وقعت الواقعة وحل المكروه، حوصرت البلاد، وماتت الثقافة، وأغلقت الحانات، وضويق السائحون. حكم الإسلاميون المتطرفون، خذلتنا الجماهير التي ربيناها وحذرناها منذ عقود من الزمن، قلنا لهم إن الإسلاميين قتلة متطرفون ومستغلون للدين، ولذلك تحالفنا مع الخارجي والدكتاتوري ضدهم، بيد أن الشعوب ما صغت إلى كلامنا، وها هي طوابير كثيفة تنتخبهم، وها هم يكتبون التاريخ بأنهم من أتى -يوم نقاء الفرز من شوائب التزوير- بالأصوات لا بالانقلابات، سقطت الشعوب في الامتحان، إنها لا تستحق الخير الذي ندعوها إليه، لا ترغب في الديمقراطية ولا تحب الحياة الجميلة، لقد اختارت التطرف، فلنهاجر عن وطن لا ينتخبنا، ما لنا من فواق
.
بهذه الروح الاستعلائية تعامل غلاة العلمانيين مع النتائج المتحصلة من انتخابات الربيع العربي، لقد خُـدع القوم بكونهم استولوا ردحا من الزمن على مقدرات الأمة البشرية والمادية، فجاسوا خلال الديار يفعلون بالشعوب ما يشاؤون من تنكيل وبطش وتعذيب، عبثا بالثروات، واستهزاءً بالدين، وخذلانا للإخوة المغدورين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين. ومن يستمع لكلامهم اليوم يحسب أن فيلقا من الجن والعفاريت باغت المدن والقرى والأرياف، وانتزع الصناديق من اللجان وعبأها بالأصوات من كوكب آخر، وهو ما أدهش رقيقي التدين، مسلوبي الثقافة، مهزومي الضمير، المؤمنين بأن الكون تحكمه أمريكا وتعاونها فرنسا وبريطانيا.
لقد كان هؤلاء يستمتعون في الفنادق ذات النجوم الخمسة، يشربون الشيشة ويسهرون مع الأجانب محللين خطر الدين على الشعوب، ومتحدثين عن موقف الجماعات الإسلامية من الديمقراطية والغرب والاقتصاد الربوي، يسمرون في مناقب التطبيع مع الكيان الصهيوني، واعدين بالوقوف في وجه الإسلاميين المتطرفين، وعند ما استهزؤوا بالدين، وكتبوا التطاول على الله ورسوله في رواية “وليمة أعشاب البحر” التي طبعتها وزارة العلماني المتطرف فاروق حسني ووزعتها “دعما للثقافة” زعمت!، وعند ما اعتبروا فرج فودة مثقفا محترما وهو الذي يفخر بأنه أول من وقف في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، وعند ما تفرجوا على قضايا الأمة المصيرية دون أن تتمعر وجوههم انتصارا أو استنكارا.
وحين كان هؤلاء والغين وموغلين في كل ذلك لم يطرحوا جملة من الأسئلة الواقعية على أنفسهم، فكان لابد لنا من التطوع بطرحها نيابة عنهم، لنستفتهم: أين كنتم يوم تطاول الأجانب على الرسول صلى الله عليه وسلم (وهو رمز مقدس عند عموم المسلمين)؟، وعندما كنتم أصحاب الحظوة عند الأنظمة الدكتاتورية تستأثرون بمرق الحكام وتحظون بالقرب وغيركم في السجون والمنافي، أين كنتم يوم زلزال مصر؟ كم أنقذتم من منكوب؟ كم من يتيم كفلتم؟ أو عيادة لعلاج الفقراء بنيتم؟ ما نشاطكم المجتمعي الذي يصل ريعه للأرملة والمسكين والجاهل ليتعلم والجائع ليقيم صلبه؟ هل مشيتم في أدغال إفريقيا تداوون المرضى وتقاومون التنصير وتنشرون العلم؟
لقد نسي العلمانيون أن الذي ينتصر اليوم هو حركة شعبية تعمل منذ أكثر من ثمانين سنة، زاوجت فيها بين الدعوة للمعروف والصبر على الأذى، وطرحت من أول يوم هدفا واضحا يزاوج بين الدين والدنيا، وأنها في كل ما كتبته وقالته أوضحت أنها مشروع حضاري يبتغي التقدم والرقي للمسلمين، في جو من الاستقامة الدينية والسعادة الدنيوية، فعُلق كبار قادتها على المشانق في سوريا والعراق ومصر، وهُجر آخرون من أوطانهم، نسيتم أن من تتداول أسماؤهم اليوم في تونس للوزارة كانوا في السجن ما يقارب عشرين عاما، وأن رئيس حركة النهضة ظل في المنفى إحدى وعشرين سنة، نسيتم أنهم من تعرفهم الأحياء الشعبية يوم العيد يطعمون المحرومين “لحمة العيد”، نسيتم أنهم حولوا تعاليم الإسلام إلى مشروعات خدمية أقنعت المتبرع ونفعت المحتاج الملهوف، عندما كنتم أنتم تكتبون روايات الأدب الخليع، وتستمتعون بالقرب من أنظمة الاستبداد، هل سمعتم بمشروع كسوة العيد وإفطار الصائم، وكفالة اليتيم والفقير المتعفف والأسرة المعدمة، ومنحة الطالب ورعاية الموهوبين وحفر الماء ومشاريع الوقف الخيري والحقيبة المدرسية للطفل الفقير، وهنالك أمر ليس بالمهم عندكم لكنه عظيم عند الشعوب المسلمة هو تحفيظ القرآن للأولاد، وتعليم الدين والرفق بالجار، وأقل منه أهمية عندكم برنامج إسلامي للتعامل الاقتصادي والمالي بدون ربا أقبلت عليه الشعوب.
إن الذي ينتصر اليوم هو من ناب عن الأمة في قضاياها الكبرى كقضية فلسطين، وهي مسألة مهمة عند الشعوب أكثر من الغذاء والدواء، من الذي جمع لها التبرع بالمال وآذته الأنظمة الفاسدة بغية التخلي عنها؟، من فكر في مشروعاتها الكبرى كرعاية القدس وفك الحصار؟ من الذي أغاث البوسنة وناصر العراق؟ من الذي كسر شوكة المد العلماني اللاديني في بلاد المسلمين؟ من الذي استوعبت دعوته الجامعات وآمنت بها النقابات وامتلأت بها المساجد؟ لمن صوتت نقابات الفلاحين والأطباء والصيادلة والمعلمين ونوادي التدريس؟ من الذي نجح في الإدارة ممارسة وتدريبا؟.
إن الذي بين أيدينا اليوم هم أصحاب مشاريع نهضوية تبتغي لأمتها الفلاح في التنمية والتقدم الذي حرمت منه عقودا من الزمن، وفي المقدمة منه الحرية التي تدرك الحركة الإسلامية أنها مربط فرس الدين والدنيا، وهي -نتيجة حرمانها من تلك القيمة- تعمل اليوم على بسطها للجميع، لكل الديانات والأفكار بدون رقيب، إن المشروع الذي يدعو إليه الإسلاميون قد تم تهذيبه خلال المحن والدروس التي عصفت بالأمة، ولذلك أصبح من المسلم به عند عموم الإسلاميين الوسطيين -الذين يؤمنون بالديمقراطية وينتصرون اليوم في تونس والمغرب ومصر، وسيفوزون غدا في غيرها- أن مشروعهم يعرض على الناس عرضا ولا يفرض عليهم فرضا، فإن قبلوه فبها ونعمت، وإن رفضوه فلا إكراه في السياسة أو الدين.
مهم أن يدرك الناس أن الإسلاميين من أولوياتهم نزع فتيل الخصومة بين الدين والدولة، وهو أمر كاف كمرحلة أولى ليترك المجتمع بعد ذلك يتفاعل مع الأفكار بدون إكراه، إن التضحيات التي قدمها الإسلاميون كانت ولا تزال في ذاكرة الأمة محفورة، وعند انقشاع الظلمة ثبت أن ما زرعه الطغاة واللادينيون زبد ذهب جفاءً، وأن ما نفع الناس في عجاف السنين مكث في الأرض.
فهل من مدكر؟!