الباعة المتجولون ..إشارات المرور …المتسولون …
تستعد انواكشوط لأن تعلن نفسها عاصمة للثقافة الاسلامية أواسط العام القادم 2011 كما تستعد قبل ذلك وبعد اشهر قليلة من الآن للاحتفال بمرور نصف قرن علي الاستقلال (50) علي إنشائها وقد صدرت التعليمات – كما جاء في وسائل الاعلام الرسمية – من طرف أعلى سلطة في البلد إلي كل الجهات والقطاعات المعنية للاستعداد والتحضير لهذين الحدثين البارزين الذين لا يفصل بينهما فارق زمني كبير من أجل أن تأخذ انواكشوط زخرفها وتتزين كي تبدو بمظهر يليق بها ويتناسب مع هذين الحدثين البارزين .
لكن انواكشوط قبل هذا وذاك ودون أن تبذل أي جهد أو تقوم بأي تحضير أو تحتاج إلي استصدار أية أوامر من أي جهة كانت تعتبر بحق عاصمة المضايقات والازعاج والاحراج .. لسكانها قبل أن تكون كذلك في عيون الزائرين والقادمين إليها .
*****
أين ما وليت وجهك في هذه المدينة مترامية الاطراف والمتنامية بالشكل الأفقي دائما، تهاجمك جحافل الباعة المتجولين وعصابات المتسولين أعمدة إشارات المرور ..
كل يضايقك .. كل يحرجك .. كل يسألك .. وكل يسلبك ..ولكل منهم في ذلك طرقه وأساليبه وكلهم في ذلك محترفون .
I. الباعة المتجولون :
في قارعة الطريق وعلي مشارف الاسواق وداخل أزقتها وعند ملتقيات الطرق وإشارات المرور وأمام المراكز التجارية والبقالات والمطاعم ومحطات التزود بالوقود وفي الادارات العمومية ومؤسسات الخدمات والمستشفيات والبنوك ومرائب اصلاح السيارات والمخابز والمدارس والصيدليات.. في هذه الاماكن كلها وفي غيرها ( وإن منكم إلا واردها ..) تهاجمك تلك الجحافل المزعجة ، عشرات الباعة ينهشونك من كل جانب ، ينادونك بكل الأسماء يمسكونك ..ويسدونك لك الطريق .
يعرضون عليك كل خف وزنه ، وقل أو توسط ثمنه ، وما قلت قيمته ، وردأت صناعته ، أو زورت ماركته ..بضائعهم في غالبيتها عبارة عن : بطاقات تزويد ، أشرطة وأقراص ، عطور وساعات ،بسكويت ، عملات أجنبية ، معجون أسنان ، زينة سيارات ، ملابس داخلية ، نعناع ، وألعاب أطفال ..يهجمون عليك ويتجمعون حولك ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . هذا يدعوك لاغتنام الفرصة والتزود بالرصيد قبل انقضاء فترة الزيادة ، وهذا يروج بحديثه اللغو “لغو الحديث” من أشرطة وأقراص لكل الاذواق والفئات ، وآخر يريدك أن تجرب عطره أوساعاته ، وهذا الآخر يدخل لك من نافذة السيارة محمية طبيعية وأساطيل ابلاستيكية ( أفاعي – كلاب – أسماك قرش – زرافات – بواخر – طائرات – وجنود …)، والسيدة المسكينة بثيابه الرثة ووجهها الشاحب وصوتها المبحوح تندبك و تتودد إليك متوسلة لك أن تشتري منها سبحة أو علاقة مفاتيح أو قارورة من ماء زمزم …لتتمكن من اطعام أبنائها اليتامى ولك في ذلك ما نويت لأن الأعمال بالنيات .
ازعاج هؤلاء لا يتوقف عند هذا الحد فكم من سيارة صدئة بالية مركونة عند ملتقى طرق أو في زاوية ما من المدينة بين المنازل وكم من متاجر نصبت عليها مكبرات صوت تدعوا لبيع الرصيد وتحويله و بيع عصير البرتقال الطبيعي وتحوبل العملات ؟ ، وكم من شخص يحمل مكبرة صوت في إحدي يديه او علي كتفه يدعوا وينادي بالبيع بالتخفيض ( وانطير وااانطيييييير ) ؟؟!
في أبسط النظريات الاقتصادية وأكثرها شيوعا وانتشارا يقال : ( إن العرض يخلق الطلب ) وما دام الأمر كذلك فلماذا لا يكتفي هؤلاء بعرض بضائعهم وسلعهم وانتظار الرازق الوهاب ، بدل ازعاج الناس واحراجهم ؟ بل لماذا لا تقوم الدو لة بتخصيص أماكن معينة لهؤلاء تتناسب مع قدرتهم وتحفظ لهم ما بقي من كرامتهم وتريح الآخرين من مضايقاتهم وازعاجهم ؟
II. إشارات المرور:
رغم أنها من مظاهر الحضارة والرقي في المدن الحديثة ورغم الحاجة الماسة إليها لتنظيم انسيابية حركة المرور في مدينة يقارب عدد سياراتها عدد سكانها مع جهل أغلب السائقين فيها لأبجديات ضوابط المرور وقوانين السير ، إلا أن اتشار هذه الاشارات بشكل غير مسبوق في الفترة الأخيرة قد بدأ يحدث نتائج عكسية علي حركة المرور في العاصمة .وهذا ما قد يكون ناتجا عن المسائل التالية :
· عدم وجود شوارع مؤهلة بالمعني الحقيقي لهذا العدد من الاشارات
· عدم وجود رؤية منطقية أو مخطط واضح لتوزيع نصب هذه الاشارات ، حيث توجد بعض المناطق وملتقيات الطرق المعروفة بازدحامها الشديد علي مدار الساعة ولا توجد بها أي اشارة واحدة للمرور مثل ملتقي الطرق المعروف اختصارا بكرفور تنسويلم .
في حين تشهد مناطق أخري تكثيفا شديدا لهذه الاشارات كما يوجد علي شارع المرحوم المختار ولد داداه مثلا وهو أكثر الشوارع في العاصمة مواصفات لأن يكون طريقا سريعا حيث توجد 4 إشارات في مسافة تقل قليلا عن 400 متر .
· عدم انتظام عمل هذه الاشارات دائما فلطالما أضاءت إشارتان متعاكستان بنفس اللون في نفس الوقت ، وكثيرا لا تضيئ الاشارات كلها لمدة طويلة وهو ما يسبب ارباكا كبيرا لأصحاب المركبات ويعرض حياتهم للخطر أحايين كثيرة .
لهذه الأسباب ولغيرها أصبحت إشارات المرور هنا مزعجة لما تسببه من خنق لحركة المرور يضايق أصحاب السيارات ومستغليها المستعجلين والمتوترين أصلا نتيجة ضغوط وهموم الحياة الصعبة في مدينة تتجاوز درجات الحرارة في الاربعين درجة مئوية في معظم الأيام . حتي كأن هذه الاشارات يصدق عليها المثل الشعبي القائل : ( جَ لاهِ إطَبٌ اِنْكِتْ عَيْنُ )
III. المتسولون :
هم أكثر الفئات مضايقة ، وأوسعهم تغطية ،هم في الطرقات وعند مداخل الاسواق وداخل أروقتها وعند ملتقيات الطرق وإشارات المرور وأمام المراكز التجارية والبقالات والمطاعم ومحطات التزود بالوقود و داخل قاعات الانتظار في البنوك الادارات العمومية ومؤسسات الخدمات وأمام المخابز والمدارس والصيدليات…
وأما باحات المساجد والمستشفيات و منازل الميسورين فتري القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية . يتجمعون مثني وثلاث ورباع ، فرادا وجماعات . هم أول من يتيقظ في هذه المدينة وهم آخر من ينام .
صباح كل يوم تزحف تلك العصابات في سباق مع بعضها ومع الزمن لاحتلال المواقع الاستراتيجية ذات الحركة العالية و الدخول المرتفعة ، مع أن بعضهم من من عرفوا أسرار المهنة يرابطون في مواقعهم خوفا من الدخلاء .
وتراهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت
أساليب هؤلاء متنوعة وحيلهم كثيرة ومتعددة وأصنافهم أكثر .( رجال ونساء ، رضع ، وأطفال، وفتيات ، منهم من هم في عمر الزهور وبعضهم أكبر من ذلك وآخرون بلغوا من الكبر عتيا . بكل الأعمار والالوان والأجناس واللغات …، معاقون وأصحاء ، عقلاء وبلهاء ومجانين ، وآخرون مذبذبون بين ذلك لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء. تعرف منهم وتنكر ، صم وبكم وعمي ، منهم من يمشي علي بطنه ومنهم من يمشي علي رجلين ومنهم من يمشي علي أربع ..
يمتصون وجوه الناس وجيوبهم ، لا يعرفون التعفف ولا هم ييأسون ، يتفننون في التقشف وإظهار المسكنة ولكل منهم أسالبيبه التي جربها علي مدي سنوات خبرته بالاضافة إلي ما تمكن من اكتسابه من آخر ما توصلت صيحات فن التملق ( الطلبة ) للتأثير علي الناس واستدرار جيوبهم أيديهم . وتراهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت
فمنهم يحمل وثيقة موقعة كما يدعي من أحد العلماء أو المشايخ تثبت فقره وفاقته وتحث علي مساعدته . ومنهم يحمل وصفة طبية أو اثنتين له أو لأبيه أوأمه أحد أبنائه حسب فئته العمرية . ومنهم من لا يريد فقط سوى مايسد به رمقه ثمن وجبة غذائية حسب الوقت..ومنهم يتحجج بأنه ضل الطريق ولا يريد إلا ثمن التنقل إلي حيث يسكن . ومنهم من يدعي أنه طالب علم في محظرة ما . ومنهم من بتذرع بجمع التبرعات لبناء مسجد أو محظرة في مكان ما . ومنهم يدعي حرق منزله ، وأكثرهم ترك أطفالا يتامي دون غداء أو عشاء . ومنهم عابروا السبيل وكلهم علي الصدقات عاملون .ومنهم يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا إذاهم يستعتبون ..
هم في كل مكان يوجدون .. مزعجون ..مملون ومحرجون… يبتزون الناس ليعطوهم بكل وسيلة وبعضهم يسب من لا يعطيه أو يدعي عليه .
أساليبهم صارت معروفة .. وحيل أكثرهم باتت مكشوفة ..وأيدي السلطات للحد من ظاهرتهم – فيما يبدو – مكتوفة …
*****
هكذا تبدو ( انوكشوط العاصمة ) في عيون قاطنيها وأبنائها وهي علي بعد أشهر قليلة من إطفاء شمعتها الخمسين ، وهكذا نبدو كذلك وهي تحضر لتنصيبها عاصمة للثقافة الاسلامية .
كل هذا فضلا عن المناخ العام في البلد وما يطرحه من تحد علي المستوي الأمني سواء علي المستوي الداخلي أو الخارجي و كذا الظروف الاقتصادية المتردية للمواطنين .وفضلا طبعا عن ما تحتويه المدينة من قمامة وأوساخ تشوه الوجه الشاحب والمترهل للعاصمة وهي علي أعتاب سن اليأس ( 50) سنة علي إنشائها .
وإذا كان حاضر انواكشوط يبدو بهذه الصورة القاتمة في عيون أهلها وسكانها فما هي الصورة التي سيراها بها المقيمون والزوار والوافدون إليها من عواصم أخري مثل ( اكولا لامبور – دبي – الدوحة – طهران – اسطمبول – دمشق وبيروت …) ؟؟!!!
*****
تحديات كبيرة وصعوبات جمة ستواجه المشرفين علي التحضير لهذين الحدثين البارزين والكبيرين ، وعمل دؤووب أمامهم إنهم أرادوا تغيير هذه الصورة وإحلال صورة أخري مكانها . صورة يبدوا فيها وجه انواكشوط اكثر نضارة وإشراقا وتلألأ وبريقا ….
*****
قبل سنوات من الآن غنت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم من كلمات الشاعر الكبير ( ابراهيم ناجي ) قائلة : ( قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر أحلي ..)
قد يكون غيب انواكشوط حلوا فتصبح مدينة نظيفة مزدهرة آمنة مطمئنة تجبا إليها ثمرات كل شيء ، ويأتيها رقها رغدا من كل مكان نتمني ذلك من كل قلوبنا وما ذلك علي الله بعزيز. لكن حاضرها اليوم – للاسف – …………………………………..!
أترك للقارئ الكريم ملء الفراغ مكان النقاط .