وفى حق ربه وسيده أنه ممن يؤتون أجرهم مرتين: ففي الصحيح كذلك: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له آمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران).
وهذه الأحكام حيث توجد العبودية الشرعية، أما في بلادنا فمنذ إصدار قانون إلغاء الرق المبني على المصلحة المرسلة التي هي أحد أصول المذهب المالكي منذ ثلاثين سنة لم يعد موجودا لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا وكل ممارسة له لا تختلف عن ارتكاب سائر المحرمات الأخرى، وهكذا لا يكون لإحراق بيرام للكتب معنى بكل المقاييس لأن ما يدعي أنه فيها لم يتوارد مع الواقع على محل.
زيادة على ذلك فإن ما في هذه الكتب ليس خاصا بالمذهب بل في سائر المذاهب المتبوعة وبيرام لا يجهل ذلك بحكم اهتمامه بالمسألة، لذا فإن العلة التي أحرق من أجلها كتبنا المالكية مطردة في سائر كتب الشريعة فهل حرقها في الطريق وإنما حدث هو الخطوة الأولى؟