الرهان علي الشباب
لم يكن الشباب يوما بمعزل عن أي حركة إصلاحية كتب لها النجاح، لذا لم تتوان الحركات البانية والهادمة في السباق إلى ضمهم إلى صفوفها أو كسب ودهم على الأقل، لأنهم أشد حماسا للفكرة وأكثر حيوية في العمل، وما نشهده اليوم من حراك محموم في الساحة الوطنية ليس استثناء، بل هو خير مثال على وجود نية وإن لم تخلص لدى بعض الفاعلين السياسيين للتغيير -أو التطوير- لأن التطوير هو التغيير في الاتجاه الإيجابي، فما ومضات الأمل المنبعثة في دهاليز السياسة اليوم، إلا بروق قد تسبق المطر وقد تتلوها ريح عقيم ماتذر من شي تأتي عليه إلا تجعله كالرميم.
حالة المشهد السياسي
إن تقاسيم وجه المشهد السياسي لا تنبئ عن مستقبله بقدر ماتنبئ عن واقعه، واقع اختلط حابله بنابله ولم يتبين مصلحه من مفسده ولا موالاته من معارضته، واقع طغت فيه الشخصنة على الحزبية وحكم مفهوم الواحد على مفهوم الجماعة : أمرٌ مريج.
وحين انبلج الربيع العربي عن ثورات شابت لها رؤوس الولدان، تنادت ثلة من الشباب في بلادنا لطلب تلك الحرية التي جناها إخوتنا التونسيون والمصريون, قياسا مع فارق وشراء بلا ثمن، يطلبون الحرية لكنهم ليسوا احرارا في طلبها، فهم يطلبونها تقليدا لمن سبقوهم، ولم ولن يقفوا سنتهم ولا يعدو غرامهم بالحرية إلا أن يكون نوعا آخر لاستيراد الأمثلة الجاهزة والتقيد بقيود التقليد، فكل نزعة إلى التحرير لا تأتي من النفس ولا يوجهها الفكر إن هي إلا موجة تعلو ثم تهبط، ولون من ألوان الفساد يبدو في زي الحركة ولا بركة فيه.
إن مطالب الشباب من التشغيل إلى خفض تكاليف المعيشة ومربط الفرس كرامتهم المسلوبة وحريتهم تلك الحرية التي إن صدقوا الوطن ماعاهدوه عليه سيمنحنها لهم، ولو جمعوا مطالبهم وجعلوها في كلمة واحدة لوجدوها: في برنامج فخامة رئيس الجمهورية، المتضمن المطالب الآنفة مع الحفاظ علي الوحدة الوطنية وتجديد الطبقة السياسية ومحاربة الفساد.. مطالب لا شك أصبح شبه مجمع عليها لدى غالبية الشعب المورتاني الذي منح ثقته للبرنامج المذكور، لكن أسلوب تحقيق ذلك بما فيه تغيير الطبقة السياسية والبديل عنها، هو مايثير خلافا وزوبعة من الآراء تكاد تعيدنا للمربع الأول، إن الباعث الأول لي على كتابة هذه السطور هو متابعتي للساحة السياسية وما تشهده من مخاض كان عسيرا لكنه لم ينجب إلا فئرانا من الأحزاب السياسية مشوهة، وأجدني في هذا المقام مضرا علي أن نوضح باختصار شديد للرأي العام ما معنى تغيير الطبقة السياسية وما هي دواعي تغييرها؟ باعتبار ذلك يعد شرطا من أهم شروط التغيير البناء المنشود.
مفهوم تجديد الطبقة السياسية
إن القصد من تجديد الطبقة السياسية ليس ترفيها فكريا ولا سفسطة تمويهية، بل هو حل جذري لسلسلة من المشاكل التي تطوق عنق الوطن وتمنعه أن يبارح مكانه منذ نصف قرن، وأنبه هنا أنه ليس المقصود من تجديد الطبقة السياسية إطلاقا تجديد وجوهها فحسب، بل الأساس والمطلب والهدف هو تجديد عقلياتها ولو بقيت نفس الأوجه، وإن كان من الضرورة بمكان ضخ دماء جديدة في إداراة الدولة لتشكل رافدا قويا لترسيخ العقلية الجديدة التي ستصلح الدولة من خلال إحلال الرجل المناسب في المكان المناسب، ورفع شعار خدمة المواطن والقرب منه بدل تهميشه وازدرائه والشطط في استعمال السلطة لتبرير ذلك، رغم أن الشعب هو مصدر السلطات والامتيازات التي يتمتع بها البعض من أجل خدمة الصالح العام.
وما نشهده اليوم من تنازع لحمل يافطة الشباب ونزاعات على القرب من فخامة رئيس الجمهورية ومحيطه ليس هو تجديد الطبقة السياسية، ولا أدل على ذلك من استصحاب الطبقة الممثلة للشباب لمناهج الحرس القديم من إقصائية وتوزيع لتهم الفساد والتخوين جزافا، مما نتج عنه تشرذم الشباب وانقسامهم كل يوم في انقسامات تشبه أطوار الانقسام الميتوزي, ففي كل يوم هناك حزب يولد من رحم حزب منشق أصلا من حزب آخر، حتى كأني بهم ينشدون مع أحمد مطر في انقساماتهم تلك:
أكثر شيء في بلدتنا الأحزاب وحالات الطلاق
وهذه المتتالية الحزبية لاتخدم الوطن ولا الشباب ولا مصالحه ولا تخدم إلا الطبقة السياسية القديمة بأن تشغل عنها الشباب في تقاسم كعكة الوهم بينما يلغ أولائك كعادتهم في دماء الشعب، ويرتعون في جسمه المتهالك ويمصون أثداءه المستنزفة.
المكاشفة والمصارحة
فلو أن الشباب أراد حقا الاستجابة لنداء فخامة رئيس الجمهورية لاتحد الجميع تحت قيادة مسؤولة وواعية لمسؤولياتها وأدوارها في اللحظة السياسية الراهنة، والتي تتطلب مشاركة الشباب أكثر من ذي أي وقت مضي من أجل جمع شتاته الذي ظل مدفوعا على موائد السياسيين القدامى يستجدي لقمة تسد جوعه الوظيفي
فلن تجد أي من النداءات والبيانات صدى لدى الشباب مالم يكن دافعها توحيد صفه، ونبذ الأساليب البالية التي يبدو أنها وجدت مرتعا لدى قيادة مشروع حزب العصر مذ بداية مخاضه المتعثر بسبب القيادة نفسها، إن اللغة الخشبية التي تطالعنا بها البيانات المنسوبة لأشباح تسكن روح هذه القيادة، يبدو أن الغرض منها هو حمل ذوي الأفكار النيرة والنيات الصادقة المنضوية في مشروع الحزب علي مغادرته، كما حدث من قبل مع المجموعة التي أكرهت بنفس الأساليب علي الانسحاب وتكوين إطار جديد والمعروف الآن بمجموعة الغد، إن هذه الانقسامات المتوالية في صفوف المشروع لتنم عن ضبابية في الرؤية واختلال في المنهج، الذي تنتهجه قيادة هذا المشروع، فليس من المستساغ أن يدعى الشباب للانتساب لمشروع حزب لا تري قيادته إلا ذاتها، ولا تسمع إلا صدي صوتها المبحوح والممجوج، في حين تكمم أفواه الآخرين وتكيل لهم أمداد وصوع الاتهامات الجزافية والشتائم البذيئة التي تستك منها الآذان بل تتصلم، لا لشيء فعله هؤلاء إلا أنهم عبروا عن آرهم المخالفة لتلك الأوهام والهرطقات والمسلكيات التي تجاوزها العصر لأنها لم تعد تساير روحه، ولا يمكن أن تنطلي علي الصبيان أحرى النخب الشابة المتشبعة بالمعرفة والإرادة الصادقة لتجاوز الماضي المقيت، لما يثيره من آلام وأنات وآهات وكوارث.. يحاول الجميع أن يتم تناسيها بعد إقبارها مذ عقود، حتى نتمكن من التطلع إلي غد مشرق ينعم فيه الجميع بالوحدة والرفاهية والحرية والمساوات والمواطنة، في ظل دولة الحق والقانون.
وهو ما يبدوا أن القيادة السابقة لمشروع حزب العصر لا تريده، وإلا فلماذا تتمسك بأنها لا تزال تقود المشروع رغم أنها لم تعد محل ثقة إن كانت حازتها يوما؟ وقد قلبت لها غالبية الأعضاء والمناضين والمتفاوضين من قبل ظهر المجن، نتيجة انحرافها الكلي عن الأهداف والمبادئ التي والأفكار التي أسس عليها المشروع، ولذا لم تتقدم بمشروع الحزب خطوة واحدة طيلة أشهر، فمطالب الشباب ليست لقاء فخامة رئيس الجمهورية أسبوعيا والتبشير بأن فخامته يؤيد المشروع، فمباركة فخامته وإن كانت مهمة، فإنها قد أفرغت من محتواها من خلال إدارة الظهر لتوجهاته الداعية لهصر المجموعات الشبابية جميعها في إطار سياسي واحد، يكون نابعا من الإرادة الشبابية لتتمكن من لعب دورها المنتظر منها في بناء الوطن وتنميته علي أسس سليمة، مبنية علي القطيعة مع مسلكيات الماضي المشينة، فمطالب الشباب هي أن تطرح مشاكلهم على الرئيس وأن يتم نقاش كل صغيرة وكبيرة أمام الجميع فأين سيجد الشباب الشفافية إن لم يجدها لدى زملائه؟ لقد سئمنا عنجهية السياسيين وحلمنا أن نجد إطارا سياسيا يتساوى فيه الجميع في التعبير عن أنفسهم وعن آرائهم، نحن لسنا في خيمة فلان ولا علان نحن هنا في إطار حزبي في القرن الواحد والعشرين، فلا محل ولا معنى لأن تصادر الآراء ولا أن تصم الآذان بالشمع، إن الشباب أتى ليتنفس الحرية أتى ليتكلم أتى ليرى مايجري في الكواليس لا ليقاد كالخراف.
ولن يبقى الشباب الآتي من أزقة المدن ومن أريافهه المنسية المفعم بالأمل والطامح للحرية، تابعا سهل القياد لأقلية تصم آذانها عن الرأي المخالف ولو كانت تعي أنه عين الحقيقة لأنها لا تريدها أن تكون لها وسيلة ولا مطلبا ولا تحسن سياسة الحوار وتوفيق الآراء، ولم تجرب يوما نكران الذات والتضحية بالمصالح الضيقة من أجل المصلحة العامة، فأني لها أن تعي مطالب الشباب وهي لا تحسن إلا التهديد وتكميم الأفواه وقتل أي روح للإبداع.
ولم تصدق القيادة السابقة لمشروع الحزب قط إلا حين قالت : إن في بيتنا أحزابا مشخصنة لا تعرف من الديمقراطية إلا اسمها وكأنها تصف نفسها، لكن مالم تقله أنها هي تسعى بشروع الحزب إلى نفس الطريق، فما دعواتها لأحزاب المعارضة للحوار إلا قفزة على الواقع وتجن على الحقيقة، فكيف خفي على كتبة البيان أنهم هم أنفسهم عجزوا عن حوار شركائهم في مشروع الحزب، أم يرمون بيوت الناس بالحجارة ناسين أن بيوتهم من زجاج؟ أم أن هذا ليس إلا فصلا جديدا من فصول اللعب على الشباب ؟
الأمل المعلق علي القيادة
ورغم كلما حصل يبقي الأمل معلقا علي قيادة مشروع حزب العصر أن تتحلي بالحكمة والشجاعة وتكون علي مستوي التحديات، وتفاجأ الجميع بأن تعلن من تلقاء نفسها التنحي عن القيادة من أجل وحدة الصف، وبذلك تكون سباقة في هذا الإطار بحيث تكون أول قيادة تستقيل نزولا عند رغبة مناضليها، بغض النظر عن كونهم أقلية أو أكثرية في مشرؤوع الحزب، وإن هي قامت بهذا الأمر ستدخل التاريخ من بابه الواسع، وتكون قد قدمت لمشروع حزب العصر بل ولسائر الأحزاب وجماعات المجتمع المدني.. درسا مثاليا يحتذي في الديمقراطية هو الأول من نوعه في المشهد السياسي الموريتاني مذ نشأته، وكلي أمل أن تستجيب القيادة المذكورة لتصوري هذا والذي أراها حرية به حسب معرفتي بها وبالوضعية التي يعيشها مشروع الحزب، وإلا فإن أحلام الشباب التي تزيا بها مشروع حزب العصر وقام عليها لم تبل بعدُ، والروح التي بثوها فيه لم ولن تموت – بإذن الله – حتي يؤتي ذلك النضال ثماره، بعد الحركة الداخلية التصحيحية فقمن برياح أحلام الشباب أن تذرو العقليات القديمة التي كانت تعيق المشروع، وتطرد أشباحا خارجة من كهوف الظلام، مما يجعل الخيار الأوحد أمام الشباب هو الاحتكام للجنة المكلفة بالأزمة.
وعسي أن تعم عدوي هذه الحركة المباركة التصحيحية التي ولدت من رحم المعانات داخل مشروع حزب العصر، جميع الأحزاب الموجودة في المشهد السياسي الموريتاني، الذي شوهت صورته الانقسامات المتولدة عن المآرب الشخصية المستجيبة لكل برق خلب.
محمد عبد الله ولد محمد محمود
باحث متخصص في القانون العام