في عام 1978، عندما كانت موريتانيا، تخوض حربا ضروسا في الصحراء الغربية، كان الوضع الداخلي، جراء ذلك في حالة احتقان غير مسبوق، فجاء أول إنقلاب عسكري في البلاد، أنهى أول نظام مدني موريتاني، ودخل به الجيش يومها عرين السلطة، ولم يخرج منه لحد الآن.ِ
ومنذ ذلك اليوم لم تعرف البلاد، حالة تغيير سلمي، فكلما احتقن الوضع، وتعطلت آليات التواصل بين أطراف اللعبة السياسية في البلد، كانت الأعناق في كل مرة، تشرئب جهة الجيش، فمنه يأتي البديل “الأفضل” – مؤقتا على الأٌقل – بمعايير اللحظة!!
حتى الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، الذي حكم البلاد أطول فترة في تاريخها الحديث حتى الآن، وكان أول ضابط يبتعد خطوات كبيرة عن النظام العسكري البواح، لم ينته حكمه إلا بانقلاب عسكري.
وقبله وبعده لم تتغير قواعد اللعبة .. كان الجيش دائما “المخلص” من حالات الإنسداد السياسي المزمنة!
واليوم تعيش البلاد وضعية مختلة بالكامل، لا تقل خطورة عن أوضاع، قادت في مرات سابقة، إلى تغيير السلطة بالسلاح الذي جربته موريتانيا أكثر من غيره، الإنقلاب العسكري.
الوضع خطير بحسب أغلب المؤشرات والتحليلات، فعلاوة على تداعيات الجفاف الماحق في مختلف مناطق البلاد، وما ينجر عن ذلك من تداعيات خطيرة عل حياة الغالبية من السكان، هناك موجة إحتجاجات غير مسبوقة، تمتد عبر خارطة تتسع بشكل شبه يومي، أفقيا عبر مناطق جديدة في الوطن، وعموديا نحو قطاعات إجتماعية ومنهية متزايدة.
وهذه كلها مؤشرات متطابقة ومتواترة، على أوضاع إقتصادية وإجتماعية، لا يمكن أن تصنف إطلاقا، على أنها الأفضل في تاريخ البلاد.
أما في الميدان السياسي، فالصورة بالمعايير الدستورية المجردة، ليست على مايرام، تفاقمها قطيعة، تزداد حدة بين الأغلبية الحاكمة وأطياف واسعة من المعارضة، وصلت حد التنابز بالألقاب، وحملات متواصلة بأسلحة مختلفة، ليس أضعفها، الإستنجاد بكل قواميس البذاءة والإسفاف في مشاهد غير مألوفة، لم تعرفها البلاد من قبل!!
هذه الوضعية بكل تفاصيلها وتجلياتها، وتداعياتها العامة … وحتى الخاصة ،لا تشي بالعافية في الجسم الوطني، وهو ما دفع الكثيرين للإلتفات في كل الإتجاهات، خوفا وإشفاقا من مآلات ما يجري، وتداعياته التي بدأت تلوح في الأفق، مهددة الوئام والإستقرار واللحمة الوطنية والكيان العام، علهم في خضم هذ المشهد المرتبك، أن يتحسسوا مخرجا ينقذ البقية الباقية.
تنادى لذلك، البعض، وفيهم من يملكون مداخل متعددة في النظام، ولدى بعض تشكيلات المعارضة، وبالتالي أمامهم، هوامش تحرك ومناورة، لا يستهان بها، إلا أن حالة الإحتقان، والتشتت … وحتى نبرات التطرف التي تشوب مواقف أغلب عناصر المشهد بضفتيه الموالية والمعارضة، جعلت مثل هذه الجهود، تكاد تكون “مهمة مستحيلة في نواكشوط”.
والظاهر أن طرفي المعادلة السياسية اتفقا “دون تشاور طبعا” على أن لا يظهرا أي سلبية – علنيا على الأقل – اتجاه مثل هذه المبادرات حتى لا يُحملوا – أخلاقيا – وزر إفشالها، وهي هدية كلاهما في غنى عن تقديمها للآخر، في ظل الإستقطاب الشديد حاليا.
كما أنهما اتفقا على السعي، للإستفادة من أي “ريع” رمزي، قد يجلبه نجاحها، لذلك أمسكا عن التعليق عليها خارج حدود العموميات، الموجهة للإستهلاك الآني … وقصير الأمد جدا.
غير أنه مع تأخر، أو تعثر الحلول السلمية، لا بد أن تقفز إلى الواجهة، من جديد، الحلول المقابلة – حتى لا نقول غير السلمية- مستفيدة من حالة التجييش الواسعة في الشارع، وشعارات ” ارحل ” التي حملتها رياح الربيع العربي، دون أن تحمل معها كل البيئة التي نبتت فيها في تلك البلدان.
وهنا يفقز الجيش إلى الأذهان، كـــــ” منقذ” من حالة الإحتقان في نظر البعض (!!) خاصة أنه في كل الحالات المشابهة أو القريبة التي عرفتها البلاد، ودول المحيط من حولنا، كان دائما هو الملاذ الأخير… يأتي على صهوة البيان رقم واحد، منهيا العهد البائد… ويبشر بعهد جديد من الديمقراطية والتقدم والمساواة، وغيرها من الوعود الوردية، التي تدغدغ مشاعر سكان هذا الجزء من العالم، منذ أمد بعيد، دون أن يوفقوا تماما في رؤيتها تتحول إلى واقع.
غير أن معطيات كثيرة، طرأت على الساحة المحلية والإقليمية من حولنا، خلال السنوات الاخيرة، تجعل شيئا من هذا القبيل، غير متوقع، أو غير وارد على الأقل، بالصيغة التي عهدناها في مرات سابقة.
صحيح أن القوات المسلحة، هي التي تحكم البلاد، منذ أكثر من ثلاثة عقود، بطريقة أو بأخرى، سافرة تارات، ومن وراء حجاب “شفاف” تارات أخرى، لكنها اليوم، أمام معطيات جديدة ، فالإنقلاب العسكري، بصيغته وطقوسه التقليدية، لم يعد مقبولا، كما أظهرت ذلك مؤخرا، التجربة في كل من مالي وغينيا بيساو، وبدرجة أقل الإنقلاب الذي أطاح بالرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، عام 2008.
فالمجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية، والقوى المؤثرة عبر العالم، لم تعد “تهضم” بسهولة الإنقلابات، كما كانت تفعل في السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات، نتيجة عوامل مختلفة ومتشعبة، ليس هذا مقام تفصيلها.
وهذه معطيات يود اليوم النظام في نواكشوط، توظيفها لأبعد الحدود لصالحه، لا بالعزف على وتيرة الشرعية الإنتخابية فحسب، والسخرية ممن يدعونه إلى الرحيل، قبل الإحتكام إلى صناديق الإقتراع، ولكن أيضا، بالوقوف بقوة في وجه الإنقلابات الأخيرة، في كل من باماكو وبيساو، وهذا مايفسر النشاط الملحوظ لموريتانيا في الأسابيع الأخيرة، في إطار المجموعة الإقتصادية لغرب إفريقيا، التي كانت قد انسحبت منها رسميا، في أيام الرئيس الأسبق ولد الطايع.
وبهذه الصيغة تصيد نواكشوط عصفورين بحجرواحد، تعزيز المناعة ضد الإنقلابات، بزيادة وتوسيع وتعزيز الجبهة الرافضة لها، بما يضمن إدانة تلقائية لأي محاولة للإستيلاء على السلطة بالقوة، وحرمان المعارضة، من أي فرص للإستقواء بالجيش، في معركتها الحالية.
ومما يقطع الطريق على أي محاولات، لتوظيف المؤسسة العسكرية من قبل المعارضة – على الأقل – أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز، حديث عهد بالجيش، ولم يرفع عنه عينه بعد، خاصة أن أغلب العناصر الممسكة بأهم تشكيلاته، من جيله ويعتبرون بطريقة ما، رفقاء سلاح بالنسبة له، خلافا لماكان عليه الحال، في السنوات الأخيرة من حكم ولد الطايع، عندما فقد الصلة تقريبا بالجيش، وابتعد عن تفاصيل وحقائق الواقع هناك، خاصة بعدما تقدم رفاقه السابقون في اللجنة العسكرية في السن، وآثروا الحياة الرخية، وتركوا الفرصة سانحة، لأجيال جديدة من الضباط، أجهزت على النظام على حين غرة في عام 2005.
وهذه المعطيات وغيرها، تجعل الحل عن طريق الجيش مستبعدا، مع أن الإنقلابات هي من الأفعال القليلة، التي لا تأتي إلا بغتة، ولا تخضع عادة، للكثير من الحسابات الدقيقة، ولنا في موريتانيا تجارب متعددة في هذا الشأن، أتت من حيث لم نكن نحتسب.
وحتى لا نغلب النظرة المتشائمة، حيال فرص وجود مخارج من الأزمة الراهنة، بعيدا عن قعقعة السلاح، فإن إحتمالات تجاوز الإحتقان تبقى قائمة، ولكن وفق سيناريوهات توفيقة على الأغلب، فلا النظام قادر على المضي في طريقه الحالي، نافيا وجود أزمة من أي نوع، خاصة أن المخارج الدستورية التي قد تفك فتيل الإحتقان، لا تبدو متاحة في مستقبل منظور.
ولكن يكون بإمكانه المضي قدما، ولفترة طويلة، في تجاهل أصوات الإحتجاج المتعالية، من كل حدب وصوب، وسيكون عليه الإستعانة، بآليات واسعة لــــ ” الإسترضاء” الشعبي، عبر مراجعة علاقة السلطة، بمختلف تشكيلاتها الإدارية والحزبية والسياسية، بالمفهوم البسيط، مع عناصر الحشد الشعبي وقيادات التوجيه، وغيرها من الفعاليات المؤثرة على المستوى المحلي والوطني، من الزعامات القبلية والروحية والشخصيات الوازنة وذات الثقل الإنتخابي.
وتدخل في هذا النسق، حملات الحشد الشعبي، التي تحاول جاهدة، إحياء الشعارات التي رفعها النظام في بداية عهده من قبيل، القطيعة مع الفساد، وخدمة الطبقات المهمشة والمحرومة من الثروات الوطنية.
وتتسارع هذه الأيام “حملات علاقات عامة” واسعة النطاق تصب في هذا المنحى، تستهدف تسويق “ماركة نظام رئيس الفقراء” في ثوب جديد، من خلال التدشينات والمشاريع التي يطلقها الرئيس نفسه، بوتيرة متقاربة، منذ عدة أشهر، كما تظهر ذلك، زياراته المتقاربة لولايات البلاد.
كما أن المعارضة غير المحاورة – إن صح التعبير – لن يكون بإمكانها إسقاط النظام بالشارع، على الطريقة التونسية أو المصرية، بالإعتصامات والإحتجاجات، مهما اتسع نطاقها، وازدادت حدتها، ولن تكون أكثر من عامل ضغط، يجبر النظام على تقديم تنازلات.
وحتى توجد مساحة وسطى للتلاقي، بين طرفي الساحة السياسية، ستكون هناك حاجة ملحة لطرف ثالث، يلعب دور الوسيط أو “المسهل” المقرب بين وحهات النظر، ووجود هذا الطرف ونجاحه، مرهون بادراك طرفي الساحة، أن الباب نحو كل الحلول الإقصائية وغير التشاركية، قد أغلق بالكامل.
وفي الواقع أن هذا الحل الثالث، “الوسطي” بين خيار التصعيد والمطالبة بالرحيل كما تفعل ذلك المعارضة دون كلل منذ أشهر، وخيار التجاهل وإنكار وجود أزمة من أي نوع، كما هو دأب النظام، هو المخرج الآمن.
وأي حل لا ينتهي دون غالب ولا مغلوب، سيكون في أٌقل التقديرات، اتنكاسة حقيقية وعميقة، للتجربة السياسية الهشة والمرتبكة والقلقة التي تترنح منذ عدة سنوات، لم تأخذ بعد شكلها النهائي، بل قد يكون إجهازا على كل مساعي، وضع البلاد على سكة سياسية مغايرة، لما ألفته منذ عقود.