ينحدر الشاب الموريتاني جبريل بلال من أسرة بسيطة، تعيش في إحدى القرى النائية في الريف الموريتاني، ولد الشاب مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعاش في طفولته حياة بسيطة للغاية، وكان مفعماً بالحيوية والنشاط والكثير من الطموح، واشتهر في قريته الصغيرة بحبه للرياضة.
كان الفتى الصغير يكبر ويكبر معه حبه للرياضة، ومتابعة أخبارها وأخبار نجومها، يجمع صور النجوم ويتسقط أخبارهم عند كل القادمين من المدينة، حتى وصل هو وعائلته إلى العاصمة نواكشوط، حيث أدرك أنه بإمكانه أن يكون نجماً.
لقد أحس الشاب جبريل أن جسمه الرشيق النحيل، ورغبته الجامحة في ممارسة الرياضة، قد يساعدانه يوما ما على تحقيق ما ظل يحلم به منذ الصغر، أن يكون نجماً لا يشق له غبار، فبدأت رحلته بممارسة رياضة العدو ،تلك الرياضة الأولومبية التي أحبها الشاب وتمتع بإمكانيات بدنية وذهنية أهلته للتركيز عليها.
سرعان ما لفت جبريل انتباه (الاتحادية الموريتانية لألعاب القوى) إلى قدراته الكبيرة، فأصبح واحداً من أبرز العدائين الذين يحظون برعاية الاتحادية ودعمها، قاده ذلك إلى المشاركة في عدة مسابقات أفريقية وعربية، حقق في بعضها مراكز متقدمة بينها الميدالية لبرونزية في مارتون مراكش بالمغرب 2011.
وهكذا بدأ جبريل يخطو بثبات نحو حلمه الكبير، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي قلب حياته رأسا على عقب، حيث تعرض لحادث سير تسبب في بتر قدمه اليمنى، وبتر حبل الأحلام الكبيرة التي كان يربيها الشاب وهو يتدرب في شوارع نواكشوط.
لقد انهار كل شيء في حياته في لحظة واحدة؛ الصحة، الشهرة، الطموح، الأمل في مستوى عيش أفضل، وتحول جبريل من نموذج في اللياقة البدنية إلى شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، يحس بكونه عالة على مجتمع ما تزال تتحكم فيه عادات وتقاليد لا ترحم هذه الفئة منه.
كان هول الصدمة كبيراً، وبقي لأيام لم يستوعب ما حدث، لا يصدق أنه لم يعد قادرا على السير الطبيعي، ولم يعد ذلك الشاب القوي السريع الذي ينطلق راكضا كالغزال في البرية، كان في تلك اللحظات بحاجة إلى وقوف الجميع معه؛ أسرته وأصدقائه والمجتمع من حوله والصحافة الرياضية، حتى الدولة الموريتانية، لعل ذلك يساعده في تجاوز المحنة وذلك المصاب الجلل.
حالة جبريل هي نموذج لما يمكن أن نسميه «انقلاب المسار الرياضي بفعل الإعاقة»، وأخطر صنوف هذا الانقلاب هو ذلك الذي يحدث في منتصف العمر الرياضي، حيث لا يزال الرياضي أمامه الكثير ليقدمه، وحيث أنه ما زال شابا يطمح لبناء مستقبله، وهنا تبرز جسامة التبعات النفسية والاجتماعية والمادية للإعاقة في هذه المرحلة من العمر، فما ينطبق على جبريل ينطبق على أي رياضي آخر تعرض لذات الظروف، وهو ما يجعلنا نتساءل ما هي الاحتياجات الأساسية المشتركة لهذه الشريحة من الرياضيين انطلاقا من حالة جبريل، وهل توفرت لدى جبريل نفسه هذه الاحتياجات أثناء وبعد الإصابة؟؟، للإجابة على هذا التساؤل يمكننا الحديث عن اربع مجالات أساسية في حياة الرياضي المصاب وهي:
التأهيل النفسي: وهي أول خطوة يحتاجها الرياضي المصاب للتغلب على التبعات النفسية والاجتماعية للإصابة، ويجب أن يقوم بذلك خبراء في العلاج النفسي حتى يتمكن الرياضي من استعادة الثقة بنفسه والتكيف عقليا ووجدانيا واجتماعيا مع وضعه الجديد، وبالنسبة للشاب جبريل نلاحظ أن هذا الجانب كان مفقودا تماما، إذ لم يحظ بأي مستوى من الدعم النفسي وهو ما يمكن أن نلمسه في حديثه المفعم بالحزن والألم رغم مرور خمس سنوات على الحادثة.
الواقع أن مجتمعاتنا العربية والإفريقية بصفة عامة لا تعطي للعلاج النفسي ما يستحق من عناية واهتمام، ولذلك لا تتوفر لدى الدولة الموريتانية مراكز للتأهيل النفسي، وليس هناك ميزانية مخصصة لجلب أخصائيين بمقدورهم مساعدة منهم في حالة جبريل.
التأهيل البدني: وله أهمية بالغة في تكييف الجسم مع الإعاقة الطارئة، ومن ثم الرفع من قدرة الرياضي المصاب على الحركة والقيام بالأنشطة الضرورية لحياته، وبدوره يحتاج هذا المجال إلى مدربين مهرة وفي نفس الوقت إلى إرادة وعزيمة من المصاب، ومن حسن حظ الشاب جبريل أنه لم يفقد إرادته القوية التي رافقته منذ الصغر، لكنه افتقد للخبير المتمكن الذي يعينه على التكيف جسميا مع فقدان قدمه. مع أن وزارة الرياضة الموريتانية تستعين أحيانا ببعض الممرنين المحليين لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة إلا أن هؤلاء أنفسهم بحاجة إلى التكوين والتدريب واكتساب الخبرات المناسبة لهذا المجال.
الدعم المادي: في بلدان العالم النامي غالبا ما يكون المستوى المادي للرياضيين متدني للغاية نظرا لضعف الاستثمارات في هذا القطاع، وكذلك انخفاض الدعم الحكومي للرياضة، ولهذا عانى جبريل كثيرا – وهو ابن أسرة فقيرة – من ضيق ذات اليد بعد إصابته، وكان في أمس الحاجة لمن يعينه، فهو لا يمتلك مدخرات مالية، والأنشطة التي كان يحصل منها دخل محدود توقفت، ولم تقدم له الاتحادية الموريتانية للألعاب القوى سوى مبلغ ضئيل. وهذه الوضعية المادية المزرية زادت من معاناته كثيرا.
توفير متطلبات استئناف النشاط الرياضي: أغلب الرياضيين الذين تعرضوا لإعاقة جسدية لا يريدون الابتعاد عما اعتادوا عليه من نشاط رياضي سابق، رغم ضعف قدرتهم على الاحتفاظ بنفس المستوى القديم، ويتطلب استئناف النشاط الرياضي بعد الإعاقة الجسدية صبرا ومثابرة وتدريبا مكثفا ومعدات خاصة وأطرافا صناعية، كما يتطلب تشجيعا ودعما من الجهات الرسمية التي تمتلك الإمكانيات والمعدات، بالنسبة لجبريل كان مقتنعا بأن الدعم الحكومي لن يكون الرافعة التي ستعينه على استئناف نشاطه الرياضي، وفي نفس الوقت هو مضطر، بسبب فقدانه لقدمه، إلى توجيه اهتمامه نحو أنشطة رياضية أخرى غير العدو، وهو الآن يمارس بعض الرياضات العضلية في نطاق ضيق ويتطور فيها بخطوات بطيئة بسبب انعدام المحفزات بالإضافة لآثار الإصابة العالقة في ذهنه.
هكذا إذن تثير إعاقة الشاب جبريل في عز عطاءه الرياضي قضية مركبة لها أكثر من بعد، إذ تتشابك فيها الأبعاد المادية مع النفسية مع الاجتماعية، وحتى مع السياسة العامة للدولة اتجاه الرياضة والرياضيين، وبالرغم أن العديد من أقران الشاب جبريل يقعون سنويا فيما وقع فيه من ظروف مأساوية، فإن قضيتهم كمعاقين في منتصف العمر الرياضي لم يسلط عليها ما يكفي من الضوء ولم تنل حظها من الدراسة والبحث، خاصة في موريتانيا وبعض البلدان العربية والأفريقية حيث لا تزال هذه الشريحة تعاني من قلة الاهتمام ومن عدم توفر ما هو ضروري من متطلبات أساسية سواء في مرحلة الإصابة أو ما بعدها.
الصحفي السيد محمد الحبيب ولد سيد أحمد (الملقب السيد ولد محمودي)
مراسل قنوات الكأس الرياضية القطرية بموريتانيا