كانت السيارة رباعية الدفع تحبو بنا في أودية ومنعرجات ولاية أعالي النيل في جنوب السودان في رحلة عمل نقطع فيها خمسة كيلومترات خلال كل ساعة بسبب وعورة الطريق.. وقد بدأت آلام لا تقاوم تجتاح فقرات ظهري..
البؤس والحرمان هما السمة الغالبة هنا.. والناس أشبه بمتحف بشري… قبائل بعضها ما زال يعبد البقر أو الثعابين وبعضها لا يزال يتمسح بالرماد في غياب الثياب… وهو جزء من الطقوس المقدسة.. أما وجوههم فهي أشبه بخريطتهم الجغرافية لما عليها من وشم ورسوم؛ وهو أيضا جزء من الموروث الثقافي..
كنت أحاول تناسي آلام الظهر بالاستماع إلى الأخبار من خلال جهاز إذاعي صغير من صنع كوريا الجنوبية.. وكانت آخر الأخبار تتحدث عن الاضطرابات في تونس.. لكن مفاجأتي كانت كبيرة عندما سمعت أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي غادر بلاده إلى السعودية..
فظننت في قرارة نفسي أنني لم أسمع الخبر جيدا ..أو ربما ذهب لغرض الحج أو العمرة مثلا… لكنني تذكرت أن الميقات الزماني للحج لم يحن بعد.. فقلت ربما غادر من اجل امتصاص غضب الشارع وسيعود قريبا.. غير أن كل الإذاعات أكدت أن الرجل فر هاربا…
بدأ سيل من الاسئلة الحيرى ينهال علي بإلحاح..أيمكن لشخص بسيط فقير عاطل عن العمل وأعزل مثل البوعزيزي أن يهزم رئيسا عربيا جبارا مثل بن علي مع كل زبانيته؟ هل هو ثقب في جدار الدكتاتوريات العربية جاء متأخرا بعد واحد وعشرين عاما من ثقب جدار برلين وسقوط أنظمة المنجل والمطرقة؟
هل ستسقط بيادق الدومينو تباعا في العالم العربي بعدما عراها ويكيليكس من آخر ورقة توت تستر سوءاتهم؟ أين الحزب الحاكم الذي كان يطالب بن علي بالبقاء في الرئاسة مدى الحياة؟ أيمكن أن يكون كل شيئ تبخر؟
عادت بي الذاكرة إلى مشهد ما زال مستعصيا على النسيان يوم كنت أغطي الإنقلاب العسكري الذي اطاح بمعاوية ولد الطائع.. تذكرت كيف كان أنصار ولد الطائع يتهافتون علي لإجراء مقابلات يهاجمون فيها الرجل و سياساته الرعناء ولإعلان الولاء والطاعة للحكم الجديد.. تذكرت ان ولد الطائع كان قويا أيضا مثل بن علي وكان يحكم بقبضة من حديد وكان يسوم المعارضة صنوف العذاب وكان رئيسا لأكبر حزب عرفته البلاد..
وتذكرت أني رأيت مؤخرا بعضا من الوجوه نفسها أصبحت تحوم حول الرئيس محمد ولد ولد عبد العزيز متوددة تارة ومعلنة الولاء طمعا في حظوة أو في منصب تارة أخرى..
لكنني تذكرت أيضا المثل الفرنسي القائل إن الجرذان تسلبك كل شيئ دون علمك، لكنها هي أول من يهرب من السفينة عندما تبدأ في الغرق..
وفجأة قطعالسائق شريط ذكرياتي بلكنته السودانية الجنوبية: يا زول لقد وصلنا إلى مدينة مالكال في جنوب السودان.. جنوب السودان ذكرني بجنوب بلادي الذي ما زال فيه الفقر مستشريا.. وذكرني بما يجري في جنوب البحر الأبيض المتوسط.. فهل هي لعنة الجنوب حقا؟!