تمهيد
إن نمط التفكير الذي بات يعرف اليوم بالتفكير الاستراتيجي والذي هو مغاير للتفكير التنفيذي العملي والغائي مرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم “الإستراتيجية” الذي كان في بداية الأمر يحيل إلى فنون وتقنيات الحرب والى وظائف ومهام ومسؤوليات القادة العسكريين؛ حيث أن مصطلح stratégie الموجود في كل اللغات الأوربية وغير الأوربية كان معروفا لدى اليونانيين القدامى خلال القرن السادس قبل الميلاد، وقد عرفه الرومان وغيرهم من الأمم الأخرى بعد ذلك.
وتتشكل لفظة strategia من الكلمتين ذواتي الأصل اليوناني stratos التي تعني الجيش و gia التي تعني الأرض أو البقعة التي يعسكر عليها ذلك الجيش.
بيد أن لفظة strategos اليونانية الأصل هي الأخرى والتي تجمع على strategika ترمز إلى وظائف ومهام الجنرال بالمفهوم العسكري للكلمة. كما أنها تحيل إلى الصفات المهنية التي يتصف بها القائد العسكري.
وقد تفرعت من نفس الجذر اللغوي كلمة strategema أو stratagème التي تعني الحيلة والخدعة الحربية والمناورة التمويهية المخطط لها بعناية ومهنية.
وعرف الخبير المشرف على مثل هذه الخطط باسم stratege. وبرز هذا النوع من الخبراء منذ القرن الخامس قبل الميلاد في مدينة أثينا الإغريقية القديمة.
وقد ذكر العديد من المؤرخين القدامى والمحدثين من أمثال : Herodoteو Xenophon و Clement Alexendre و Mathey و Francesco Patrizi و غيرهم أن ثمة مفكرين كثر قد أولو عناية كبيرة لمختلف فنون الحرب وأساليب قيادة العمل العسكري باعتبارها سبلا ووسائل لتحقيق الغلبة والتفوق والانتصار.
ومع مرور الزمن لم يعد هؤلاء المفكرون يقصرون تفكيرهم على التنظير للعمل العسكري البحت ولم يعد اهتمامهم ينحصر في طرق وآليات القيادة العسكرية في بعدها العملياتي وفيما يتصل بأدائها الحربي على جبهات القتال.
بل توسع اهتمام المنظرين الاستراتيجيين ليشمل إضافة إلى الشأن العسكري مجالات متعددة أخرى لها مساس بمتطلبات واشتراطات النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتقدم العلمي والتفوق التكنولوجي وصيانة الأمن القومي وتحقيق الريادة وتوطيد النفوذ من خلال بسط السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية على الساحة الدولية.
وهذا النمط من التفكير المتعدد الأبعاد الذي ينطلق من استقراء الماضي واستكناه الحاضر واستشراف المستقبل واستباق الأحداث والعمل على تشكيل ملامح العالم الافتراضي المحتمل لمواءمتها مع طموحات وأهداف معينة، هذا النمط من التفكير هو ما أضحى يعرف اليوم بالتفكير الاستراتيجي.
وسوف نحاول في ما يلي أن نقف على ماهية هذا النوع من التفكير وخصائصه وان نستجلي أهدافه وفوائده وان نبين أهمية اعتماده والاسترشاد به في بناء وتوطيد مشروع المجتمع الذي نطمح إلى إقامته في بلادنا.
ماهية التفكير الاستراتيجي
التفكير الاستراتيجي يتميز عن التفكير التنفيذي ذي الصبغة الإجرائية وعن التفكير الأكاديمي ذي الطبيعة العلمية وعن التكفير السياسي ذي الميزة المؤسسية، بكونه نمطا من التفكير الشمولي المركب والممنهج والمؤطر، لا يكتسب تلقائيا ولا يمكن النفاذ إليه بالبديهة والحدس وإنما يبرز نتيجة لتراكم معارف وخبرات ومبادئ ونظريات ومنهاهج عقلانية تدرس على مدى سنين في أكاديميات مختصة وتسمى بـ “علم الإستراتيجية”.
التفكير الاستراتيجي هو إذا تفكير متعدد الرؤى والزوايا يأخذ في الاعتبار الماضي والحاضر والمستقبل ويوظف الأساليب الكمية ولغة الأرقام وقوانين السببية والاضطراد في فهم المتغيرات المستقلة واستيعاب علاقات الأشياء مع بعضها.
فهو بالتالي تفكير تركيبي وبنائي يعتمد الإدراك والاستبصار والحدس لاستحضار الصورة البعيدة ورسم معالم المستقبل قبل وقوعه.
ويعتمد الإبداع والابتكار في البحث عن أفكار جديدة وتطبيقات مستحدثة لمعرفة سابقة وذلك وصولا لاستشراف المستقبل وتحديد اتجاهاته وتحولاته بدلا من الانشغال الكامل بالحاضر والتفرغ الكلي لمشاكله التي هي امتداد للماضي. فهو يعتمد التحري والتأمل والاستقراء والتفكير والاستنتاج.
التفكير الاستراتيجي هو باختصار ذلك المجهود الذهني الشامل والممنهج الهادف إلى استشراف المستقبل وهيكلته الاستباقية انطلاقا من معطيات تاريخية وجغرافية وانتروبولوجية وعلمية شاملة تشكل رصيدا معرفيا واسعا يمثل عامل إلهام ومرتكز تمثل واستشراف وتنبؤ وافتراض يمكن الاتكاء عليهما لتخيل كل الملامح التي قد يتصف بها أو يجب أن يتصف بها المستقبل.
خصائص التفكير الاستراتيجي
التفكير الاستراتيجي ضرب من المقاربات الاستقصائية يرتكز على أسس وقواعد وأصول البحث العلمي في توظيف المنهجية البحثية المناسبة القائمة على دقة التوقعات ووجاهة التنبؤات لاستحضار المستقبل وتمثل أحداثه المحتملة وذلك انطلاقا من الإرهاصات والمؤشرات والتأمل والتحليل الكمي والنوعي والاستنتاج القياسي وتصور النماذج وتمثل التداعيات البعيدة استنادا إلى منهجية علمية تقوم على تحليل المنظومات Analyse de systèmes واستخدام السيناريوهات الافتراضية وتقنيات المحاكاة technique de simulation .. إلخ ومن ثم فإن التفكير الاستراتيجي هو تفكير إبداعي تطويري ينطلق من الحاضر ليرسم صورة المستقبل التي يعتمد عليها ليحور بنية الحاضر وينطلق من الرؤية الخارجية ليتعامل من خلالها مع البنية الداخلية ويتبنى النظر من الأعلى لفهم ما هو أسفل ويلجأ للتحليل التشخيصي لفهم حقيقة الأشياء بواقعية وتبصر.
فهو بكلمة واحدة تفكير تحليلي تشخيصي وتخطيطي يستقرئ الماضي ويستكنه الحاضر ويستشرف المستقبل.
وفي التحليل النهائي يمكن القول بأن التفكير الاستراتيجي هو سعي إلى التخلص من دكاتورية اللحظة ومجهود من اجل اختراق حجب الغيب ومد سلطان العقل إلى المجهول ووضع خرائط للمحتمل تحسبا للطوارئ وتفاديا للمفاجآت وسعيا إلى التحكم في الأحداث وإخضاعها للسيطرة وتسخيرها لخدمة المصلحة الذاتية والأهداف الخاصة.
والتفكير الاستراتيجي ليس ترفا فكريا ولا نشاطا يمثل نوعا من التنجيم أو ضربا من العرافة بل هو أحد العلوم الإنسانية المتطورة تتوسله الأمم المتقدمة بشكل ممنهج لاستشراف المقبل من الأحداث وتخيل المناحي التي يحتمل أن تنحوها الأمور على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتلمس ملامح الملابسات التي قد تسود العالم وذلك من اجل الاستعداد لها والتكيف معها وتأمين أقصى ا لإ ستفادة منها.
التفكير الاستراتيجي وخاصة جانبه الذي يمكن تسميته بـ “المنظورية” أي La prospective يعتبر منهاجا ناجعا لرسم خرائط دقيقة للعالم المقبل في المديين المتوسط والبعيد وتعتمده الأمم المتنفذة الآن لتهيئة الظروف والشروط الكفيلة بتقوية وتأبيد سيطرتها على العالم وهيمنتها على مقدراته ومصائر شعوبه بل وبسط نفوذها وإحكام قبضتها على الكواكب المجاورة له والانفراد بامتلاكها واحتكار مواردها المحتملة.
أهمية التفكير الاستراتيجي كأداة لتطوير البلاد
إن الأغلبية الساحقة من بلدان العالم الثالث بما في ذلك بلادنا، نظرا لما تعانيه من فقر وأمية وتخلف فكري ومؤسسي لا تدمج أي شكل من أشكال التفكير الاستراتيجي ضمن اهتماماتها فأحرى أولوياتها. ولذلك فإنها لا تفتقر فقط إلى المؤسسات التي تكون وتوظف المفكرين الاستراتيجيين بل إنها تفتقر حتى إلى الوعي بأهمية هذا النوع من التفكير. ومن هنا يغيب التخطيط للمستقبل وتغيب البرمجة والاستشراف والتدبير الاستباقي للأمور. وبالنتيجة تسير سياسات هذه البلدان على غير هدى وبدون خرائط طريق مستلهمة من دراية بالمسارات التي قد تسلكها الأحداث في العالم ومن المعرفة بالملامح التي قد تتسم بها السياقات الدولية.
مما يتسبب في انتهاج سياسات عشوائية تتصف بالتلقائية والارتجالية والتخبط. وعليه فإنه قد بات من الضروري والملح أن يدرك الساسة وصناع القرار في بلادنا الأهمية القصوى التي يكتسيها التفكير الاستراتيجي في العمل على إقامة مشروع مجتمع متطور في البلاد.
فقد آن الأوان لأن يصار إلى إنشاء المؤسسات الضرورية لتكوين الخبراء المختصين في هذا العلم وأن يوظف هؤلاء الخبراء في دراسة واستقراء السبل والوسائل الكفيلة بالنهوض بكل قطاعات الحياة الوطنية وتحديد الرهانات التي يجب كسبها والتحديات التي يلزم رفعها والاستراتيجيات التي ينبغي وضعها من أجل تطوير البلاد على مختلف الصعد ورفع قدراتها التنافسية على الساحة الدولية.
فالأزمات الاقتصادية والانفجارات الاجتماعية والاختلالات العميقة والمتعددة الأبعاد التي تنجم عنها تستدعي بل تستوجب التفكير الاستباقي الممنهج في كل الإشكاليات التي يحتمل أن تكون لها تداعيات كبيرة على أمن البلاد ومصيرها والتي من أهمها :
1- توفير الأمن الغذائي من خلال تحديث وعقلنة وترشيد استغلال موارد البلاد السمكية والحيوانية والزراعية والمعدنية ليس فقط من اجل تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء والطاقة والخدمات الأساسية ولكن أيضا من اجل تصدير المحاصيل الفائضة بغية الاستفادة من عائداتها لتغطية مختلف متطلبات الوطن.
2- تأمين حاجيات البلاد من المياه والطاقات المتجددة في منظور النفاذ الوشيك لمصادر الطاقة الأحفورية عبر العالم.
3- بلورة وتفعيل الطرق والوسائل والآليات الناجعة والملائمة للسيطرة الكاملة على الهجرة العشوائية التي تجتاح البلاد وتهدد أمنها واستقرارها وتنذر بالإخلال بتوازن نسيجها الاجتماعي وبهويتها الثقافية وبخصوصيتها الحضارية ومقوماتها الروحية.
4- وضع استراتيجيه طويلة المدى لتوظيف موقع البلاد الجغرافي ودورها التاريخي في المجالين الثقافي والروحي وتركيبة نسيجها الاجتماعي من اجل تأمين الريادة الاجتماعية والثقافية في المجال المأهول بالشعوب الناطقة بالحسانية والاضطلاع بالريادة الروحية والفكرية في الفضاء الساحلي المغاربي وتشكيل حلقة تواصل وجسر تلاق بين الأمة العربية وشعوب إفريقيا السوداء وذلك عن طريق تقوية إشعاع البلاد الثقافي والروحي وعن طريق توطيد نفوذها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
هذه بعض المنظورات التي يمكن أن تقارب من خلالها عملية إقامة مشروع مجتمع موريتاني متطور ومؤهل لرفع التحديات التي تواجهه وكسب الرهانات التي يجعلها نصب عينيه.
والمقاربات الملائمة للتعاطي مع هذه الإشكاليات على نحو ناجع وفعال لا يمكن أن تكون ارتجالية وعفوية بل يلزم أن تكون وليدة تفكير استراتيجي محكم وممنهج موكول إلى فريق من الخبراء الاستراتيجيين المهنيين ذوي الكفاءات العالية والمصداقية الكاملة. ذلك أن التفكير الاستراتيجي قد أضحى اليوم أكثر من أي وقت مضى النبراس الذي تسترشد به الأمم الحازمة لتلمس الطريق لأقوم و الأنجع نحو الأمن والتقدم والتميز والريادة.
نواكشوط 11 مارس 2001
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :ِ
1- كتاب مدخل إلى الفكر الإستراتيجي د. صلاح نيوف
2- التفكير الإستراتيجي د. سعود عابد
3- التفكير الأستراتيجي الأمركي سمات و مقومات أ. كمال الهلباوي رئيس الرابطة الإسلامية في برطانيا
Strategem and the vocabulary of military trickery – L. Wheeler 4–
Traité de Stratégie – Hervé Coutau BEGARIE 5 –