..هل ما تعيشه اليوم أزمة حكم أم أزمة ضمير؟
محمد المختار ولد محمد فال ـ كاتب صحفي
استيقظ سكان مدينة نواكشوط صباح الخميس الماضي علي وقع معركة، اعتقدوا- بفعل دوي انفجاراتها- أنها انقلاب عسكري وأن العاصمة تعيش معركة بالذخيرة الحية، لا يمكن أن تحدث فجرا إلا بين أطراف عسكرية تتصارع علي السلطة.
هذا ما توقعه المواطنون وهذا وحده هو ما يفسر دوي التفجيرات، التي أيقظت سكان العاصمة، لكن المفارقة تمثلت في أن عنف السلطة هذا، كان موجها لمجموعة من المواطنين نساء ورجالا وأطفالا، تجمعوا ليعبروا عن موقف سياسي مناوئ ومعارض للسلطة القائمة، فكانت العقوبة بحجم “الجريمة”.
حدث يجب أن لا يمر دون الوقوف عنده لفهم ما جري، هل هو مجرد صراع علي السلطة بين طرف تتهمه المعارضة بالاستحواذ عليها بقوة السلاح ويريد اليوم تحصين موقعه وبين طرف معارض، تتهمه الموالاة بالتعطش للسلطة والعمل علي تخريب البلاد، يحركه الحقد الأعمى وحسده الشديد لرئيس البلاد؟ أم أن المسألة أعمق من ذلك وتتجاوز الجانب الشخصي والمظهر السطحي لتجاذبات المرحلة إلي المستويات الجوهرية للأزمة والمتعلقة بأزمة الحكم التي برزت منذ نشأة الدولة ولازالت حاضرة بنفس العنفوان حتي اليوم؟ أم أن ما نعيشه هو أزمة هوية عجزت النخب عن الإتفاق علي خطوطها العامة؟ أم أن بلدنا يستعد عمليا لدخول مرحلة دشنتها الجارة مالي- وإن بملامح مختلفة؟ أم أن ما حدث، هو مجرد مظهر صحي، تمليه قواعد اللعبة الديمقراطية وضرورات التجاذبات السياسية المتعارف عليها؟ أم أنها مجرد أزمة ضمير، تعاني الطبقة السياسية من وخزها وتعمل اليوم من أجل التكفير عن فعلتها إما بالمعارضة أو بالموالاة؟ أم أن العملية برمتها مجرد صراع علي المنافع والنفوذ، يتخفي كل طرف من أطرافه بمبررات واهية، تخفي النوايا والأهداف الحقيقيين؟ هل نحن أمام وضع يبرر لأي سلطة توجيه هذا المستوي من العنف ضد مدنيين عزل من بينهم نساء وأطفال، ذنبهم الوحيد أنهم عبروا عن رأيهم سلميا وسط ساحة لا تجاورها ساكنة؟ أم أنها شهوة الحكم ومنطق الحاكم الفردي الذي لا يري في المرءات، سوي ذاته؟ وهل هناك طرف يمكنه أن يخرج من هذه المواجهة منتصرا؟
أسئلة قفزت إلي ذهني وأنا أستمع إلي دوي الإنفجارات داخل ساحة مسجد ابن عباس وأستنشق الهواء الملوث المنتشر في سماء العاصمة، بفعل دخان القنابل المسيلة للدموع وأشاهد النسوة والأطفال يخرجون – في وقت متأخر من اليل- من بيوتهم فزعين يسائلون بعضهم البعض فلا يجدون جوابا يفسر لهم ما يجري من حولهم.
إنها الحيرة التي تطبع المشهد السياسي الحالي، المحكوم بحالة من الإرباك والإرتباك، تكاد تكون غير مسبوقة، متزامنة مع مستويات عالية من التشنج الإجتماعي والسياسي وضمور في الموارد والفرص، دفعت بالبعض إلي حالة نكوص نحو الماضي القريب، الذي هلل الكثيرون للإنقلاب عليه، طمعا في الأفضل وتطلعا نحو آفاق يعيش خلالها المواطن وضعا طبيعيا، لكن واقع موريتانيا اليوم – رغم أنه لا يرضي الصديق، فهو أيضا لا يطمئن الجوار- قد أصبح محل ارتياب بالنسبة للأطراف الخارجية، التي عبر بعضها عن تخوفه من أن تتحول أوضاعها إلي عامل توتر في المنطقة أو تصبح جزءا من حزام الأزمات في منطقة الساحل.
وأمام واقع كهذا، الذي يعيشه البلد – منذ بعض الوقت- والذي وضع جميع الأطراف السياسية تحت تأثير حالة استقطاب جديدة في أسلوبها ومتفردة في آلياتها، فإنه لا بد من التوقف قليلا عند الطرفين المعارض والمؤيد:
– فالنظام يتبع شعار: ” من ليس معنا فهو ضدنا” ويري أنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن، مادام البلد يحكمه “رئيس الفقراء” ويستظل بنظام يحارب الفساد والمفسدين- وهي صفة قابلة للتبدل والتحوير حسب الموقف من النظام تأييدا أو معارضة.
– أما المعارضة فتري في النظام شرا مستطيرا، يتحكم فيه شخص عديم الخبرة والكفاءة، لا يقيم وزنا لمصالح البلاد والعباد، يعتمد التدليس من أجل خداع المواطنين البسطاء، بغية إقناعهم بأنه يعمل المستحيل لصالحهم، سياساته مدمرة وكفيلة بإهلاك الحرث والنسل ، رئيس همه الأساسي، هو: تكديس ثروة هائلة له ولذويه ويرون أن كل يوم يسمح له فيه بالبقاء سيكون ضارا مضرا بالبلد وبساكنته، ويصفون مشاريعه بأنها مسرحية، يفضحها وضع حجر الأساس المتكرر للمشروع الواحد.
هذا الواقع الضاغط، قد دفع بالأطراف السياسية إلي مستوي: ” إما أنا أو أنت” وقد يؤدي إلي مستوي من المواجهة، يستحيل عند حصوله أن يطمئن أي شخص علي نتائجه.
وأمام هذا التحدي الماثل، فهل طرحنا علي أنفسنا أسئلة قد تشكل الإجابة عليها مساهمة تنير للسفينة وجهة مأمونة وتعطي للشعب دلالة واضحة تزيل عنه حالة الإرتباك والخوف من المجهول وتفتح للنخبة فرصة لا كتشاف أفضل الحلول، وهل نحن أمام أزمة حكم، أم أننا نعيش إزمة ضمير، ناتجة عن تقصيرنا اتجاه وطننا ومجتمعنا؟ وهل الحل بأيدينا أم أنه قرار خارجي يجب أن نستجديه وننتظره؟ أم أن بلدنا صمم أصلا ليعيش هذا الواقع القلق ولا يمكنه الخروج منه بأدواته الحالية أو وفقا للرؤى المتداولة ؟ وما هي المبررات التي تسمح لنا جميعا بوضع بيضنا كله في سلة الإنتخابات الرئاسية الفرنسية؟
الذاكرة المشوشة
لا جدال في أن ظهور الدولة الموريتانية كان بفعل قرار فرنسي دافع عنه المستعمر وأيدته لا حقا القوي التقليدية، التي كانت وقتها تتصدر المشهد السياسي الوطني، وهكذا فقد أصبحت هذه الدولة واقعا مقدسا يجب الدفاع عنه، لأنه أضحي جزءا من الوعي و من الكرامة الجماعيين، هذا علي المستوي النظري، أما علي المستوي الواقعي فليس هناك من هو راض عن الوضع الذي يعيشه في ظل هذه الدولة ولا عن مستوي تلبيتها لطموحاته وحاجاته، فقط قلة منتفعة استحوذت علي السلطة والمال والفرص تنهر كل من يتأوه ألما وتري فيه جاحدا ل”عطاء” وطنه وقد يصل الأمر بها حد تخوينه وتجريمه.
أما العامة فلها قصة أخري، فشيوخها قد خبروا” السيبة” وإفرازاتها وسمع آخرون عن تداعيات اللادولة، لذا اقتصرت مطالبهم علي ضرورة توفير الأمن والإستقلرار .. أما ما عدى ذلك، فهو مطلب كمالي إلي أقصي الحدود، فمادامت الدولة لا تبطش بالمواطنين وتتركهم وشأنهم، فالبلاد بالنسبة لهم هي بألف خير.
لمن نحتكم؟
عندما ننظر إلي الموالاة والمعارضة، نجد عالمين متناقضين لا شيء يجمعهما علي مستوي الثوابت الوطنية التي لا وجود لها أصلا علي مستوي الخطاب السياسي- حتي الجانب العقدي لم نر أي رد فعل فوري علي حرق كتب المذهب المالكي وما حدث لم يحصل إلا بعد أربع وعشرين ساعة، خوفا من اتخاذ موقف أحادي وارتباكا أمام اختيار ما يجب فعله أمام فعلة كهذه.
فلمن تحتكم الأطراف السياسية لحسم ” معركتها”، المتأججة هذه الأيام بين المعارضة ورأس النظام والتي وصلت حد كسر العظم؟
فالنظام يتحجج بأنه يمتلك شرعية صناديق الإقتراع، في حين يري الطرف المعارض أن ما حدث، هو مجرد مسرحية استغلت فيها أجهزة الدولة ووسائلها من طرف شخص ما كان له أن يحصل علي واحد في المائة، لو ترشح دون إسناد من هذا الدعم الهائل، لذا فهو مجرد مغتصب للسلطة ولا شرعية له، قام بفعلته الشنعاء ضد رئيس منتخب، ردا علي إقالته وليس لدوافع وطنية.
ألا يتطلب وضعا كهذا وجود خريطة شعبية مؤثرة تمتلك القدرة علي التمييز بين ما هو ديماغوجى وبين ما هو صميمي وجوهري، تمتلك وعيا يسمح لها بتمييز طبيعة الأزمة الحالية، هل هي أزمة حكم، أم أن ما نعيشه اليوم، مجرد بوادر ل” اقتتال” سياسي، طمعا في منافع الحكم ؟ أم أنه صراع جدي لمشاريع مجتمعية متناقضة علي مستوي التصور والأهداف؟ وهل كل ما يجري، مجرد صراع سياسي طابعه فردي وتتحكم فيه الكيمياء الشخصية بين الأفراد؟
ما هي بواعث أن تتهم المعارضة رأس النظام بأنه شخص فاسد مفسد، لا هم له سوي جمع المال وتكديس الثروة والإستحواذ علي مقدرات البلد، خدمة له شخصيا بالدرجة الأولي ولمحيطه الضيق بدرجة أقل؟
ولماذا يتهم النظام خصومه السياسيين بأنهم فاسدين مفسدين بالفطرة، حتي ألئك منهم الذين لم يتولوا من قبل تسيير أي مرفق عمومي ولا خصوصي. ، ولماذا يستميت الرئيس، من أجل نزع أي شرعية سياسية عنهم؟
للأسف لا وجود لمستوي من الوعي السياسي، يسمح لنا بوجود رأي عام نلوذ به، كما أنه لا وجود لمرجعية متفق عليها، يحتكم إليها الساسة وتشكل عامل توازن وضبط للبوصلة، لذا بقي الجمر تحت الرماد ينتظر الفرصة السانحة للإشتعال، بفعل سياسة التجاهل والمسكنات والاهتمام بالشكلي والأسهل، فبقينا نعيش واقعا كل شيء فيه مؤجل أو هو مجرد مشروع للمستقبل، فأصبحنا مهيئين للتسجيل في لائحة “غينس” بوصفنا بلدا يمتلك أعلا رقم في التأجيل والإرجاء لكل ما هو جوهري وملح، فلم تحسم هوية البلد بعد- لأن الدستور لازال علي الورق مهملا علي مستوي التطبيق والممارسة – كما أنه لم تحدد خياراته الوطنية حتي تصبح خيارا متفقا عليه، فأصبح بلدنا يعيش تيها سياسيا، زاد من تأزيم المناخ السياسي وخلق حالة من الميوعة أربكت الحياة السياسية وأوجدت وضعا غير مفهوم.
من نحن؟
ظل هذا السؤال المحوري، مطروحا، منذ أن تبلور قرار إنشاء دولة في هذه الربوع، فبسببه دخل الرئيس المختار ولد داداه في صراع سياسي مع النهضة، ودخل في آخر مع الكادحين والقوميين، انتهي بالإطاحة بحكمه من طرف مجموعة نواتها الصلبة من القوميين العرب، وبعدها دخلت البلاد في دوامة الإنقلابات المتتالية والصراعات الإثنية، تجرعت بسببهما مرارة اللا إستقرار.
ومع ولد الطايع حصل نوع من التغير في قواعد اللعبة دام لبعض الوقت، لكنه مزق البنيات التقليدية للمجتمع ورسخ القبيلة لتصبح بديلا عن الدولة وعري ظهر المسؤول العمومي وشرع نهب المال العام وغيب القانون وأذكي الصراعات القبلية وميع الأولويات وخلق مناخا من اللا معيارية، لا زلنا نعيش حتي اليوم تداعياته المؤلمة، فتكرس التأجيل واللاحسم كعقيدة ومنهج، وأصبح البلد يعيش واقعا متناقضا، تنسجم في ظله النقائض ويتساكن فيه الأضداد.
أما اليوم وفي ظل نظام ولد عبد العزيز، فمن السخف الحديث عن ثوابت وعن معيارية تحكم العمل الرسمي، سوي اللا معيارية واللامعقول، لذا أصبح ملحا مقارعة عتمة النظام الحالي بوضوح البرامج وفرديته بروح العمل الجماعي وترسيخ دولة المؤسسات.
عقدة تبحث عن حل
بعد أكثر من خمسين سنة من التيه السيزيفي وبعد أن تجرعنا مرارة اللا إستقرار وصنوف الحكام الذين هم علي أشد الإستعداد لإذلال الشعب وبعد أن توقف قطار تنميتنا عند نقطة الصفر، ألا يحق لنا أن نقف مع أنفسنا لنبحث عن الحل وعن آليات للخروج الآمن من هذا المأزق، الذي تفرض علينا غريزة حب البقاء التخلص منه؟
فالمعضلة بنيوية، تتعلق بنموذج الحكم وبآلية التداول السلمي علي السلطة، بعيدا عن الوصاية علي الشعب ودون السماح لأي شخص بأن تتملكه شهوة الحكم تحت أي يافطة وبأي ذريعة كانت وفك الإرتباط النهائي مع حالة الخضوع المذل للدوائر الغربية بصفة عامة والفرنسية بشكل خاص، وعندها سنكتشف ذواتنا وسنتذوق طعم الخيار الحر وعزة استرداد الكرامة.
أما حالة التأزم التي وصلت اليوم إلي أعلا سقف لها، فلا يمكن فهمها خارج تحديد ملا مح الوضعية الراهنة، فالبلاد يحكمها اليوم رجل يسعي إلي امتلاك كل شيء في هذه البلاد- بما فيها رقاب العباد، فالثروة ملك له وحده والسياسة فن خلق له، أما ضرورات إدارة شؤون البلد، فهذه لا تتسع إلا ل” عبقريته” وحده.
فالوزراء والمديرون ورؤساء المصالح، فهولاء للديكور فقط وليست لديهم “الكفاة” والخبرة الضروريين للتعامل مع الشأن العام.
واقع يضاعف خريطة المعضلات، بحيث أصبح سلوك الرئيس يمثل مشكلة المشكلات، فهو يشعر المعارضين له بالهوان والمؤيدين له بالدونية والشعب بالخذلان، فأصبحنا أمام رجل استحوذ علي البلد بالقوة واستأثر به لنفسه دون غيره، في مقابل نخبة تعودت أن تنال حظوتها في دوائر الدولة، بل إن منها من خلقته هذه الدوائر وكانت هي حبل السرة الذي أعطاه الديمومة والحضور علي مستوي القرار وعند تقاسم المنافع والإمتيازات.
فأصبح هؤلاء أمام رئيس يرفض أن يتنازل عن جزء من الثروة والسلطة ليكسب علي الأقل موالاته، رئيس يشكل مدرسة في العناد غير مسبوقة، يمارس الحكم دون أن يكون له برنامج محدد، لا يمتلك مرونة تسمح له بإقامة علاقات غير مشخصنة مع معارضيه، الشيء الذي خلق مستوي من الإحتقان غير مسبوق ووضع البلاد علي كف عفريت، بفعل سياسة الإلغاء التي يمارسها رئيس البلاد ضد مؤيديه قبل معارضيه، وهو ما ولد شعورا قويا لدى النخبة السياسية والفاعلين الإقتصاديين بكونهم أصبحوا غرباء في وطنهم، ويعيشون دونية قد تشكل نهاية سياسية ومعنوية لهم.
قد لا نبالغ إذا قلنا أن كل شخص في هذه البلاد اليوم أصبح يطرح علي نفسه هذا السؤال: ماذا بعد مواجهة النظام لاعتصام المعارضة بالقوة المفرطة؟ فهل ستستسلم المعارضة وتبتلع هذه الإهانة؟ أم أنها سترد له الصاع صاعين؟
أعتقد أن منسقية المعارضة لن تسكت وسترد، ولن تسمح للنظام بتسجيل نقاط ضدها هذه المرة، بعد خسارتها المهينة جراء اتفاق دكار، لكنني أخشي علي البلاد من المجهول الذي خطت خطوتها الأولي باتجاهه، لحظة اتخاذ السلطة لقرارها بقصف النساء والأطفال وزعماء الأحزاب السياسية المعارضة بالقنابل الحارقة والصوتية.
إنها خطوة خطيرة في اتجاه المجهول، تذكي شرارة انفجار أزمات بنيوية، مستعصية علي الحل لوحدها وتغذي الشعور بالضياع لدى نخبة تعيش إذلالا معنويا، يشعرها بتأنيب الضمير وبضرورة عمل أي شيء، حتي لا تبقي الأوضاع علي ما هي عليه، ولكي لا يترك كل شيء في هذه البلاد تحت قبضة يد واحدة، قد لا تكون بالضرورة مؤتمنة عليه وليست بقادرة أصلا علي تمييز طبيعة التعقيدات في بلد يعكس مظهره الخارجي سطحية لا تخطئها العين وتخفي تفاصيل حياته تعقيدات، تستعصي علي التصنيف والمعيارية.