لوح ملاكها بمقاضاة شركات ومسئولين أمام المحاكم بتهمة “تخريب” البحيرة
النعمة ـ الرجل بن عمر.
تشكل واحة “أبحيرة” مصدر عيش 60% من مزارعي منطقة النعمة القديمة؛ شرق موريتانيا، حيث مزارع التبغ والحناء وواحات النخيل.. لكنها تقف اليوم وحيدة بعد هجرها المزارعون والأهالي.
الهجرة كانت قسرية بسبب ما وصفه السكان بتخريب البحيرة بعد شطف مياهها السطحية أثناء تنفيذ “مشروع مياه” أقامته الدولة في ثمانينات القرن الماضي، على الرغم من المخاطر والآثار السلبية اقتصاديا وبيئيا واجتماعيا التي حذر منها الخبراء.
بدأت قصة “واحة أبحيرة” منذ أكثر من 200 سنة، مع عدد من مجموعات سكانية هاجرت من ولاته التاريخية، إثر خلاف اسري بين “أولاد سيدي بلحاح” غذته عوامل اقتصادية خانقة عرفها المجتمع الولاتي بفعل أزمة اقتصادية، مما قلص من حركة قوافل الرقيق والذهب التي تجلب معها البضائع والسلع التجارية للمنطقة.
وعندما اشتدت الأزمة وأستبد الجفاف بساكنة المجتمع الولاتي بدأ النسيج الاجتماعي في التآكل، وفاقم ذلك من “وضعية الضيق والعجز الاقتصادي الذي حل بالمنطقة”؛ بحسب تعبير أستاذ التاريخ المأمون ولد سيدي محمد.
ويضيف المأمون؛ هاجرت أسرة سيدي حمه بالحاج، وهي مكونة من أسر “مولاي صالح” و”عبد القادر” و”مولاي عبد المالك”..، حيث وصلوا ما عرف قديما “بواد بن نعمان”، مدينة النعمة حاليا، سنة 1808 ـ 1223هجرية، إضافة إلى عدد ممن تعصبوا لهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، وكانوا مدفوعين بكثير من الحماس والتصميم على أن يحولوا مدينة “بن نعمان” إلى “حلة نخيل”.
وفي محاولتهم استصلاح منطقة الوادي، أي بقايا الواحة حاليا، كانت تجربة “أتوات” الجزائرية في مجال النخيل حاضرة بكل تفاصيلها، حيث استقدموا خبرة “أتوات” وسلالات النخيل التي يزيد عمرها حاليا على أكثر من قرن، كما يعود عدد من رؤوسها للعام 1912؛ بحسب المالك حسني ولد سيداتي.
ووفق الأعراف المتوارثة، فإن معادلة زراعة النخيل تتلخص، في ثلاثية: “جبل، منبع مياه، وبطحاء”، وعلى أساس هذا التقليد “أتوات” تم اختيار موقع واحة “أبحيرة” أي منطقة “وادي النعمة” سابقا، على امتداد أكثر من 3000 متر مربع، بمحاذاة منطقة السوق القديم، حيث الكثافة السكانية؛ بحسب علال ولد أحمد، أحد الملاك، الذي يضيف؛ “كانت الواحة تضم أكثر من 8000 آلاف رأس نخيل، يديرها أكثر من 3000 أسرة، كما شكلت العمود الفقري الوحيد لاقتصاد السكان.. كانت مصدر غذاء وسيولة نقدية، لكن تبخر ذلك كله؛ يؤكد علال.
الازدهار.. ورحلة القوافل..
ظلت الواحة إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي، مصدر رزق لآلاف الأسر المالكة وكذا عدد من الأيدي العاملة، ممن لم يحترفوا غير زراعة النخيل، وعينات من أجود أنواع الحناء والتبغ في المنطقة، حيث تسير القوافل لبيعها في عدد من المناطق الداخلية كالحوض الغربي ولعصابة إضافة إلى مالي حيث يقصدها تجار من الدول الإفريقية المجاورة؛ على حد قول محمد صبار ولد مولود، الذي قضى 72 عاما تحت النخيل.
ويتذكر محمد صبار، وهو مستلق على أريكته، وقد عاصر ازدهار النخيل وانتعاش رحلات القوافل في “وادي بن نعمان” ـ كما يفضل أن يسميه. ويسرد: “كنا قبلة لجميع الناس ولم نكن نعلم إطلاقا أن النخيل يوجد في غير واحتنا، التي كان لها الدور الريادي في تصديره للأقاليم المجاورة، كان الناس يحجون إلينا من مختلف الأقطار وكنا نوفر كل طلباتهم“.
ويستطرد، متحدثا لصحراء ميديا؛ هناك من يقدمون بدافع السياحة وهناك من يأتون بدافع العلاج، كما أن هناك فئات عريضة تأتي لأغراض تجارية وكان نخيلنا يفي بكل تلك الحاجيات، لذلك كانت لدينا تمور للغرض السياحي وأخرى لغرض الضيافة.. إضافة إلى عينات خاصة تستخدم للعلاج من أمراض خاصة.
ويتذكر الصبار كيف أنه كثيرا ما عقد القران بين زوجين من النخيل “أدجنكير”، وأضطر في حالات كثيرة إلى إبادة عدد من “أماسين” وهو اسم لذكر النخيل حفاظا على سلامة الواحة من اندفاع جذورها إلى باطن الأرض، مما يؤثر على خصوبة إناث النخيل، التي يسمي منها: “أنخيلات الحنة” و”لمدينات” و”بوصكري”، حيث تستخدم للضيافة، كما هناك “أصفر” و”الحمر” حيث يكثر عليها طلب السياح.
إضافة إلى نخيل “لفكوس” و”حمندانغ” للأغراض العلاجية، كما يستخدمهما البعض كذلك في مواسم السياحة؛ بحسب أذواق الضيوف، وتتم صيانتها لغير مواسم الكيطنة.
محمد بحكم عمله الطويل في النخيل وبحكم الخبرة التي ورثها عن أبيه والممارسة اليومية، كان من الأسماء البارزة في مجال إخصاب النخيل “أتجنكير”. وجنى أموالا طائلة، سواء من خلال عمله في النخيل فترة الحراثة أو عن طريق مشاركته في تسيير عدد من القوافل “أرفك” إلى مناطق “كندام”، “باسكنو”، “كاله”، و”سيكوى” في مالي، و”كوساك” و”ماصة“.
كما يجلبون إلى جانب التمور أجود عينات “التبغ” و”الحناء”، التي كانت تزرع تحت النخيل، إضافة إلى الملح والعطور وعدد من منتجات الصناعة التقليدية التي كانت مزدهرة حينذاك.
ويؤكد محمد صبار؛ أن ندرة العملة لم تكن عائقا، فقد كان السكان يعتمدون على مقايضة منتجاتهم بمواد استهلاكية من قبيل “الأرز” و”اللوبيا” و”الفول” و”القطن” والماشية والتوابل.
الجفاف.. العطش.. البطالة
يقول علال ولد أحمد، “جودة تمور نخيلنا كان يشهد بها القاصي والداني، فالنخلة تحمل أحيانا أكثر من 70 غصنا من التمور أي ما يزن 4500 كلغ، يقتنيه سياح من فرنسا وألمانيا وإسبابنا وأمريكا“..
ويضيف أن الواهحات المحلية والإقليمية، يتم تزويدها بتمور نوعية تعود أغلب سلالاتها لواحة “أتوات” الجزائرية، كما أن بعضها قادم من نخيل الحرمين الشريفين، لكن ما وصفه بلجوء الحكومة بدوافع سياسية إلى قتل تلك الواحة الغناء هو أمر مؤسف للغاية؛ بحسب تعبيره.
ويقول مولاي عبد الرحمن ولد الشيخ العافية، احد أحفاد ملاك النخيل: “تقع (أبحيرة) على بحيرة مياه سطحية تتزود أساسا من التساقطات المطرية التي تعرفها الولاية فترة الخريف، كما وجدت بها إحدى العيون عرفت باسم “عيون منبوروا” وهو إسم سيدة كانت تحسن إلى زوار النخيل، كما يعود تاريخ وجود تلك العيون لما قبل الثمانينات”؛ بحسب روايته.
“عيون منبورو”، التي تقع وسط واحة “أبحيرة” تحولت لاحقا إلى بئر شيدها أخ السيدة المذكورة، سيداتي ولد أعليات، ليشرب منها السكان والحيوان وكذلك ليروي نخيله وعدد من الحدائق كان يقيمها تحت النخيل؛ كما أفاد حفيده، الديه ولد سيداتي.
الأخير، صرح لصحراء ميديا، أن البئر المذكورة صادرتها قوات الجيش ما بين عامي 1981 و1982 بعد عودتها من حرب البوليساريو، “وهو ما رفضه والده الذي حرموه من السقاية”.
وبعد فترة من هيمنة قوات الجيش على البئر وتضاعف حاجة السكان إلى الماء الصالح للشرب، وكذا الانفجار الديموغرافي الذي عرفته المدينة مطلع الثمانينات، إبان حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع، تم تمويل عدد من الدراسات لإيجاد مصدر جديد للمياه، حيث قدمت عدة دراسات من بينها دراسة مكتب تابع لشركةAGRINEC ثم دراسة أعدها المدير السابق للهيدرولوجيا في موريتانيا وأبن الولاية المهندس والخبير، مولاي عبد الله ولد مولاي الحسن، الملقب “دللاهي“.
تركزت الدراسات أساسا في محيط قرية “الراجاط” 9 كلم جنوبي شرقي الموقع الحالي للواحة ثم دراسة في منطقة “إنجادي” 5 كلم شمال غربها، إضافة إلى دراسة أخرى كان من المفترض أن تكون المصدر الجديد للمياه في منطقة “جار عاشور” 15 كلم شمال الموقع الحالي للواحة، من إعداد خبير المياه “دللاهي” بحسب ولد الشيخ العافية.
ووفق ما أورده، مولاي عبد الرحمن ولد الشيخ العافية، فإن مختلف الدراسات التي تم إنجازها حذرت من اللجوء لمنطقة واحة “أبحيرة” بسبب مخزونها المؤقت، والذي لا يتجاوز أكثر من 8 سنوات، كما صرح خبير تونسي.
وتلعب الواحة دورا تنمويا وسياحيا، فضلا عن مكانتها في قلوب السكان المحليين، بوصفها موروثا إنسانيا، وهو ما أكده خبير المياه، الدكتور والمدير السابق، مولاي عبد الله ولد مولاي الحسن، في تصريح نسب إله في جريدة الشعب الموريتانية.
ويضيف ولد الشيخ العافية، حين قدم الرئيس، معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، قال لسكان الحوض إنه وجد مصادر جديدة للمياه، حين تحدث عن “بحيرة أظهر” وهو ما أعتبره ملاك النخيل مجرد خدعة سياسية راحوا ضحيتها، خاصة بعد أن تم غرس خزان مياه بسعة 500 م/مكعب وخمسة آبار في محيط الواحة، كما قطعت الأنابيب والخراطيم أوصال شجر النخيل، حيث شفطت المياه من تحتها؛ بحسب قوله.
وفي ذات السياق يضيف؛ حسني ولد سيداتي، أحد من هاجروا الواحة أخيرا، حين علمت الدولة أننا نرفض قرار وضع نقطة المياه فوق نخيلنا لجأت إلى اختراق رفضنا من خلال الضغط على أسرة “أهل أعليات” بوساطة سرية قام بها قائد المنطقة العسكرية الخامسة آنذاك، حيث باشرت الشركة المنفذة عملها انطلاقا من منطقة بئر “منبورو” غير مكترثة برفضنا للقرار.
ويؤكد مولاي عبد الله ولد سيدي محمد في شهادته لصحراء ميديا “لقد حذر الخبير “دللاهي” من خطورة وضع نقطة المياه في محيط منطقة “ابحيرة” كما قدم للحكومة بدائل في “أنجادي” و”الراجاط” و”جار عاشور”، لكن تم إقصاؤه وإبعاده عن المشهد؛ على حد قول مولاي عبد الله.
مضيفا، جاء ذلك في وقت كان نظام والطائع مدفوعا بعوامل سياسية خاصة، كما كان بحاجة ماسة إلى نصر سياسي سريع، خاصة بعد أن راجت شائعات باعتزام سكان الحوض الشرقي عدم معاودة انتخابه ما زاد من هوس نظام حكمه؛ بحسب تعبيره.
ويقول أحد المهندين مفضلا عدم ذكر اسمه، “أجل، لقد كانت البدائل متاحة لكي لا يتم تقويض واحة ابحيرة، لأن خبراء التعاون الإسباني رفضوا تمويل المشروع، بوصفه جزءا من سياحة الولاية، وكان مساهما في حفظ التوازن البيئي بحكم مكوناته النباتية“.
وأكد مولاي عبد الله أنه كانت هناك مغالطات لم يتنبه لها ضحايا المشروع، خاصة بعد تلويحهم بمقاضاة الشركة المنفذة وعدد من المسؤولين، تلك المغالطات هدفها قتل واحة “أبحيرة” مقابل ازدهار واحات النخيل في أماكن أخرى من الوطن، لذلك فالنظام كان مسكونا بهوس شديد إلى إنجاز ما، ولو على حساب مصادر عيش الناس؛ بحسب قوله.
لقد توفرت عدة بدائل وفق ما شرح خبراء الهيدرولوجيا؛ فلماذا “ابحيرة” بالذات؟.. تتساءل ساكنة المنطقة.