رحماك يا رب قد ضاقت بنا الدار العمر ينفذ والأحلاف تنهار
مرة أخري أكتشف هشاشة كل ما هو مرتبط بالبشر،، ، كل مسعى الإنسان و صراعه الدائم من اجل البقاء لا معني له. كل مكابدة يقوم بها الإنسان:مخططاته، أفكاره ومشاريعه…. ليست إلا رسما باهتا علي حائط العمر القصير
وحده الله ، استأثر لنفسه البقاء متعهدا في محكم كتابه “كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال و الإكرام” فالموت هو اليقين ،وكل ما عداه هراء، هكذا آمن الأستاذ : عبدالله ولد إسحاق ولد محمد ولد الشيخ سيديا رحمه الله
عبدالله ،الولي ( محمد المختار كما كان كلانا يسمي الآخر ) هو أحد أبناء أسرة أهل الشيخ سيديا الكريمة، تربي في كنف والده العلامة المميز إسحاق ولد محمد الذي اخذ منه الذكاء وحسن التأويل كما رضع طيب السريرة من أمه الفاضلة زينب حفظها الله ،ابنة الزعيم الصالح عبدالله ولد الشيخ سيديا الذي هو سميه وتسجي بالكثير من سجاياه الحميدة، فكان زعيما يسند النبل بالإباء، كارها للظلم ، مخلصا في عهوده ،منافحا عن صداقاته.وكان فائق الشجاعة مالكا لأمر نفسه ،كثيرا ما حدثني برباطة جأشه المعهودة عن خطورة مرضه
كلمته قبل أيام ،فكان كعادته طريفا ،ممازحا ،سائلا عن أحوال الأسرة و في نهاية الحديث استفسرت كالعادة عن تطورات الحالة الصحية ،فأخبرني بأشياء عدة (احتفظ بها) وقال إن الأيام صارت معدودة، و لما أحس قصة في كلامي قال رحمه الله “محمد المختار مانك شاغل افش”
لم يكن المرحوم بالنسبة لي صديقا ولا أخا ولا زميلا، بل كان كل ذلك في آن واحد و أكثر، عرفته حقيقة عندما كنا طلابا في المغرب ، وكان كلانا يلجئ للآخر في أوقات الضياع، مشكلان بذلك تكتلا حميما من دون الأصدقاء فكان يخصني بكل تفاصيل حياته حتى موافقة الغير معلنة من قضايا حساسة كان يطلعني عليها. وهكذا أطلعني في1988 علي ما أخبره به الطبيب المغربي في البحرية التجارية ( قد يكون بداية مرضه الأخير)، ربما كنت الوحيد من بين الجميع الذي يعرف كل شيء عن صحته بعد شقيقنا الدكتور الخليل، مد الله في عمره
كان الولي شخصا مركزيا في حياتنا نحن أصدقائه، يصلح ذات بيننا ويرفدنا بثقافته الفائقة الأهمية ويعلمنا الصبر، كان مثل المطر: يمنح الخصب ويعطينا الهدوء ، كان متفننا في الحياة محيطا بأساليب اللياقة، كاتبا واسع الخيال، دبلوماسيا رفيع الذوق ،لامع النظرات دارسا للتاريخ مستذكرا أيام الأفاضل، نبيلا، زاهدا عميق الإيمان.
ولقد كان يخاف الله كثيرا ، اذكر أنه صمت طويلا ثم أجهش بالبكاء في احدي جولاتنا المسائية بشارع محمد الخامس عندما سمع مواطنا من سلطنة عمان يقاسمنا الكرسي يتلو من سورة العنكبوت قوله تعالي” الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون” ربما لا يكون الكثير علي اطلاع بهذا الجانب الروحي من حياة الولي الذي كان يعبد الله دون رياء و يعتبر نفسه صاحب واجب لا غير
مع طيبه ،كان حاسم المواقف معنيا بالحراك الوطني حريصا علي المصلحة العامة ، نزيها في إدارته، وطنيا من الطراز الأول، مدافعا عن الوحدة الوطنية، وقف بكل شجاعة في وجه دعاة التفرقة سنة 89 وأجريت وإياه حوارات مع عناصر الحركة الزنجية لتخفيف الاحتقان الذي تفاقم بين الطلاب وقت إذن ، كما وقفنا ضد جماعة كنيسة “نوتر دام” التي كانت تلهب المشاعر
أسكن الله الفقيد الرتب العلا من جنانه وعده مع الأولياء والصالحين، فقد كان بحق أحد الجنود المجهولين ، وألهم أهله الذين هم أيضا أهلنا كل معاني الصبر والسلوان و ليجدوا هنا كل تعازينا القلبية وإنا لله وإنا إليه راجعون
خفف الله الفاجعة عن أمه وأخوته وزوجته الكريمة التي تولت الرد علي مكالماتي عندما كان في المستشفي ، فكانت شامخة رغم الألم الذي يعتصر القلوب ، أثاب الله الجميع.