نواذيبو ـ صحراء ميديا (خاص)
تزامنا مع تخليد خمسينية الاستقلال الوطني، استذكرت نواذيبو العاصمة الاقتصادية للبلد تاريخها من “ابور اتيين” إلى “نواذيبو” عن طريق محاضرة، ألقاها أحد أبناء المدينة، وشهدت حضورا رسميا وشعبيا، في مدينة عمالية، وهو أمر نادر الحدوث.
وهكذا نظمت الليلة البارحة بمركز المعرفة بمدينة نواذيبو محاضرة بعنوان: “ابوراتين الى نواذيبو، تاريخ مدينة عريقة “، وذلك فى إطار النشاطات المخلدة لخمسينية الاستقلال على مستوى الولاية.
وألقى المحاضرة الباحث محمد المامى ولد احمد زروق، بحضور الوالى المساعد المكلف بالشؤون الاقتصادية محمد محمود ولد المصطفى، الذى أن أبرز في البداية “الدور الهام الذي تضطلع به مدينة نواذيبو في دفع عجلة الاقتصاد الوطني“.
من جهته أوضح المحاضر أن الولاية تتمتع بخصائص جغرافية وتاريخية من بينها أن اللبنة الأولى لإنشاء دولة المرابطين، انطلقت من جزيرة “تيدرة” قرب قرية اويك التابعة لبلدية انوامغار.
وتحدث المحاضر عن المسميات التى أطلقت على نواذيبو ومعالمها الشهيرة، وأضاف أنه “بعد عام 1906 بدأ الإهتمام الفرنسي بالمنطقة، وهو ما تجلى لاحقا في الرحلات الاستكشافية الى الرأس الابيض، والتي أكدت غنى هذه المنطقة بالأسماك“.
وقال إن “المستعمر قام بعد ذلك بإنشاء شركة لمعالجة الأسماك وتصديرها، ومارس من خلالها المستعمر، الكثير من الأنشطة الاقتصادية والسياسية في منطقة الساحل عموما وشبه جزيرة نواذيبو خصوصا“، “كما شهدت نفس الفترة إنشاء مطار فى سبخة “البونتية“”. وأشار المحاضر الى أن “المقاومة الوطنية المسلحة التى عرفتها المنطقة، من أبرز معاركها وقعتا “ام التونسي” سنة 1932 و“اهل الروظة“.
وتطرق المحاضر لإنشاء شركة “ميفرما” فى ال 16 فبراير 1952 برأس مال مشترك بين فرنسا وانكلترا وكندا، مؤكدا أن أول قطار يحمل خامات الحديد انطلق فى 12 ابريل 1963 ليبدأ التصدير فى ال 27 من نفس الشهر.
تاريخ..
قديما قيل في المثل “جاور الماء تعطش“، يصدق القول على مدينة نواذيبو ثانية أكبر المدن في موريتانيا، التي يحيط بها الماء من ثلاث جهات، مما أكسبها اسم داخلت نواذيبو، وإن كان في الاسم تمييز لها عن الشقيقة “الداخلة” عاصمة منطقة وادي الذهب في الصحراء الغربية، التي تبعد عنها أربعمائة كيلومتر.
أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما كانت المدينة تحمل اسم “ابور اتيين“، وخلال فترة الاندحار الفرنسي أمام الألمان الذين احتلوا باريس، أصدرت الحامية الفرنسية في المدينة أمرا للسكان القلائل بالمغادرة، لأنها ببساطة لا تستطيع التكفل بتزويدهم بالماء، وبينما كان القوم على أهبة الرحيل، تدخل القدر ليسقي المدينة، انشطرت سيارة الصهريج الكبيرة وهي في طريقها إلى حاميات استعمارية أخرى، وتزود السكان بالمياه، ثم عاد القدر ليدخل مرة أخرى على الخط، وأمطرت السماء، وكان عام “غواثة” الذي يؤرخ به ساكنة الشمال قاطبة.
قبل الاستعمار كانت المدينة، أو قل كانت الأحياء البدوية التي تسكنها بين الفينة والأخرى، تتزود بالمياه بطريقة موغلة في البساطة، ليس من باب السهولة ولكن من باب ضعف الوسائل، والبدائية معا، ينقسم القادرون قسمين قسم يحمل القرب الفارغة إلى منهل بيعد حوالي الأربعين كيلومترا، ويعود حتى منتصف الطريق، وعند المنتصف تنتظره جماعة أخرى تأخذ القرب المملوءة منه، وتسلمه أخرى خاوية، هكذا يروي مسنو المدينة.
في خمسينات القرن الماضي كان الماء يأتي أحيانا لنواذيبو من الجنوب، من سين لويس “أندر“، وكان السكان يتبتلون إلى الله حين تصاب السيارة بعطب.
أحيانا أخرى خلال عهد الاستعمار الفرنسي لم تكن هنالك وسيلة للحصول على المياه الصالحة، وان السكان كانوا يحصلون على المياه من (بوردو) و(مارسيليا) وكان كل مواطن يحصل على (5) ليترات من المياه فى اليوم.
على بعد كيلومترات إلى الجنوب من وسط مدينة نواذيبو.. يمتد حي “كانصادو“، الذي ترعاه الشركة الوطنية للصناعة والمناجم “سنيم“، ويقيم فيه موظفوها.
كان ساكنة المدينة ينظرون إلى ذلك الحي، حتى من قبل سنين قليلة كـ“تفرغ زينة” نواذيبو، ولكن حي “دبي” اختطف الانطباع، وصار حي “البرجوازية” الشمالية.
هنا يعيشون.. مع فوارق، تبعا لمكانة رب الأسرة الوظيفية، المهندسون والمسؤولون “رفيعو المستوى” نالوا فيلات في “سيتي افرانس“، ودخلت لعبة العالم الأول والثالث على الخط، نحن على كل ما زلنا في منطقة تؤطر من “العالم الثالث” بامتياز، فلنعتبر الأمر ضربا من التفاؤل، لا غير.
يتمتع ساكنة “فرنسا” بحياة “مرفهة” إلى حد ما، هنالك التكييف المركزي والثلاجات، وهناك حملات ترميم وتنظيف و“إبادة” للحشرات الزاحفة التي تتوطن المدينة، تركز على الحي بين الفينة والأخرى
في لمحة أخرى من لمحات “الحوار الحضاري” يتواجد حي إفريقيا “سيتي آفريك” قرب الحي الفرنسي، ساكنو الحي عمال بسيطون، وكتبة صغار من مستخدمي سنيم، وموظفون آخرون فرضت عليهم ظروف عملهم أن يقيموا في الحي.
كلا الحيين المشكلين لكانصادو يستفيدان من تدخلات الشركة الوطنية للصناعة والمناجم، هي هنا توفر الماء والكهرباء والتأمين الصحي لعمالها وموظفي الدولة المقيمين هنا.
حي كانصادو يعتمد بصورة كاملة على الحديد وشركته العتيدة، مما جعل بعض المعلقين يقول إنه مثلما أن مصر هبة للنيل، فإن كانصادو هبة لسنيم.
أمام ثانوية المدينة التي تبعد عن الحي عدة كيلومترات، ينتظر باص طويل تلامذة كانصادو من الدارسين في تلك المدرسة، تدخل آخر، يعتبره ساكنة الحي إنجازا آخر من إنجازات الشركة.
على حافة زقاق “أكرا” سيء الصيت في حي الغيران، يتقوقع حي “أدراكاج“، الكزرة في نسختها النواذيبية، عشرات الأكواخ التي تكاد تتراص فوق بعضها، وأزقة ضيقة تحيل إلى مواجع “أهل الكبة” حيث حلوا.
بين الزبالات تعيش أسر تحلم بغد جميل، يكون فيه حلم السكن “اللائق بالإنسان” – على حد تعبير فاطمه إحدى ساكنات الحي– واقعا معيشا.
لا مكان للسيارات في “أدراكاج” يتحتم عليك أن تترجل إذا كنت تنوي القيام بجولة في الحي البائس، منعرجات ضيقة، التي بالكاد تسمح لتيار هواء أن يمر.. هنا ينامون متكدسين في غرفهم الضيقة الباردة.
على بعد أمتار من “أدراكاج” ترسم السكة الحديدية المتوجهة إلى أزويرات، ندوبا أسود طويلا على وجه المدينة غير البالغ النضارة.بين دعامتين حديديتين تربط بينهما أخشاب من نوع صلب، وتتناثر على جانبيهما قطع الحجارة في مسارها الأزلي من عاصمة البحر إلى عاصمة الحجارة “أزويرات“، يتهادى مغرورا أطول قطار في العالم، يغدو ويروح حاملا فلزات الحديد والماء والناس، والعملة الصعبة.
غرب السكة تقيم الأوساخ لا تعكر هدوءها حملات تنظيف، ولا هم يحزنون. رياح الغرب تحمل روائح النفايات “الطازجة” إلى ساكنة ادراكاج.
ويعود وجود حي الغيران إلى ستينات القرن الماضي، حينما بدأت المدينة في طور تشكلها الحقيقي، قلائل من أبناء المنطقة، وآخرون من الوافدين تحت وطأة الجفاف، أو ترقبا لـ“مطر الحديد” القادم، وتجار يعتمدون في تعاملاتهم على جانب الحدود الشمالي.
يرتبط السكان القدامى، الذين هاجر بعضهم، خلال السنوات الماضية، عندما لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام سيل المهاجرين من العمال الأفارقة، بعلاقات نسجتها السنون، ويحكي لك نمط البنايات القديم ذي المسحة الإسبانية التي تبدو حينا لتختفي أحايين أخرى، عن تأثر بالجوار وعراقة في التعرف على الآخر.
الواجهة الشرقية للغيران واجهة تجارية بامتياز، تعود لتذكرك أنك في العاصمة الاقتصادية للبلد، المخابز تحرص على أن يكون الخبز جاهزا في ساعات الصباح الأولى، لكي يرافق الخبز الصيادين الذين يركبون البحر في الهزيع الأخير من الليل.