عندما وصلتني رسالة من صديق عزيز يستكتبني، مساهمة في عدد خاص ستصدره جريدته التي يتعامل معها، بمناسبة عشريتها الأولى، تلبستني الحيرة برهة من الوقت، حيث طال عهدي بالكتابة الصحفية، بعدما انتزعني البحث الأكاديمي منها، طيلة النصف الأخير لهذه العشرية الأولى من الألفية الثالثة، إذ وجدت الجمع بين إعداد الدكتوراه، وهذه الكتابات الصحفية صعبا،لأنني أنظر إلى الموضوعين بالجدية اللازمة،فلا أرى كل بحث بحثا،ولا كل مقال مقالا،لا سيما أنني كنت ملتزما بمقال أسبوعي في صفحة الرأي بجريدة الوطن القطرية الذائعة الصيت،محشورا بين خيرة الكتاب دوليا،مما ضاعف المسؤولية،
وكان الرأي السياسي المستقل يومها، يتجاذبه الخوف والطمع في بلدي. أما بعدما تغيرت “أسباب النزول”،ابتداء من 2005، وانفكت عقدة الألسن، وانتضيت الأقلام من أغمادها، فما عاد للرأي السياسي جاذبية الواجب المقدس ودافعيته، إذ أصبح – في نظري – مجرد فرض كفاية،وقد كثر اليوم من يقوم به،بعدما كانوا قليلين جدا.
المهم أنني أمام استحالة الاعتذار لصديقي، وجدت نفسي منساقا إلى هذا العنوان الذي لايخلو- في ظاهره – من مفارقة تتجلى في الجمع بين النحو والسياسة، ولكن إذا “عرف السبب بطل العجب”،فأي موضوع لا ينطلق من مفارقة،يسعى لترويضها،وبناء الجسور بين متناقضاتها،لايساوي الحبر الذي يهدر فيه، وانا شاعر لغة الخطاب السياسي الجافة تخنقني، ويصعب علي البقاء بعيدا عن المجاز،فلعل مقاربة السياسة باستعارة معجم النحو يشبع رغبتي الأديب والسياسي معا، فهذا النحو العربي جاء بمثابة استخراج وتقنين للمنطق الذي كانت تستبطنه السليقة العربية، في فطرتها البدائية، المجبولة على الفصاحة والبلاغة اللتين تعتبران سمتين مائزتين لهذه الأمة أكثر من غيرها من الأمم.
وبناء على التماهي بين اللغة والمنطق، كانت الكتب اللغوية – قديما – تعنون ب”المنطق” إطلاقا، فكيف عبثت سياسة هذا الزمن الرديء بمنطق الأشياء، وعاثت فسادا في كل شيء، حتى طالت منطق اللغة ذاته؟فأصبحت الأسماء “أسماء متغيرة” لاتعنى مسمياتها، إذ صار النزيه فاشلا، ومستضعفا ومحروما، والسارق بطلا، قوي الشخصية، والمتساهل في الضوابط الأخلاقية والقانونية مرنا و”شاطرا”،والملتزم بها معقدا ومريضا، والخمور والمخدرات مشروبات ومنشطات روحية، إضافة إلى الأمهات العازبات، والأطفال المتخلى عنهم، إلى آخر التسميات المستحدثة التي لا داعي لذكر مرادفاتها بأسمائها الأصلية.
وحتى “الأسماء الخمسة”: أبوك، أخوك، حموك…أصبحت “لا محل لها من الإعراب” إلا في أبواب الزبونية والمحسوبية والشللية، كما هو حال “المضاف والمضاف إليه” إيديولوجيا وحزبيا وقبليا وجهويا، لاسيما إذا تعززت هذه الزمرة – من الأسماء – ب “حروف الجر” و”العطف” و”التوكيد” و”الابتداء”،التي فقدت وظائفها ومعانيها إلا في هذا السياق الزبوني. وما أدوات القسم – وخصوصا في اليمين الدستورية – إلا أقنعة ممزقة “للغو اليمين” المستباح.
وبما أن السياسات المهيمنة مهوسة بشهوة تكسير أضالع وأذرع وأرجل وجماجم التجمعات التي ليست لصالحها، فإن “جموع التكسير” طالما هددت “سلامة” جمعي المذكر والمؤنث ما لم يعترفا – خوفا أو طمعا – بأن “جمع الجموع” لايجب أبدا أن يلتئم شمله إلا على نصرة “مفرد في صيغة الجمع”، هو الحاكم المتغلب المستبد،الذي لايقيم للإعراب وزنا،فهو”يرفع المخفوض،ويخفض المرفوع”،غير مبال بقواعد”التمييز” الضروري بين “المعارف”و”النكرات”،لأنه يعتقد أن لكل أفعاله”مفعولا مطلقامؤكدا”،قلما يكون”مبينا للنوع” ،.
وغير بعيد من هذا السياق ذاته، لم تعد “الأفعال اللازمة” تلزم غير المستضعفين في الأرض، أما المستكبرون فيها فهم أكبر من اللزوم والإلزام، وليس يعنيهم غير”الأفعال المتعدية” على الشعوب وحقوقها، منذ استمرأوا “أفعال الشروع” في نهب الثروات الوطنية، و”ظهر الفساد في البر والبحر”، ولم يحققوا وهْمَ وحدتهم العربية الموعودة المفقودة من الخليج إلى المحيط إلا في شيئين هما: هيمنة “الأفعال الناقصة” على “الأفعال التامة، وتفشي “الأفعال الناسخة” للفضائل، موازاة مع انتشار “أفعال المقاربة ” للرذائل، مما أدى إلى تغلغل الفساد المستشري إلى صميم “أفعال القلوب”،حيث هيمنت”أفعال الشك” على “أفعال اليقين”،حتى دب المرض في “الضمائر” “الظاهرة” و”المستترة”، فتساوى – في ذلك – المتصل” منها، و”المنفصل”،وسادت صيغة “التمريض” الظنية، “المبنية للمجهولة”، مدعمة بترسانة من “الأفعال المضارعة”،المكبلة بسلاسل من “السينات”و”السوفات”، لاتتركها أبدا تتحول إلى “أفعال ماضية” منجزة، قابلة لدخول حروف “التحقيق“.
وإذا كانت “العجمة” إحدى موانع الصرف في الأسماء، فإن المفارقة هنا تتمثل في كون الكراسي -عبر البلاد العربية- ممنوعة من الصرف”، و”مبنية على السكون”، تحت المستحوذين عليها، خلافا لحالتها في البلاد الغربية، بلاد أهل العجم، حيث تتسم بالمرونة وقابلية الصرف، وفق تقلبات المناخ السياسي، وتغير ذبذبات “أصوات” الجماهير الناخبة التي تتبادل مع منتخبيها جدلية الفاعلية، فكل منهما فاعل ومفعول به في الوقت ذاته، عكس جماهيرنا العربية المفعول بها دائما من طرف حاكميها الفاعلين فيها أبدا، رغم أنهم – في حقيقة علاقاتهم بحاكميهم في الغرب – لايبدو أي واحد منهم إلا مجرد “اسم فاعل”، أو حتى “صفة مشبهة باسم الفاعل“.
ومهما يكن حكامنا – فاعلين أو مفعولا بهم – فإنهم يعشقون من النحو العربي باب “التوابع” في مجمله، ولاسيما إذا كان “توكيدا” لذواتهم، أو “عطفا” للجماهير المقهورة عليهم، أو “نعتا” متملقا لهم، يدغدغ كبرياءهم الزائفة، أما التابع الوحيد الذي يكرهونه، فهو “البدل”، عبر التناوب الديمقراطي المشروع قانونيا،والمرفوض –تطبيقيا- من قبلهم، ما لم يكن “بدل اشتمال”، يتجسد في “بدل البعض من الكل”، عبر توريث الأبناء،خلفا للأبناء، والذي لايجوز –أيضا- ما لم يتراء للحاكم”المبدل منه” شبح الموت المحتوم، بعد استنفاذ “الظرف” الزماني”للرئاسة، ومع أن دوام “الحال” من المحال،تظل مباضع التغييرات “المنسوبة” للدستور زورا – تعبث بفترات مأموريات الرؤساء،حتى تجعلها مدى الحياة،موازاة مع دينامية مباضع الجراحة “التجميلية” التي تدمن-عبثا- مقاومة وهن العظم، واشتعال الرأس شيبا، ولكنها لن تستطيع في النهاية أن “تصلح ما أفسده الدهر”، ومن باب أولى لن تستطيع –أيضا– في نهاية النهاية أن تقاوم ملك الموت، (فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون)
ومهما يكن “البدل” و”المبدل منه”، داخل دائرة الحكم العربي من المحيط إلى الخليج، فإن”القضية الزنبورية” ظلت تطرح نفسها باستمرار على بساط البحث النحوي والسياسي معا، حيث كان مثار الخلاف- أصلا- حول إعراب مقولة: “كنت أظن الزنبور أشد لسعا من العقرب، فإذا هو هي، أو إذا هو إياها”، ومع أن الصواب الإعرابي، ربما كان حليف سيبويه شيخ النحاة، فإن قرب الكسائي – منازعه– من البلاط العباسي ألقى بظلاله على رأي الأعرابي الذي حكم في القضية، فرجٍّحَ قوله محاباة، ومات سيبويه – إثر ذلك – غما.
وعلى الرغم من سقوط هذا العالم الكبير ضحية تغلب السياسة – ظلما – على العلم، فإن الأولى ما تزال تمارس تخريبها للثاني،عبر تخريب منطق قواعده العلمية، وتسفيه وتتفيه جدواه العملية،وما يزال “الزنبوروالعقرب”هماالمسموح لهما وحدهما بالتناوب – بدلا ومبدلا منه – على لسعنا، دون أن ندرى حتى الآن أيهما أشد لسعا، إلا أننا متأكدون – حد اليقين – أن لسعهما معا شديد، وبالغ المضاضة.
وهكذا –أيضا – ما تزال جملة:”ضرب زيد عمروا” سارية المفعول فينا. إذ لم ندرج في مقرراتنا الدراسية،عبرإصلاحاتنا التعليمية المتناسخة الفساد والإفساد – مثالا بناء عوضا لهذه الجملة، يكون أكثر مودة وإيجابية،في العلاقة بين الفاعل والمفعول به، وليت الأمر اقتصر على الحرب الداخلية الدائرة –عربيا- بين زيد وعمرو، منذ حرب “البسوس” وأخواتها، فزيد وعمرو معا أصبحا –حيث ما وجدا- هدفا للضرب والنهب والقصف والخطف، من طرف جورج وتوني وبنيامين وباراك… إلى آخر قائمة “الأسماء الناقصة”، فأنتجت سياسة العنف والعنف المضاد هذه “صيغا” “صرفية”،”مشتقة” من “مصادر” الدمار والخراب،مغموسة في الدماء المهدورة، متشحة بلون الحداد المأساوي، فلم يعد مقدموا نشرات الأخبار يمتهنون غير تصريف أفعال، يمكن أن نخترع لها اسم “أفعال التخريب وأخواتها”، مثل: فخخ، وفجر ودمر، وقصف، ونسف،وقتل،وسحل – بكل مشتقاتها اللعينة، عليها نستيقظ، وعليها ننام، وأمام فيضانات هذه الأفعال الفتاكة لم تجد حكوماتنا المحكومة، وشعوبنا المقهورة لمقاومتها سوى تصريف “الأفعال المعتلة”: “الجوفاء” “الناقصة” في دلالتها لا في بنائها، الملجمة ب”حروف المضارعة” البائسة العاجزة، مثل: ندين – نندد- نشجب- نستنكر..
أما”أفعال الأمر”،فماعادت تطاع إلاإذاكانت صادرة من أعلى إلى أسفل،بينما يتصامم عنهاإذا كانت صادرة من الداخل،عبرأصوات العقل والواجب والضمير.
وإذا كانت شاشات الفضائيات قد أقذت أعيننا بمشاهد الخراب الدامي، وهذيانُ الإذاعات قدأصم آذاننا بإدمان ” تصريف أفعال” العنف والعجز معا، فهل يحق لنا أن نستشرف –في آخر النفق المظلم – عبر صور وأصداء الشوارع العربية،التي بدأت تتململ هنا وهناك- مدرسة عربية جديدة، سوف تؤسس لعلاقة أكثر توازنا بين إعراب الأقوال وإعراب الأفعال، وأكثر ترشيدا في تصريف الأقوال والأموال والأحوال، وأكثر ودية وجدية وندية بين الفاعلين والمفعول بهم، بين الحاكمين والمحكومين، حتى يستعيد “الفعل الصحيح” هيمنته على “الفعل المعتل”، وينتصر الجمعان السالمان للمذكر والمؤنث، على “جمع التكسير”، فتكون صيغة “منتهى الجموع” لصالح الجميع،بعدما يعيدجمهور النحاة الجدد ضبط “حركات إعراب” المشهد السياسي،التي طالما عبث بها “اللحن”،في جميع”ظروف الزمان والمكان”،فتصحح بحركات الشوارع المدنية السلمية الحضارية”حركات التصحيح العسكرية”،و”تفتح” موصد أبواب التغييرالإيجابي على مصراعيه،و”تنصب” الموازين القسط للعدالة الحقيقية،و”ترفع” هامات الشرفاء المقهورين،و”يضم” الأحراربعضهم بعضا،بعدطول التفرقة المتعمدة،و”تكسر” أصفاد الطاقات الوطنية المكبوتة من جهة،وخواطروإرادات الطغاة المستبدين من جهة أخرى،و”تجر” كبرياءهم الزائفة في التراب،و”تخفض” قاماتهم المتطاولة إلى الحضيض،وبهذا تسترد اللغة العربية{منطقها}و{سر الفصاحة} و{إعجاز البلاغة}، وتكتشف السياسة أن جذر اشتقاقها –في الأصل – من السَّوْسِ، وليس من التَّسوُّس، فإذا الحرب قد نزع فتيلها ،حين سقط راؤها-عمدا – فالتقى الحاء والباء،{على أمر قد قدر} وأصبحت حبا، واستوت سفينة هذه التداعيات على {الجودي}، بعدما تقاذفتها أمواج طوفان{ تسييس النحو، وتصريف السياسة} ،(وقيل بعدا للقوم الظالمين).