روصو – محمد ولد زين
وجدت منذ أربعينيات القرن الماضي، لتمكن كبار قادة المستعمر الفرنسي حينها، من عبور نهر السنغال لبسط سيطرتهم على مجموعات قليلة من البدو الرحل، تجوب فيافي وطن لما تتبلور معالمه آنئذ سوى في أذهان طلبة موريتانيين في السنغال.
يتذكر “محمود الل”، شيخ سبعيني، البدايات الأولى لما بات يعرف اليوم ب”عبارة روصو”، ويذكر من عاصرون أن “الباك” يومها لم يكن سوى زورق خشبي ملفوف بحبال فرنسية تساعده على اجتياز عباب نهر هادئ، وفي العام 1951 استعاض الفرنسيون عن الحبال بماكينات الدفع “اكروب”، وفي ذلك التاريخ برز اسمها الحالي “الفالوكه”.
لم يكن سكان الضفتين، يتوقعون أن قادمات الأيام ستنسيهم حكايات نسجوا بعض خيوطها، وكانت الرحلات الخطرة لـ”الفالوكه” متسعا لبعضها الآخر، لكن قصة ولع عمرها 23 عاما تبدى أنها في طريقها إلى الانفصام، بعدما وصلت “عبارة روصو” الحالية في العام 1975، بطاقة استيعابية تبلغ 80 طنا، وفضاء يستوعب سيارات صغيرة، وشاحنات.. ليتعزز هذا “الاصطول” بعبارة ثانية، أسموها “اترارزه” بنفس المقاييس السابقة، ومنذ ذلك الحين وهاتين العبارتين، تؤمنان حراكا تجاريا فريدا من نوعه، تعتاش عليه فئات من ساكنتي ضفتي نهر السنغال.
عندما يرى الزائر للمرة الأولى العبارة، وهي تحمل أثقالا مع أثقالها، وتمشى الهوينا في هدوء قل نظيره، بحمولة لا شيء يجمع بينها، تتكون في العادة من شاحنتين، و4 سيارات صغيرة.. قطعان من الحيوانات .. أطنان من الأمتعة، وجمهور يقارب الـ 100 شخص، منهم أصحاء وتجار وسماسرة ومرضى، يدرك الزائر تلك القيمة الزائدة ـ يقول السمسار السالك ـ لمشروع بقي صامدا غير عابئ بغدر الأيام وتعاقب الأحكام، وهو اليوم يوفر الكثير من فرص العمل غير الدائمة لبعض الشباب والشيوخ، تقارب الـ 350 فرصة عمل في القطاع غير المصنف وحده، فضلا عن ذالك تؤمن العبارة 90 وظيفة دائمة، وتملك طاقما فنيا مكونا من 10 فنيين في مجالات الميكانيكا، واللحامة.. وتسهر على صيانتها وحدة صيانة خاصة، تعتمد بالأساس على “جرار” كهربائي يتولى مهمة رفع العبارة وإخراجها من المياه، حتى يتم إصلاح الاعطاب الفنية بها، حال وقوعها، يقول مديرها المساعد.
ويشرف على العبارة، طاقم قيادة مكون من 4 أشخاص ومتدربين اثنين، يؤمنون السير المنتظم لأربعة رحلات تشكل البرنامج اليومي لعمل عبارتي “روصو.. و اترارزه”، بالإضافة إلى الرحلات الاستثنائية بالنسبة للوفود والمرضى، والتي تتم في العادة بعد الساعة السادسة مساء موعد الإغلاق الرسمي للحدود، والتي تتطلب ترخيصا رسميا من والي اترارزه.
تداعيات.. وعراقيل
لا يخفي عبد الله ولد محمد خديم ،المدير المساعد للعبارة، تخوفاته من التأثيرات السلبية المحتملة لأزمة النقل البري الحالية بين موريتانيا و جارتها السنغال، بل يجزم أنها “ستكبد العبارة عديد الأضرار أبرزها تراجع مداخليها، وهي التي تعتمد نقل الشاحنات بين الضفتين مصدر ربحها الأول”.
وضع جديد، سيأخذ مكانه “غير المناسب” في قائمة طويلة من المعوقات تتجاذب حركة العبارة لتشلها، أبرزها المنافسة غير المشروعة من قبل “الفالوكات”، التي تبخل على إدارة الشركة بدفع إتاوة التوقف، التي لا تتجاوز 100 أوقية للزورق الواحد، وتأمر الناس بالبخل عليها بما تيسر من سقط المتاع.
السماسرة وصغار الباعة، يجدون موطئ قدم لهم، في جنبات سوق حرة، تتعالى فيها الأصوات، ولا تخضع إلا لمنطق المجادلة بالتي “هي أغلى”.
“وضع العبارة لا يطاق، لكن الخيارات أمامنا معدومة”، يقول عبد الله ولد القرشي، شاب يسهل للأجانب إجراءات الدخول، ومرد ذلك فوضوية السوق، وكثرة الدخلاء فيها، حسب تعبيره.
الشيخ ولد إبراهيم، تاجر عملات، يحكى بمرارة كيف اختفت أيام الهناء في العبارة، وكيف أن سماسرة العملات أحالوا أصحاب مكاتب الصرف إلى التقاعد، من خلال خلق سوق سوداء لا تخضع للرقابة.. وهي مهنة من لا مهنة له، وفق تعبيره.
في محيطها، لن تعوزك الحكايات والشكاوي، ولن تخطئ عينك نشاطا محموما يرسم الجميع، كل في ميدان اختصاصه، ملامحه المتغيرة، كلما تحركت جيئة وذهابا، ويبقي الثابت الوحيد هاهنا، مجانية نقل الأشخاص والحيوانات.. وكأنما هي سفينة لـ”مساكين يعملون في البحر..”.. لم يستطيعوا تعزيز أسطولها خلال ستين عاما “ضاع فيها المجداف والملاح”.