ولأن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أصبح من أخطر أذرع القاعد في العالم بأسره، حيث أكدت معلومات إستخباراتية أمريكية، تضاعف عملياتها 510% ،ليكون هو الطعم الذي دفع أعداء القاعدة التقليديين، إلى الصيد في مياه موريتانيا العكرة، بالإضافة إلى التحالف العالمي لمكافحة الإرهاب الإسلامي، دون غيره من صنوف الإرهاب المنتشرة بدورها في منطقة شمال إفريقيا.
فقد كانت قبرص في فترة الحرب البارد نقطة جغرافية ذات أهمية أمنية إستراتيجية ، لموقعها في المنتصف بين آسيا وأوربا الشرقية و الغربية ،و هي نقطة نزاع بين تركيا و اليونان، و يحكمها نظام مزعزع هش البنية فاقد للشرعية الدستورية ،هذه العوامل و أخرى جذبت أجهزت الاستخبارات العالمية إلى المنطقة، فلا غرابة في إسقاط هذا الواقع على موريتانيا في هذه الأيام، و التي تشهد سباق استخباراتي منقطع النظير بين القوى العالمية، لاستخدامها كمحطة معلومات أكثر دقة حول نشاطات القاعدة ، و تقص الأخبار عن عناصر الدول الغربية المحتجزة في شمال مالي.
فموريتانيا هي البوابة الكبرى المفتوحة بمصراعيها على إفريقيا السمراء ،وهي المنكب القصي من الوطن العربي ،و الحلقة الأضعف أمنياً بين دول المغرب العربي، و الرقعة الجغرافية الأكثر تصحراً و قسوة ،و الأقل رقابة و الأكثر تسيباً ،هذه المعطيات و غيرها رشحت موريتانيا ،أن تكون قبرص إفريقيا في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
فالجمهورية الفرنسية مثلاً ،لها عمقها الإستراتيجي والتاريخي في المنطقة منذ أيام الانتداب، وتنظر إلى دول المنطقة كعون إستراتيجي لها في حربها المعلنة على القاعدة في المغرب الإسلامي، و قد خصصت المخابرات الخارجية الفرنسية DGSEخلية بأكملها للعمل في المثلث الوعر،” الجزائر و مالي و موريتانيا” و سمتها ” الحرباء ” ،حيث ينتحل عناصر هذه المجموع الهوية حسب المنطقة و المهمة، مثل شخصية الطبيب و الناشط في مجال العمل الخيري، و الباحث في مجال الأنتربولوجيا، و تتعامل هذه الخلية مع عملاء سريين، ينتشرون على خط التماس مع المناطق التي تسيطر عليها جماعات التهريب و تنظيم القاعدة، و تستخدم هذه المجموع خرائط تيبوغرافية دقيقة تحدد مناطق نفوذ هذه الجماعات، و تتنقل فرق الاستخباراتDGSE في قوافل إغاثة أو في مجموعات ضمن قوافل السياح ،لتنقل المعلومات المتحصل عليها من عين المكان عبر الأقمار الاصطناعية مباشرة.
وقد أوصى مدير الإستخبارت الإسرائيلية السابق “أفرايم هالقي” ،بنقل المكتب المركزي للموساد من جمهورية وسط إفريقيا إلى موريتانيا، لأهمية موقعها الإستراتيجي ،و ضعف بنيتها الإستخباراتية.
هذا الإهتمام الزائد بموريتانيا و دول الساحل بشكل عام، أكدته التقارير الإستخباراتية الدولية،، و بالخصوص الأمريكية حيث إهتمت مؤسسة راند بموريتانيا بصفتها مبيض خصب لإنتاج الفكر السلفي الجهادي، و مصدر للكادر العلمي الشرعي الذي تعتمد عليه القاعدة و الجماعات الجهادية في تأصيل و تبرير الأعمال القتالية ،التي تقوم بها ضد الأهداف الأجنبية و الحكومات الإسلامية الموالية للغرب حسب التقرير، ناهيك عن معلومات عن وجود سجون سرية ،حيث قال الصحفي الأمريكي “سيمور هيرش”، إن ضابطا سابقا في الاستخبارات المركزية ،أخبره عن وجود سجن سري في موريتانيا، تديره الوكالة ويحوي 39 معتقلا. ،حسب المصدر، فمن الصعب تحديد هويات المعتقلين و جنسياتهم.
و رغم كل ذلك تبقى توصيات راند هي الأهم , فقد تأسست هذه المؤسسة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ،في ديسمبر 1945، وتسعى من خلال الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية ،إلى الدفاع عن وحماية “الأمن القومي الأمريكي”، و قد حددت مؤسسة راند في الدراسة الأخيرة لها، الإسلام المعتدل بأربعة عناصر رئيسية، أو معايير أساسية : 1- تشجيع و تأييد الديمقراطية و حقوق الإنسان المعترف بها دوليا (بما فيها المساواة بين الجنسين و حرية العبادة ) 2-احترام التنوع السياسي و الديني و الثقافي ………إلخ 3-القبول بمصدر للقوانين غير قائم على أسس طائفية 4- و معارضة الإرهاب و أي شكل أخر من أشكال العنف (صفحة 66).
وهو ما أنعكس بصورة ملحوظة على الساحة العلمية الموريتانية، حيث تم تجنيدها عن بكرة أبيها ،من علماء و أمة مساجد و طلبة علم، بالإضافة إلى وزارة التوجيه الإسلامي للوقوف في وجه هذا الكادر الشرعي، من أبناء القاعدة، وقد سخرت لهم الدولة الموريتانية بالتعاون مع شركائها في الحرب على الإرهاب، كل الإمكانيات المادية و البشرية للقيام بالمهمة على أكمل وجه ،و كانت البداية بالحوار مع السجناء السلفيين في السجن المركزي بنواكشوط ، و الذي حظي بتغطية إعلامية مميزة ،و أعلنت اللجنة القائمة على الحوار عن نجاح التجربة، ليثبت للرأي العام العكس بعد ذلك، ثم نظمت الحكومة مؤتمراً دولي حول الوسطية، شارك فيه السواد الأعظم من العلماء و المفكرين الإسلاميين، في الداخل و الخارج.
و كان ذلك أيضاً من وحي الاستخبارات الأمريكية عملاً بتوصيات مؤسسة راند ،و التي تعتبر أن أساليب الحرب القادمة مع السلفية الجهادية هي أساليب غير تقليدية، من خلال تجنيد العقول للمواجهة الفكرية مع القاعدة، في سباق لكسب الرأي العام المسلم ،و الحانق على الوضعية الدولة ،التي يراها استخدمت لسلبه الحرية و تدنيس مقدساته ،إلا أن عناصر القاعدة في الطرف الآخر من الخندق، يغزون الموقع الإلكترونية بالمؤلفات ،للرد على بيانات المؤتمرات و توصياتها ، والحفاظ على صورتها سليمة عند أنصارها و المتعاطفين معها، كما فعل “أبو المنذر الشنقيطي” في كتاب له تحت عنوان “الانتصار للسجناء الأبرار في فتنة الحوار” ردا على الشيخ محمد الحسن ولد الددو,يالإضافة إلى كتاب الشيخ :أبو طلحة الشنقيطي” الصادر تحت عنوان “التبيان في وجوب قتال جيش موريتان”
ويؤكد الخبراء في مكافحة الإرهاب ،أن الحوار الذي أجرته موريتانيا مع سجناء التيار السلفي ،كان مبادرة من الأمريكيين لدعم إستراتيجيتهم الجديدة في الحرب على الإرهاب، و كذلك امتناع موريتانيا والجزائر عن قبول عملية تبادل الأسري السلفيين بالمختطفين الغربيين، و تأزم العلاقات المالية الموريتانية هي تداعيات صراع استخباراتي ،بين الولايات المتحدة الأمريكية و الجمهورية الفرنسية ليس إلا، فموريتانيا لن تفرج إلا عن من أفرجت عنهم أمريكا، بإعطائها الضوء الأخضر لأي خطوة في هذا المجال.
أما المخابرات المغربية فقد اخترقت جميع مكونات الدولة. إلى درجة أن من الصعب تحديد مجال عملها .ومن جندت لحسابها من الساسة و العسكريين على حد السواء. فلها اليد الطولى في نجاح الكثير من العمليات الإستخباراتية ضد الإسلاميين .بالإضافة إلى تزويد أمن الدولة بالمعلومات الإستباقية، كما أنها تقوم بتدريب الضباط في الاستخبارات الموريتانية، رغم الإيمان القوي لدى معظم عناصر المخابرات المغربية، بأن موريتانيا يجب أن ترجع يوم ما إلى حضن المملكة المغربية، حالها حال جمهورية الصحراء الغربية و تيندوف و بشار في الجزائر، وقد صرح بذلك أحد النواب الموريتانيين حين طالب بقطع العلاقات مع الصحراء المغربية حسب و صفه، و هو ما يظهر تقارباً مشبوه بين موريتانيا و المغرب ،يخدش في هيبة وسيادة موريتانيا حسب رأي البعض، ناهيك عن قيادات في الدولة الموريتاني حالياً توصف بالموالية للملكة الغربية، بل و بالمغربية الجنسية و المولد ،و هو ما أثار حساسيات المواطن الموريتاني القديمة اتجاه المغرب.
المخابرات الجزائرية بدورها لم تنس نصيبها من الكعكة، فهي في تنافس محتدم مع المغرب على مراكز النفوذ في موريتانيا وقد تسرب الجهاز الإستخباراتي الجزائري في الستينات، إلى كل مفاصل الدولة الموريتانية (اقتصاد،جيش،تعليم،استخبارات…الخ) إلى درجة اعتبرت من طرف الرئيس الجزائري هواري بومدين “ولاية من الولايات الجزائرية” و أعتبر “ المختار ولد داده ما هو إلا حاكم تحت الوصاية الجزائرية” (un vice-président)، حسب تصريح قدمه المرحوم الرئيس الموريتاني ولد داده ،في مقابلة لجريدة لومند الفرنسية سنة 1978، وتعتبر العلاقات الجزائرية الموريتانية في تحسن مستمر منذ الانقلاب على الرئيس السابق معاوية ولد الطايع. ليقوم الرئيس المنقلب العقيد أعل ولد محمد فال بزيارة للجزائر و فوصفت حينها بالبناءة .
حالة دفعت بالمراقبين للشأن العام، أن يعيد النظر في الدور الحقيقي الذي تلعبه الدولة الموريتانية في المنطقة ،و مدى فعاليته و مردود الاستمرارية في هذا الدور، على المدى المتوسط و البعيد، أم ستظل موريتانيا مجرد بيدق بين البيادق،على رقعة شطرنج موضوعة بين أيادي القوى العالمية والإقليمية، تحركها إلى حيث تشاء، مسلوبة الإرادة و الذات، و لا هم لها سوى الصراع الداخلي على السلطة، بين معارضة و موالاة ،في دولة لم يعرف السواد الأكثر من شعبها طعم المعارضة يوماً، ليذوق الذل و الهوان إثر موالاته الدائمة و العمياء لأهل السلطة ؟
بل و قادت هذه الحالة من عدم الخبرة في تعبئة الشعب لمواجهة السلطة الفاسدة، من أجل تغيير واقع البلاد بالطرق الشرعية المعهود في العالم، أرغمت المدنيين العسكر إلى سلسلة من الانقلابات المتكررة، دفعت موريتانيا إلى التقوقع على نفسها، و ترك الساحة الدولية فارغة للعدو و الصديق إن وجد ،لتزداد تأثيراتها الجيوستراتيجية ، و لأن زيارة رئيس الجمهورية الحالي محمد ولد عبد العزيز على سبيل المثال، لدول الممانعة جميعها، في الوقت الذي تعيش فيه البلاد حالة من المجاعة و النقص في المواد الغذائية ، التي لا مصدر تكملة هذا النقص إلا بالتمويلات المعهودة من الدول المانح، أوحى إلى العالم أن الرئيس الموريتاني مكلف بمهمة من جهة ما، و أن التحالف مع هذه القوي المارقة عن الطوق الأمريكي الأوروبي، تحالف بني على أساس مكره أخاك لا بطل.
سيدأحمد ولد أطفيل