إعداد : الدكتور أحمد ولد نافع
باحث و استاذ جامعي
يهدف هذا البحث إلى استعراض المفهوم الليبرالي للمجتمع المدني بشكل مختصر ، و من أجل ذلك سيدور مدار الموضوع على محاولة الاقتراب من الإجابة علي التساؤلات التالية و إثارة الانتباه إليها :
ما المقصود بالمجتمع المدني . و ماهي مقاربة الليبرالية للمجتمع المدني . و هل هناك مجتمع مدني و مجتمع غير مدني . و لماذا باتت المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة و البنك الدولي تهتم أكثر من ذي قبل بموضوعات ذات صلة بالمجتمع المدني .
شيء من الخلفية
لا يسعني في هذه السانحة إلا أن أحدد ، بشكل عام و دون الدخول في تأصيلات علمية ومنهجية لليبرالية ، أن هذا المفهوم يطلق على الحرية على نحو شمولي ، وهي مشتقة من الليبرالية ، وهو مصدر من كلمة ” liber اللاتينية التي تعني الحر .
و بالرغم من أن قدماء الفلاسفة و المصلحين قد نادوا دائما ، كل في ظروفه ، بالحرية و نشدوها ، ومنهم من قدم حياته ثمنا لها ، إلا أن الفلسفة الليبرالية ، بامتداداتها الحالية ، قد تبلورت – على الأقل – منذ عصر الأنوار و ما أدى إليه من ثورات رفعت شعارات الحرية “ الليبرالية ” و الأخوة و المساواة ، على النحو الذي فعلت الثورة الفرنسية الشهيرة بوضوح لا يقبل التأويل .
و حجر الزاوية في الليبرالية أن الفرد يجب أن يعيش حرا طليقا من القيود و الأغلال مهما كانت ، و ربما ذلك ما جعل الفردانية أو الفردية تطلق لدي البعض أحيانا كمرادف لليبرالية . ويتأسس على ذلك أن تكون اختيارات الإنسان ، أي إنسان ، حرة وفقا لرؤيته و قناعاته الفكرية . و حين يتحرر الأفراد ، الذين محصلتهم جميعا هي المجتمع ، يكون هذا الأخير مجتمعا حرا وسعيدا ، وذلك هو الهدف الأساس .
ويؤكد أغلب فلاسفة و منظرو الليبرالية على تلك المضامين حتى ولو تعددت مداخلهم التحليلية من فيلسوف إلى آخر ، فمثلا توماس هوبز (1588 – 1679) صاحب مفهوم الحق الطبيعي كان سلطوي النزعة غير أن فلسفته الاجتماعية تأسست على حق الحرية والاختيار . أما جون لوك (1632 – 1704) و هو فيلسوف تجريبي ، فقد كان ديموقراطي النزعة، ولكن ذلك أيضاً كان نابعاً من حق الحرية والاختيار . بينما كان جيرمي بنتام 1748 – 1832 صاحب نزعة نفعية ” براغماتية ” ، بحكم قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولى ، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة في النهاية.. و هكذا دواليك مع أشباههم و نظرائهم من الفلاسفة الآخرين منذ هيغل و ماركس الى آليكس دي توكفيل و غابرييل آلموند و سيدني فيربا .
و يعتبر هذا هو المهاد الفكري للطرح الليبرالي ، الذي نشأ في المجتمعات الأوروبية بعد انهيار الإقطاع و تأسيس الدولة الوطنية و سيادة الرأسمالية ، منذ القرن السادس عشر الميلادي على الأقل .
ما المجتمع المدني ؟
لقد حاول الكثيرون ، كل من خلال حقله الاختصاصي ، أن يقدموا محاولة تعريفية لمفهوم المجتمع المدني ، سواء من خلال خصائصه ، أو الدور المنوط به .
فهناك من عرفه «إنّه المجتمع الّذي يقوم على المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة ; لتحقيق أغراض متعدِّدة …»[1].
و يرتكز – بحسب البعض – على الأبعاد التالية[2] :
1 ـ في المجال الاقتصادي يعتمد على حرِّيّة السوق .
2 ـ وفي المجال السـياسي يقوم على أساس استمداد السّلطة من إرادة الشّعب ( النظرية النيايبية التمثيلية ) .
3 ـ إنّ مفهوم المواطنة يحدِّده القانون الّذي يضعه البرلمان .
ويُعرِّف آخرون المجتمع المدنيّ بأ نّه المجتمع الّذي يتلاشى فيه دور السّلطة إلى المستوى الّذي يتقدّم فيه دور المجتمع على دور الدولة ، بل ويذهب فريق آخر إلى اعتبار السّلطة وجوداً معارضاً ومواجهاً لوجود الدولة ; لذا يجب تقليص دورها ليسود دور المجتمع .
ويُركِّز الّذين كتبوا عن المجتمع المدنيّ أنّ هذا المجتمع هو الوجود الثالث بين الفرد والدّولة ، بين الفلسفة الفردية التي تعطي مجالاً غير محدود للفرد ، وبين نظريّة سيطرة الدولة ، واتِّساع سلطتها ونشاطها .
وعُرِّف المجتمع المدني أيضاً بأ نّه : «مجموعة التنظيمات التطوّعيّة الحرّة التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السّليمة للتنوّع الخلّاق» ..
«وعُرِّف المجتمع بأ نّه ميدان وحيِّز يتكوّن من فعاليّة أناس يتمتّعون بحرِّيّة الانتخاب ، ويمارسون هذه الحرِّيّة في إطار القانون والقواعد العامّة ، وبشكل مستقل عن إرادة وقرار السّلطة السياسية أو الحاكم».
اما مدرسة لندن التابعة للمركز الاقتصادي للمجتمع المدني : يشير الى ان المجتمع المدني هو ميدان العمل الجماعي غير الاجباري، المتعلق بالمصالح والاغراض والقيم المشتركة. ونظريا، فان اشكاله المؤسساتية تختلف عن تلك التابعة للدولة والعائلة والسوق. مع ان الحدود التطبيقية الفاصلة بين الدولة والمجتمع المدني والعائلة والسوق معقدة وغير واضحة المعالم وخاضعة للنقاش في اغلبها .
وعرّف آخرون المجتمع المدنيّ بأ نّه : «كلّ المؤسّسـات التي تنتج للأفراد التمكّن من الخيرات والمنافع العامّة ، دون تدخّل ، أو توسّط من الحكومة»[3].
وعُرِّف أيضاً بما يأتي : «المجتمع المدنيّ هو النّسق السياسي المتطوِّر الّذي تتيح صيرورة تمأسسه (تمفصله في مؤسّسات) مراقبة المشاركة السياسية».
بينما يري الدكتور رجب بودبوس أنه في الأصل ، المجتمع المدني هو مجتمع بشر ، وقد خرجوا من الحالية البدائية الطبيعية، حيث لم يكن فيها للإنسان دور كبير ، إلى الحالة الإنسانية ، أي صار المجتمع تنظيما إنسانيا ، وضعيا ، ليس فيه للطبيعة دور مهم . وهو هكذا يشمل ويستوعب كل العلاقات والنظم والمؤسسات التي تنشأ بين أفراد المجتمع ، عن وعي وقصد واتفاق ، بما في ذلك وعلى الأخص العلاقات السياسية والقانونية ، المجتمع المدني على هذا النحو أساساً سياسي ، والدولة من أهم ظواهره ، وإذا كان المجتمع المدني ، في مدلوله ، أوسع وأشمل من الدولة ، المعروفة حتى الآن ، بمعنى أنه لا يقتصر على العلاقات السياسية والمؤسسات الرسمية ويعطي لمبادرات الأفراد إمكانية التعبير عن نفسها، إلا أن الدولة جزء مهم من المجتمع المدني ، الذي يتعلق بمجموع مواطني الدولة الواحدة ، وما ينشأ بينهم من علاقات ليست فقط سياسية ، وغير ذات سمة رسمية[1][2].
وقد بلغت مفردة ” المجتمع المدني ” من الذيوع و الانتشار حدا باتت فيه ملتبسة في أذهان الكثيرين ، حيث قال الاستاذ آدم سليجمان ، أستاذ في قسم الأديان ، في جامعة بوسطن الأمريكية و مؤلف كتاب عن فكرة المجتمع المدني ، إذا أردت أن تشرح شيئا غامضا ضعه تحت مفهوم المجتمع المدني !
لهذا ليس غريبا أن ترى الأمم المتحدة و البنك الدولي في بعض تقاريرهما المتفائلة ان ” المجتمع المدني ” قد يكون الحل السحري للرشادة و الحكم الصالح و القضاء على الفقر و التخلف ، بل إن فكرة المجتمع المدني كانت ملهمة للمحافظين الجدد و حلفائهم ليشنوا الحرب في العراق و افغانستان حسب مايكل أدواردز مدير مؤسسة فورد الأمريكية و صاحب كتاب متداول عن المجتمع المدني[4].
أدوار المجتمع المدني … بين الثبات و التغير
لقد تمت الإشارة إلى أن ظهور مفهوم “المجتمع المدني” كان متزامنا مع نشوء الدولة القومية ونمو الرأسمالية التجارية الماركانتالية ، وتمحور، آنذاك، حول مفهوم “المجتمع البرجوازي ” كما عند (هيجل وماركس). لكنه المفهوم اكتسب مدلولات جديدة مع تطور الدولة الحديثة، والتحولات في النظام الدولي، وتأثيرات العولمة الاقتصادية (الرأسمالية) والثورة في الاتصالات ونظم المعلومات. واكتسب المفهوم بعدا أيديولوجيا لربطه بالحركات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، في عقد الثمانينات، والتي توجهت نحو تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد والتشكيلات السياسية والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات النقابية والمهنية.[5]
وقد فصلت الدولة ، من خلال فلسفة الليبرالية ، منذ نشأتها ، بين المواطن والعامل ، المواطن اختصاص الدولة بينما العامل اختصاص مجتمع السوق ، بالرغم من أن المواطن هو العامل واليوم تميزت الازدواجية في المواطن نفسه ، الذي ينقسم إلى مواطن سياسي ، وهو مجال الدولة ، ومواطن مدني ، عضو المجتمع المدني .
إن ظهور المجتمع المدني ، في مفهومه الجديد يشترط[3] :
1- أن الدولة لا تكون شمولية ، أي لا تشمل كل العلاقات التي تنشأ بين أفراد المجتمع –المواطنين .
2- أن يقتصر مجال الدولة ومؤسساتها على العلاقات السياسية وحدها .
3- أن مشاركة المواطنين في المجتمع السياسي تكون محدودة نوعاً ومحددة زمناً ، تقتصر على انتخاب قيادات الدولة وتفويضهم .
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفيتي منح المفهوم بعدا “تنمويا” من خلال منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد باتت هذه تنظر إلى “المجتمع المدني” باعتباره المجال الذي يتيح إشراك المواطنين في “التنمية البشرية المستدامة“ بعد أن فشلت التنمية في التحقق في معظم دول العالم الثالث. وكان الدافع وراء إعطاء موقع خاص للمجتمع المدني في عملية “التنمية البشرية” تبني سياسة الخصخصة و”التكييف الهيكلي” – في إطار سيادة اقتصاد السوق – باعتبارها الأنجع للتنمية الاقتصادية. ومنح هذا بعدا جديدا لمفهوم “المجتمع المدني”. فهذه السياسية التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية، وخطاب “اللبرالية الجديدة” ركزت على حصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساسية، مع توفير حد أدنى، من المشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني، من الرعاية الاجتماعية لأفقر الفقراء (ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية). ودخلت لاحقا مفردات جديدة على خطاب التنمية خصت بالأساس منظمات المجتمع المدني كالمشاركة والتمكين. لقد منح المجتمع المدني وظيفة حماية الفرد من عسف الدولة وسطوتها. أي منح بعدا واقيا وحاميا للفرد من تدخلات الدولة وتجاوزاتها[6].
وبات دور المجتمع المدني متغيرا على الدوام في الأدبيات التنموية تولي وظيفة باتت شاغرة بعد انسحاب الدولة عن مهمة الاستجابة لاشباع الحاجات الأساسية للمواطنين، بحكم عمليات الخصخصة وسياسة “التكييف البنيوي” وأيديولوجية الليبرالية الجديدة. هذا هو مصدر الحرص على استقلالية “منظمات المجتمع المدني” عن الدولة وعن القطاع الخاص باعتبارها تشكيلات لا تقوم على مبدأ الربح. وهذا هو أساس التعاطي معها كآليات لتوزيع وتخصيص موارد في المجتمع مختلفة ومستقلة عن كل من الدولة ومؤسسات اقتصاد السوق. وهو سر التركيز على دعم المنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات (صحية، وزراعية، وتدريبية وما شابهها)، والاهتمام بالمنظمات الدعاوية المتوجهة إلى التثقيف بالديمقراطية وحقوق الإنسان, وهو سبب إغفال منظمات المجتمع المدني المهتمة بتنظيم الناس وتأطيرهم كالأحزاب السياسية، والنقابات والحركات الاجتماعية ذات الجذور. وهو وراء اختزال المجتمع المدني إلى منظمات غير حكومية يرمز لها بـ ONG . ، التي حرصت المؤسسات التمويلية الدولية ” كالبنك الدولي” أن تنفذ بعض حزم ما يسمى برامج الاصلاح الاقتصادي الهيكلي من خلالها ، وهو ما ساهم عمليا في هذا التوالد و التكاثر للجمعيات و المنظمات غير الحكومية في دول العجز الاقتصادي العالم ثالثية التي فهمت اللعبة تماما وباتت تحرص على الترخيص بالآلاف أحيانا لمنح أوصال ا لاعتراف بهذه المنظمات للإيحاء بوجود مجتمع مدني قوي و نشيط فيها على غرار الحال في مجتمعات الدول المتقدمة ، وهكذا تزايدت هذه المنظمات كالفطريات دون ضوابط جدية و حاجات اجتماعية حقيقية ، فأصبحت هي في ذاتها جزء من المشكلة و ليست عاملا مساعدا على الحل .
و ربما ما يميز منظمات المجتمع المدني ، بشكل عام أو هكذا يفترض بحسب أحوال المجتمع المدني في الغرب ، عن مؤسسات الدولة أو مؤسسات اقتصاد السوق (شركات، مصانع، ورش، بنوك، مطاعم، مشاريع خدماتية مختلفة، وما شابه هو طبيعة العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. وهي علاقة تفترض امتلاك هذه المنظمات ليس مجرد درجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها وفي صياغة خططها ونشاطاتها وفي محرك علاقتها مع الجمهور (فهذه الاستقلالية قد تكون متوفرة في مؤسسات القطاعين الخاص والعام)، بل تتمايز في شكل ومضمون العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. ولا تتعامل معه من موقع العلاقة بين المؤسسة والفرد وفق إجراءات وقوانين وقواعد مقننة (كما يفترض أن تتعامل معه الدولة). بل تتعامل معه بالأساس كجمهور مكون من فئات متباينة المصالح والاهتمامات والاحتياجات والتكوين (من حيث الجنس والعمر)، من موقع تمثيل هذه المصالح ، ومن موقع الحرص على إشراك الجمهور في تنظيم نفسه وفي الدفاع عن حقوقه الجمهور ورعاية احتياجاته الخاصة..
ويشرّع استقلالية المنظمات المدنية في إدارة شؤونها الداخلية وصياغة برامجها وخطط عملها القوانين مشرّعة. وهذه القوانين تحددها موازين قوى اجتماعية وسياسية، وتتأثر بعوامل إقليمية ودولية. ويحدد مضمونها وتطبيقاتها كقوانين حامية للحريات العامة ديمقراطية النظام السياسي، والقوة التفاوضية لمنظمات المجتمع المدني الرئيسة، والتي تحددها فعالية واتساع القاعدة الجماهيرية لهذه المنظمات وطبيعة العلاقة التي تقيمها معها (قدرتها التعبوية). فبعض منظمات المجتمع المدني – في مجال العمل السياسي الحزبي، على سبيل المثال – قد يحظر عليه النشاط العلني. وفي هذه الحالة يتحدد تأثير مثل هذه المنظمات وفعاليتها بمدى تأييدها ودعمها من الجمهور، ودرجة القمع الذي تتعرض له من السلطة المركزية أو السلطة المهيمنة (وطنية كانت أم أجنبية). ومن الواضح أن قدرة منظمات المجتمع المدني على التواصل والتجدد مرتبطة، من بين عوامل أخرى، بقدرتها على تلبية حاجات وتطلعات اجتماعية وبقدرتها على تمثيل مصالح فئات اجتماعية ودورها التعبوي والتنظيمي.كما تتصل بقدرتها على حشد الموارد الضرورية لمواصلة وتوسيع نشاطها. ويمكن القول أن منظمات المجتمع المدني تستمد مبرر وجودها وشرعيتها، بالأساس،من علاقتها الخاصة بجمهورها وعلاقته بها، وشكل هذه العلاقة التي قد تستند إلى ما توفره من خدمات مادية أو تأهيلية، أو إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية في الدفاع عن حقوق ومصالح هذا الجمهور، وإلى فعالية نشاطها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو الثقافي.
من هنا يمكن القول أن ما يميز، وإن بشكل عام جدا، منظمات المجتمع المدني، بتنوعها الشديد، عن مؤسسات الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) يتمحور حول طبيعة نشاطها، وما يفرزه من أنماط تنظيمية متنوعة. فالعلاقة بين المواطن والدولة الوطنية العصرية هي علاقة تعاقدية، مقننة، عادة، في دستور أو قوانين أساسية، تتجسد في واجبات محددة (دفع ضرائب، خدمة وطنية، احترام القانون…). كما تتجسد في حقوق (حق التنظيم والتعبير عن الرأي والمعتقد، والوصول إلى خدمات أساسية، الخ).
وتتمايز علاقات المنظمات المدنية مع الجمهور عن علاقته بالمؤسسات الاقتصادية والمالية المرتبطة بآليات السوق الرأسمالي والقائمة على الربح وإنتاج سلع وخدمات مختلفة موجهة للسوق، فهذه المؤسسات (مؤسسات القطاع الخاص) تتعامل معه كمستهلك أو كموظف أو أجير، أو في أحسن الأحوال كمستثمر. فمحرك عمل وهدف منظمات المجتمع المدني ليس الربح أو تطوير آليات السوق الرأسمالي. فهو محرك يتحدد وفق تنوع منظمات المجتمع المدني (عمل الخير، الإغاثة، التنمية، التأهيل، التنوير، الرعاية، التضامن الاجتماعي، التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي …). أي أن مجالات منظمات المجتمع المدني هي تلك المجالات التي لا تخضع لإدارة وتوجيه مؤسسات الدولة وتنظيمها، وتعتمد إدارات مستقلة يخضع دورها وأشخاصها وبرامجها وخططها، نظريا على الأقل، لموافقة وتوجهات ومساءلة الأعضاء والجمهور المعني. كما لا تخضع نشاطاتها لاعتبارات وآليات السوق، وإن كانت غير معزولة عنه. ولعل هذا الاعتبار كان وراء اعتبار المجتمع المدني، عند مفكرين مثل غرامشي، المجال الذي يجري فيه الصراع على الهيمنة القائمة على الاقتناع وليس على السيطرة.
يمكن النظر إلى منظمات المجتمع المدني (والأهلي) من منظور وظائفي. أي من حيث ما قد توفره من حماية إزاء تعسف أو تجاوزات السلطة المركزية، وكذلك إزاء ما تفرزه آليات السوق الرأسمالي من استثناء ولامساواة وتهميش. لكن من وظائف منظمات المجتمع المدني أن توفر الحماية للفرد ضد عسف أو قمع أو تجاوزات بعضها البعض بما في ذلك تعسف المنظمات الأرثية (العشائرية والطائفية والمحلية). وتجدر الإشارة هنا أن من وظائف الدولة الديمقراطية توفير الحماية للمواطن من تجاوزات لحقوقه قد تقوم بعض منظمات المجتمع المدني أو الأهلي.
لقد تنامي الاهتمام بالمنظمات المدنية باعتبارها وسائط للتنمية في العقدين السابقين . وترافق ظهور هذه توجه المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ..) نحو الخصخصة، والتكييف الهيكلي وتقليص دور الدولة الاقتصادي في إطار تهيئة المناخ ا لنمو القطاع الخاص، وتقليص خدمات الدولة الاجتماعية للمواطنين. ومن هنا بات ينظر إلى المنظمات الأهلية كوسائط للتنمية المحلية وتولي وظائف “دولة الرعاية”في مجال توفير خدمات أساسية للمواطنين. وتم تسويغ هذا التوجه عبر مقولة أن حرية تشكيل منظمات مدنية هي صلب حقوق الإنسان. واعتبار أن هذا الحق يتجسد في تشكيل الروابط والمنظمات والمؤسسات الهادفة إلى تحسين مستويات المعيشة، والمطالبة بتنفيذ برامج وخطط وقوانين معينة، والدفاع عن مصالح وحقوق الفئات الاجتماعية المختلفة. ومن هنا فكرة مشاركة الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ( القطاعات الثلاثة) في عمليات التنمية. ونجد في هذه التوجهات تفسير الاهتمام الدولي (الغربي الحكومي والمدني المحلي) في تشجيع وتمويل العديد من المنظمات غير الحكومية في دول العالم الثالث، بما فيها العالم العربي، باعتبارها أقل عرضة للفساد والهدر من المؤسسات الحكومية وأقدر على الضغط على هذه ومراقبتها. ويترتب على التمويل الخارجي لقطاع من المنظمات المدنية تساؤلات تتعلق بتأثير “أجندا” الجهات المانحة على برامج المنظمات المدنية المستقبلة، كما على قدرتها على إدامة نفسها، وعلى التمتع باستقلالية برنامجية ومالية.
يعمل البنك الدولي على تعزيز مشاركته مع المجتمع المدني منذ عام 1981، عندما اعتمد مجلس مديريه التنفيذيين أول مذكرة لسياسة العمليات بشأن العلاقات مع المنظمات غير الحكومية. وفي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، قامت منظماتٌ دوليةٌ غيرُ حكوميةٍ بارزةٌ بالاشتراك مع البنكُ الدولي بإنشاء “لجنة المنظمات غير الحكومية والبنك الدولي”، التي عقدت اجتماعات دورية لمناقشة سياسات البنك الدولي وبرامجه ومشروعاته. ومنذ ذلك الحين، أعد البنك الدولي العديد من الدراسات، وشجع الحواراتِ المشتركةَ فيما بينه وبين المجتمع المدني، واعتمد سياساتٍ موجهة نحو تشجيع زيادة المشاركة[7].
هذا التركيز الأكبر على الحاجة إلى التواصل مع المجتمع المدني انعكس فيما لا يقل عن 15 من سياسات عمليات البنك أو المنشورات التوجيهية للموظفين مثل المرجع الأساسي للتشاور مع المجتمع المدني*، وإطار التنمية الشامل (CDF)، وعمليات إعداد وثيقة استراتيجية تخفيض أعداد الفقراء (PRSP)*. كما أن فوائد التعاون مع منظمات المجتمع المدني يساندها أيضا عدد من دراسات البنك على مدى السنوات العشر الماضية وفي عهد أقرب دراسة القضايا والخيارات الخاصة بتحسين التعاون بين البنك الدولي ومنظمات المجتمع المدني – التعاون بين البنك الدولي والمجتمع المدني: استعراض السنتين الماليتين 2005-2006.
وقد تعززت علاقات البنك الدولي بالمجتمع المدني من حيث نطاقها ونوعيتها بدرجة كبيرة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وذلك مع اعتماد خطط عمل لإتاحة المشاركة في عمليات البنك الدولي على مستوى مناطق عمله والتعاقد مع أخصائيين في شؤون المجتمع المدني للعمل في مكاتب البنك الدولي في أنحاء العالم. ومنذ ذلك الحين، تحققت زيادةٌ كبيرة في مستوى التفاعل والتعاون بين البنك الدولي ومجموعة واسعةٍ النطاق من منظمات المجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك فئات المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، والمنظمات الدينية، والرابطات المهنية، والجامعات.
وانعكاساً لهذا التقدير المتزايد لدور المجتمع المدني في عملية التنمية ، ارتفعت نسبة المشاركة المخططة لمنظمات المجتمع المدني في المشروعات التي يمولها البنك الدولي باطراد على مدى سنوات العقد المنصرم، وذلك من 21% من إجمالي المشروعات في السنة المالية 1990 إلى ما يُقدر بنحو 72% في السنة المالية 2003. وبما أن منظمات المجتمع المدني أصبحت جهاتٍ تتمتع بقدر أكبر من النفوذ في السياسات العامة وجهود التنمية، فإن المبرر المنطقي لإستراتيجية البنك الدولي الرامية إلى إشراك المجتمع المدني ما زال يزداد قوة، وأصبحت تلك المشاركة من الأمور المتعارف عليها كجزءٍ لا يتجزأ من أية إستراتيجية مؤسسية فعالة لتخفيض أعداد الفقراء وتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة [4] .
ويعني ذلك أن المجتمع المدني أصبح من ضمن وسائل تنفيذ السياسات الكونية لمؤسسات بريتون وودز ، لهذا لا غرو أن يفسح المجال أمام الشعارات الجميلة المبشرة بفعالية و قوة المجتمع المدني في مستقبل التنمية في البلدان النامية .
و تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المدني في الدول الغربية ظل يموج بحراك غير مسبوق في مواجهة اتفاقيات التجارة الدولية و قد سبب إرباكا شديدا لاجتماعات الكبار في سياتل و جنوة و دافوس و أماكن أخري عديدة ، و اصبح مصدر قلق دائم نظرا لقوة المجتمع المدني العالمي ( و الغربي منه بالأساس) حيث يطرح مشاكل البيئة و الاحتباس الحراري و مسوؤلية الاقتصادات الكبيرة عن ذلك كله ، وضرورة تحمل المسؤولية التاريخية عن ذلك و تعويض البشرية عن الأضرار التي لحقت بالوسط البيئي الذي بات مهددا في وكل وقت وحين جراء تلك السياسات التدميرية الشاملة .
و في الختام ،،
فإن المفهوم الليبرالي للمجتمع المدني يراد له التعميم على مستوي العالم ، ربما بعد نهاية التاريخ ، و لهذا يتم تجنيد البنك الدولي و باقي المؤسسات الأخري للترويج له ضمن برامج و سياسات تحمل سمات عالمية ، و بالطبع فإن دول العالم النامي يراد لها أن تستنبت فكرة المجتمع المدني لديها بالرغم من ظروفها الموسومة بالتخلف و من ملامحه ضعف التعليم أو انتشار الأمية سواء كانت الأمية متمثلة في عدم القدرة على القراءة و الكتابة أو الأمية المتصلة بالمعرفة والإدراك ، و باتت تقارير التنمية البشرية تدرج المجتمع المدني ضمن رؤيتها للمشكلة و الحل .. فهل من معترض على المفهوم الليبرالي للمجتمع المدني أم لا .
[1] From Wikipedia, the free encyclopedia
[2] Op.cit
[4] Michael Edwards :”Civil Society cover CIVIL SOCIETY. Polity Press 2004 p 15
[5] جميل هلال :” حول اشكاليات مفهوم المجتمع المدني ” ، مداخلة في ندوة عن المجتمع المدني في بيروت لبنان – نوفمبر 2004 http://www.boell-meo.org/ar/web/219.html
[6] Jean joseph regent note introductive de societe civile “ juin 3005 article publier sur le net :
[7] //web.worldbank.org/WBSITE/EXTERNAL/EXTARABICHOME/EXTTOPICSARABIC/EXTCSOARABIC/
[1] رجب بودبوس : المجتمع المدني لماذا ، محاضرة في المركز العالمي لدراسات و أبحاث الكتاب الأخضر في 19-01-2004 طرابلس
[3] المرجع نفسه