بسم الله الرحمن الرحيم
تقع مدينة شنقيط على ظهر آدرار ( جبل لمتونة ) على التخوم الجنوبية من الشمال الموريتاني وتبعد عن نواكشوط 516كلم وعن طار عاصمة الولاية 83كلم وتقع جغرافيا على خط العرض 20درجة و27 دقيقة و10ثوان من العروض الشمالية وعلى خط الطول 12 درجة و21دقيقةو45ثانيةغرب خط “كرينتش”
وتتميز بمناخ صحراوي جاف، بارد في الشتاء، حار صيفا، مع تيارات هوائية نشيطة تغلب عليها الرياح التجارية الشمالية الشرقية (Alizé) الجافة المصحرة، إلا أن أواخر الصيف وبداية الخريف تشهد رياحا جنوبية وجنوبية غربية هي امتداد للرياح الموسمية، تجلب بعض الأمطار التي لا تكاد معدلاتها السنوية تصل إلى 100مم. إلا في حالات الرطوبة الاستثنائية، وعندما تمطر السماء وتسيل البطحاء فإن ذلك يعتبر حدثا بالغ الأهمية بالنسبة إلى السكان، لما له من انعكاس إيجابي على الواحات ذات الدور البارز في اقتصاد المدينة.
ويتراوح عدد السكان بين 3000 نسمة في الشتاء ليربو على 7000 في الصيف (موسم الكيطنة) وقد كان الاقتصاد التقليدي يقوم على أسس ثلاثة هي واحات النخيل وما تنتجه من تمور وما يزرع تحتها من حبوب، ثم تربية الماشية التي كان يملك السكان منها كميات معتبرة، وأخيرا النشاط التجاري نظرا لموقع المدينة على طريق القوافل بين المغرب والسودان، فكان لأهل المدينة ثلاثة اتجاهات للتسويق والتسوق هي السوادن(مالي الحالية) ووادنون في جنوب المغرب ومدينة اندر السنغالية.
1ـ تأسيس المدينة
خلافا للمدن التاريخية الأخرى، فلم يكن أهل شنقيط يهتمون بالتدوين وخاصة تدوين التاريخ، ولذلك لم نجد مؤلفات لأهل المدينة قبل القرن الهجري الحادي عشر أي بعد تأسيس المدينة بأربعة قرون،فكانت التقاليد الشفوية أهم مصادر تاريخ المدينة وهي مطية لخلط الحقائق بالأساطير، وتتقاذفها الأهواء والنعرات غير أن الذي درج عليه مؤرخو المدينة هو أن شنقيط الأولى أسست قريبا من موقعها الحالي سنة 160هـ تحت اسم “آبير” وهو تصغير مصنهج لكلمة بئر ربما لقرب مائها من السطح، وقد تكون إحدى الآبار التي حفرها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع سنة 116 للهجرة للربط بين سجلماسة بجنوب المغرب وأوداغست قرب تامشكط الحالية، وقد بلغت المدينة أوج ازدهارها إثر سقوط دولة المرابطين الشمالية سنة 541هـ وانزياح القبائل الصنهاجية التي كادت تتألف منها دولة المرابطين إلى الجنوب.
أما شنقيط الثانية ( شنقيط الحالية) فإن المتثوارث من الروايات الشفوية يرجع تأسيسها إلى سنة 660 هجرية (1262م) على يد أربعة رجال هم محمد غلي بن إبراهيم جد قبيلة لغلال ويحي العلوي بن أبيح جد إدوعل، وأعمر بن علي المعروف بأعمر بن يبني جد آمكاريج وهو عم يحي،و إيديجر، في روايات تتفق في جوهرها وتختلف في تفاصلها.
اجتمع هؤلاء الاربعة (ويضيف البعض إليهم خامسا هو شمس الدين الجد الجامع لقبيلة( السماسيد) في هذا المكان الذي يبدو أنه كان قرية بافورية صغيرة تعيش على هامش آبير واتفقواعلى تأسيس المدينة بداية بالجامع العتيق وهو المسجد الحالي، ثم بدور المؤسسين الأوائل، ثم التحق بهم سكان آبير تدريجيا حتى اكتمل انتقال السكان من شنقيط الأولى إلى الثانية خلال أربعين سنة لأن القوافل أصبحت تحط بها، وتفرقت بقية سكان المدينة القديمة في أنحاء البلاد الموريتانية الحالية وكانت أقربها موقعا قبيلة تجاكانت التي انتبذت مكانا قريبا منها هو”تينيكي” التي تبعد عن شنقيط 37كلم.
وقد انتظم السكان تحت رئاسة جماعية للمدينة حيث انتخبت الجماعة رئيسا لها. ومن أشهر هذه الرئاسات رئاسة الشيخ سيد أحمد بن الوافي بن حبيب الله التي دامت خمسين سنة شهدت المدينة خلالها ازدهارا لم يعرف له مثيل.
هذا عن المصادر الشفوية أما المصادر المكتوبة فإنها قليلة وقليل ما تخصصه لذكر المدينة. فقد ذكر عبد الرحمن السعدي في تاريخ السودان أن رجلا من شنقيط من قبيلة آجر الصنهاجية يدعى محمد نل قد عينه أحد ملوك دولة مالي سنة 837هـ حاكما لتينبكتو كما ذكر أن إمرأة ثرية أغلالية ينت مسجدا في نفس المدينة، وكذلك شنقيط ذكرها الرحالة البرتغالي فالنتينو فرنانديز Fernandez) (Valentinoسنة 1507 م – 912ه في سياق تعداد القرى الواقعة فوق جبل بافور.
أما اول شيئ مفصل نسبيا فإنه يعود إلى العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم سنة 1205هـ في ورقات سماها صحيحة النقل في علوية إيدوعلى وبكرية محمد غلى وقد نسخ جلها صاحب الوسيط بصفة تكاد تكون حرفية . ثم كتب سيدي محمد بن حبت ( ت 1288هـ) تاريخا للمدينة لخصه ابنه أحمد المتوفى 1301 هجرية ثم فصله حفيده سيد محمد (ت 1952هـ ) في نقلة سماها تاريخ التكروربحيث وسعها إلى الفضاء الشنقيطي الأشمل .إلا أن مصادر كل هذه الكتابات لم تكن تعتمد إلا على التقاليد الشفوية الموروثة.
لم تتأثر المدينة كثيرا بالنزاعات التي نشبت بين قبائل صنهاجة وقبائل بني حسان، وبعد انتصار هؤلاء لم يكن حكمهم للمدينة إلا رمزيا، إذا كانت تحيط بها هالة من القداسة تجلب لها الاحترام فأصبح الحكام الجدد يتبركون برموز المدينة الدينيين.
وهكذا استمرت المدينة موئلا للعلم والدين ومركزا للتجارة بين الشمال والجنوب حتى جاء الاستعمار الفرنسي سنة 1909م فتغيرت المعطيات، وانتقلت مراكز النفوذ وطرق التجارة إلى جهات أخرى ودخلت البواخر على الخط فأصبحت الوسيلة الاولى لنقل البضائع والحجيج قبل أن تأتى السيارة فتعمق تغيير هذه المعطيات.
لم تقف المدينة مكتوفة الايدي أمام الغزو الاستعماري، فكان لأهلها مواقف ووقائع مشهودة فشاركوا في المقاومة في تكانت وآدرار واستشهد منهم رجال كثيرون ويكفي أن نشير إلى أن سيدي بن مولاي الزين منحدر من شنقيط وأضرحة أجداده شاهدة بذلك وبعد احتلال آدرار التحق العديد منهم بالشيخ ماء العينين وشاركوا في الغزوات التي لم تنته ألا سنة 1934م أي 26 سنة قبل الاستقلال.
وقد بقيت روح المقاومة متأصلة في المدينة متجلية في مقاومة المدارس الفرنسية والكراهية لكل ما يمت إلى النصارى بصلة. وعندما بدأ الوعي الوطني يدب من جديد إثر دخول وسائل الإعلام المسموعة إلى المحيط وأصبحت أنباء حركات التحرر تصل إلى البلاد وأنشئت منظمة الشبيبة الموريتانية كانت مدينة شنقيط من أوائل المنخرطين في التوجه التحرري فتأسس فرع المنظمة الشباب سنة 1956م واستطاع بسرعة أن يوحد المدينة، ويقضي على الخلافات التي كانت قائمة فيها، ثم أسس قسم من حزب النهضة استطاع أن يعبئ السكان للتصويت ضد دستور الجنرال ديكول في 28 سبتمر 1958م فكانت شنقيط المدينة الوحيدة التي صوتت بأكثر من %90 بلا في الاستفتاء.
كان اهتمام أهل شنقيط شديدا بتأدية فريضة الحج رغم بعد الشقة وصعوبة المسالك ومخوفيتها، فكان لهم كل سنة ركب يتجه إلى البلاد المقدسة، وبالتدريج أصبح هذا الركب يضم مئات الحجاج القادمين من مختلف الجهات، فاتخذت هذه الاركاب اسم شنقيط عنوانا لها حتى أصبح القطر كله يعرف في المشرق ببلاد شنقيط، التي ذاع صيتها رمزا للعلم والموسوعية والسلوك القويم.
وزاد من إشعاع شنقيط هجرة أبنائها في النصف الثاني من القرن الحادي عشر إلى جنوب البلاد ووسطها وشرقها فانتشرت مدارس الأغلال في الحوض ولعصابة ومدارس إيدوعل في أرض القبلة وتكانت، فكانوا شيوخ الزوايا في مختلف الجهات.
ويشهد لهذا قول محنض باب بن ولد اعبيد الديماني (ت 1277 ) يمدح إيدوعلي الجالة ويذكر جدهم القاضي عبد الله بن محمد بن حبيب المشهور بالقاضي:
فجدهم أستاذ تاشمش كلهم قد ارتضعوا من علمه الخلف والضرعا
وكان للسماسيد المنحدرين من شنقيط في القرن الهجري الحادي عشر دور كبير في نشر العلم والدين في باطن آدرار وغربه.
وإذا أخذنا في الاعتبار الجوار الجغرافي القريب أمكننا اعتبار تينيكّي امتدادا لإشعاع شنقيط لكونها قريبة منها ومنحدرة مثلها من “آبير” فقد تفرق الجكنيون في أنحاء كبيرة من البلاد وخارجها وكان لهم باع واسع في نشر المعارف أينما حلوا.
II شنقيط اليوم
يختلف حاضر شنقيط عن ماضيها اختلافا بينا، فقد جفت فيها موارد الحياة من زرع وضرع، وتفرقت ساكنتها أيدي سبا وعزت فيها وسائل العيش ، فهجرها جل علمائها وأدبائها. وقد تعرضت منذ الستينيات لموجة جفاف تواصلت حتى منتصف التسعينيات فماتت واحات النخيل وانتقل المنمون بما بقى لهم من سائمة إلى مناطق بعيدة أقربها ولاية لعصابه وخربت المدينة القديمة بسبب هجرة السكان، وزحفت الرمال فكادت تدفن كل شيء حي.
وبالرغم من أن أحواز المدينة شهدت خلال السنوات الأخيرة أمطارا متفرقة فلم يمكن ذلك من عودة السكان و لا المنمين لأن الكثير منهم نشأ في مواطنه الجديدة ولم تعد تربطه بالمدينة إلا ذكريات باهتة .
غير أنه من الملاحظ أن بعض ميسوري الحال وقليل ماهم أخذوا في بعث حدائق من النخيل مكان تلك التي ماتت منذ العقود الأخيرة.
ولم تكد المدينة تستبشر بالآفاق الجديدة التي فتحتها السياحة حتى انسدت هذه الآفاق بسبب الظروف الأمنية الجديدة.
لقد تمت الدعوة سنة 1981 إلى تصنيف المدن الأثرية القديمة بما فيها شنقيط تراثا للإنسانية ، ولكن تصنيف المدينة من قبل السلطات العمومية كتراث وطني لم يقع إلا سنة 1996، ولكن هذا التصنيف الذي يقتضي عدم المساس بالمدينة القديمة لم يحترم من قبل المواطنين ونشهد اليوم على ضفتي الوادي نموا عمرانيا فوضويا إلى درجة كبيرة. وقد حصلت المدينة على تمويلات من البنك الإسلامي للتنمية والاتحاد الأوروبي منذ منتصف التسعينات، ولكنها لم تغير من واقع الناس شيئا مذكورا.
III – آفاق المستقبل
إن وضع مقاربة لآفاق مستقبل مدينة شنقيط يتلخص في الإجابة على سؤال من شقين اثنين:
أ – ماذا تريد السلطات العمومية لشنقيط؟
ب – ماذا يريد الشباب لمدينتهم
أما بالنسبة إلى الشق الأول، فإن هذه التظاهرة ومستوى الاهتمام بها ، والأيام التفكيرية المنعقدة خلالها، تعتبر مؤشرا يبعث على التفاؤل بالتفات الدولة إلى المدن القديمة بعد إهمال لها وتجاهل ’على أن طيب النيات لا يكفي، بل يجب أن يترجم إلى أفعال ملموسة عاجلة.
ويمكن في هذا المجال معالجة بعض الأفكار التي تساعد على تحويل هذه النيات إلى واقع ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1 – إنشاء قطب صناعي لتشغيل اليد العاملة الهاربة من المدينة ويمكن أن تدرس إمكانيات معالجة الحجارة المسطحة، والحجارة المستعملة في تجميل البناء أو تحويل الرمال الزاحفة إلى زجاج.
2 – توفير الماء والطاقة الشمسية لتحويل مواقع الواحات القديمة إلى مصادر للنشاط وموارد للرزق.
3 – تعبيد الطريق بين أطار وشنقيط لتسهيل انسياب السياحة الداخلية والخارجية ولتشجيع السكان على العودة بإطراد إلى المدينة ودون عناء كبير.
4- إنشاء قطب تعليمي جامعي إسلامي يصل مستقبل المدينة بماضيها.
5- ترميم ما تبقى من دور المدينة القديمة للمحافظة على فن معماري في طريق الاندثار، ولإعطاء السياحة مفهوما ثقافيا حضاريا ينعكس بالخير على السكان.
6 – حل المشاكل الأمنية التي قوضت السياحة وإكساب الساحين ثقة جديدة في قدراتنا على تأمينهم.
7 – العناية بكنوز المدينة من مخطوطات وتوفير آليات فنية لترميمها وصيانتها، إضافة إلى العناية بالمسجد ومساعدة المحاظر على أداء رسالتها.
8 – حماية المدينة من زحف الرمال بشتى الوسائل الصناعية والبيولوجية.
9 – تعبئة التمويلات اللازمة للنهوض بالمدينة وحمايتها من جشع المقاولين وجيوب المفسدين.
ويمكن أن نلخص محاور التفكير في مجال تدخل الدولة في حماية المدينة من الرمال والاندثار، و إقرار سكانها فيها بخلق موارد للرزق، وإعادة ألقها كنبع يفيض بالمعرفة ويشع بالأنوار مع مسايرة مقتضيات المعاصرة.
أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال وهو دور الشباب، فإن الشباب هو من يستطيع الإجابة عليه. فلن تكون شنقيط إلا كما يريد أبناؤها أن تكون، فإما أن يتركوها فريسة للنوم تحت الرمال، لتصبح أثرا بعد عين، وإما أن تقوى إرادتهم ويتكاتفوا من أجل انتشال مدينتهم من غمرات الموت ويعملوا على بعثها من جديد.
وهنا يمكن أن نسجل بارتياح نزوع بعض الشباب الموسرين إلى بناء المنازل وغراسة النخيل، وهو أمر يستحق التشجيع، لكنه مايزال يحتاج إلى التفعيل والتركيز واحترام جماليات العمران الأصلية.
وهنا أيضا يمكن إسداء توجيهات غير حصرية نذكر منها:
1) إضافة إلى الصندوق الذي أنشأته الدولة لتنمية المدن القديمة إنشاء صندوق خاص بتنمية مدينة شنقيط يستمد موارده من مساهمة الدولة ورجال الأعمال، وأصدقاء المدينة والمنظمات غير الحكومية، والهيآت الدولية المهتمة بالتراث الإنساني، وتبرعات أبناء المدينة كل حسب مستطاعه.
وينفق من هذا الصندوق على :
أ – علماء المدينة القاطنين فيها أو الذين يعودون إليها ممن ليست لهم موارد تعينهم على البقاء في مواطنهم.
ب – إقامة مشاريع صغيرة مدرة للدخل بطرق تحدد حسب الموارد المتحصل عليها، من أجل استقرار السكان وعودة بعض من هجر منهم.
2 – الالتزام بزيارة المدينة على الأقل مرة كل سنة وحبذا لو يكون ذلك رفقة الأسر والأطفال خاصة ’ للتشبع بأصالتهم والارتباط نفسيا بمدينتهم.
3 – استغلال وسائل الإشهار المختلفة من مطويات ووسائل سمعية وبصرية ومواقع ألكترونية وصحافة مكتوبة بغية إبراز جمالية الصحراء كما تتجلى في المدينة مع التركيز على ماضي المدينة من حيث إشعاعها العلمي وازدهارها التجاري لجلب الاهتمام إليها واستدرار التمويلات اللازمة لتنميتها.
4 – تكوين جماعات ضغط نشيطة في كل مفاصيل الدولة والقطاع الخاص، وشركاء التنمية، بطرح مشاكل المدينة وإيجاد الحلول لها.
خاتمة :
وبالجملة فإن مدينة شنقيط التي عاشت قرونا من الازدهار والإشعاع وتغلغلت في الذاكرة الجماعية لفضاء واسع يتجاوز حدود البلاد الحالية هاهي اليوم تحتضر، ولابد لإنقاذها من جهود منسقة بين السلطات العمومية التي ينبغي أن تضطلع بالدور الأكبر في هذا المجال وبين أبناء المدينة وخاصة مثقفيها وأغنيائها وطاقات شبابها إضافة إلى الهيئات الدولية التي تهتم بالموضوع أو يمكن انتزاع اهتمامها به، ليس لاستعادة المدينة ألقها الغابر فحسب بل لدمجها في نسق الحداثة ومدارج الرقي.
وأملنا كبير في أن تكون المناسبة التي تجمعنا اليوم بداية لانتشال شنقيط وأخواتها من دركات الإهمال والتدرج نحو الفناء.
إنه نعم المولى ونعم النصير.
والله الموفق للصواب