رحم الله جمال، منذ أن رحل عني لم أكتب عنه، وذلك عين العجز، ولم يتح لي أن أحضر ندوة من الندوات
التي عقدت لذكراه، وذلك من سوء الحظ، وكنت كلما فكرت أن أكتب عنه قامت بيني وبين ذلك جبال من الشجون والحيرة..
من أين أبدأ.. كيف أكتب.. ما ذا أقول.. هل أكتب عن جمال الأخ أم جمال الصديق أم جمال الأستاذ.. أم جمال العالم.. أم جمال المفكر.. أم جمال الشاعر.. أم جمال المتصوف.. أم جمال الإنسان.. أم ماذا؟
واليوم وقد وقفت على قبر جمال جاشت في نفسي أمور كثيرة، وأرجو أن لا ألام إذا لم أبن أو أفصح عنها، لأن ما كان يلجمني عن الكلام ما زال، فما في نفسي كالذي في نفس ولد هدار “ما* كلت ما فت اعتنت اعليه* خليت فاخلاك يداك* ش فم الخلاك أخبر فيه* وال ينفع فيه الخلاك“.
رحم الله جمال كان صديقي وأستاذي وأشياء أخرى لا أقولها.. كنا نتراسل إذا افترقنا ولا نكاد نفترق إذا جمعنا الوطن، فكنا كما قال متمم بن نويرة:
فلما تفرقـنا كأنـي ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وما زالت رسائله اللاتي كان يتحفني بها أيام دراسته في تونس تبعث في نفسي كلما رأيتها خليطا عجيبا من الذكريات.. أعيش فيها أيامنا الخوالي.. ولا أخرج منها إلا مشوشا تخنقني العبرات..
رحم الله جمال، كان يتحفني كلما التقينا بآخر إنتاجه.. وينتظر تعليقا مني يكون في الغالب مزاحا على غير ما يتوقع السامع، ولكن جمال كان كثيرا ما يحزره.. وأحيانا يقول لي أعرف أنك ستقول كذا.. ولكنني أعرف ما في نفسك، فقل الحق. رحمك الله يا جمال فقد تركت فراغا لا يسد، ولكن عزاءنا فيك أنك لم تكن غافلا ولا لاهيا عن يوم الرحيل..
أمن وقفة بالـبير أصبـحت توجـل وزلزل منك القلب لو يتـزلزل
أتـوجل أن زرت القـبور وأهلـها وأنت عريق في الفناء مسلسل
وقـفت وما في الـبير إلا شـواهد تريك الذي عن كنهه أنت تسأل
وكم خلفـها من مـاجد قد عهـدته يبـش إذا تأتي فما عاد يحفل
فهـذا جمـال لا يـرد تحـيـتي وإن كان يدري ما أقول ويعقل
فـقل لي لـماذ ياجمـال تـردني وكنت حفيا بي إذا أنا أقـبل
وقل لي لمـاذ يا جـمال تركـتنا على أسف نبـكي عليك ونعول
رحلت وعـهدي أن تمر مـودعا فأعجلك الداعي وما الموت يمهل
رحلت وما ودعت، بل قلت أرحل “فإني إلى قوم سـواكم لأميـل“
و”قد حمت الحاجات والليل مقـمر وشدت لطـيات مطايا وأرحل“
لعمري لئن أمسيت في الرمس قاصيا لأنت مقـيم بالفـؤاد مبـجل
تؤرقـني ذكـراك والنـاس نوم وإن سمر السمار ذكراك حنظل
وتنزع نفـسي إن ذكرت إلى البكا ويمنعـني ما عند ربـك تأمل
فقد كنت أتـقى من خـبرت لربه وما كنت بالـنوام واللـيل أليل
أأبكيك، والعـمر العريض قضيـته لـربك عـبدا طائـعا تتـبتل
قصير إذا ما قيس عمـرك أشـهرا وأما إذا بالعـلم قيس فأطـول
أأبكـيك والقرآن شـغلك لا تـني تـردده والذكـر غض مرتل
رحلت عن الأوطان فالـحي مقـفر أرامـله تبـكي ويبكيك أرمل
تركـت رفاقا لا تنـام عـيونهـم وأهـلا وطلابا لـفقدك نحـل
تركت بـلادا لا جمـال لشعـرها إذا اجتمع النادي ولا النثر أجمل
محـابرها جفـت وغـار مـدادها وأقـلامها ثكلى وللـعلم أثـكل
فقد كنت تسقيها من العـلم سلـسلا تفصله إن شـئت أو شئت تجمل
وكنت لسان الجـمع إن جد جـدهم صموتا إذا الأقران في اللغو أوغلوا
وأشياء أخرى لا مجـال لذكـرها وأكـثر مـما قـلت ما كنت أجهل
رحلت فقال النـاس شعرا مدبـجا ونثرا، وقلت الصمت من ذاك أمثل
وعلـلت نفـسي بالذي أنت أهـله ولـم يغـن عـني يا جمال التعلل
ولم يبق إلا الصـبر لي متنفـسا “وللصبر إن لم ينفع الشـكو أجمل“
صبرت وقلت الدهر ينسيك ذكره فـما حـال إلا ريثـما يتغلغـل
تعاودني ذكـراك يشـتد وطؤها ثقيلا “كحمى الـربع أو هو أثقـل“
سأذكـر ما كـنا نقـول عشـية بيوسف شرق الحي والنـاس نزل
وأذكر بالبتراء ما قلـت مازحـا كأنـك ذا هـزل وما كنت تهزل
وأذكر ما في توجـنين تقـول لي وما قلت لي في العقل لو كنت أعقل
سقى الله عند البـير قبرا حللـته بغيث من الغفران والعـفو يهطل
وعم ربـوع الـبير منه برحـمة وعـفو بأفنان الجـنان يكـلل
وصلى على خير الأنـام محـمد وأصحابه والآل ما الناس هللوا
ونسـأله لطـفا إذا جـاء يومـنا ونسـأله الجنات والله يكمـل