د/ محمد عبد الله ولد محمد محمود*
يبدو أن معارضتنا الخاسرة قد وصل بها اليأس إلي شفا جرف الانتحار، وأنها ليس لها شافع ولا صديق حميم وإلا لكان أودعها أحد المشافي العقلية حتى تستعيد وعيها، وتدرك أن السلطة ملك الشعب يمنحها لمن شاء عبر صناديق الاقتراع، وليست إرثا مشاعا ولا هي شاة بفيفاء وليست لقطة ولا نهاب عرس ولا عمولة تقبض ثمن خدمة من وراء البحار، ولا تنال بالزعيق والشهيق والتصفيق والتزويق وإطلاق البالونات في الفضاء…
وإذا ما خلي الجبان بأرض
|
طلب الطعن وحده والنزالا
|
فالرئيس الثائر محمد ولد عبد العزيز نال ثقة أكثرية مواطنيه وليس مستعدا لمساومة من يذر الرماد في العيون ويمتطي واهيات الظنون لحجب الحقيقة وإيقاف عجلة الإصلاح عن الدوران، فهيهات هيهات أن تحجب يد شمس الظهيرة عن الإشراق علي البسيطة، وما دام الجمع يدركون أن العاقل (بالقمز والفاسد بالدبزه) فليتذكروا قول من لا ينطق عن الهوى”إذا لم تستح فاصنع ما شئت. ما بال أحدكم يري القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ” (سارق وزعيم) وقول العرب رمتني بدائها وانسلت، إن وراء الأكمة ما وراءها.
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
|
وما علم الإنسان إلا ليعلما
|
فالشوك لا يجتني منه العنب ومن أدخل يده في النار احترقت، فمن شاء فليلبس أكفانه ويواصل حفر قبره بيده، فلا أحد يرضي الإجهاز علي جريح بلغ حد الغرغرة ليبوء بإثمه فالقتل الرحيم ليس في ملتنا، والسيد الرئيس ماض في إرساء قواعد موريتانيا جديدة، مبنية علي قواعد متينة من العدل والصرامة في التسيير المعقلن لموارد الدولة البشرية والمادية، ومستمر بضخ دماء جديدة في الإدارة لتجديد خلاياها الميتة وتحريك دورتها الدموية المتوقفة، وإبعاد تلك الدمى المحنطة التي تسوم هذا الشعب المسكين سوء العذاب مذ نصف قرن، فالرجل قد أدرك بالفعل مكمن الداء ووضع مبضعه علي الخراج الموبوء في جسم الدولة المنهوك, والطبيب ليس يهمه صراخ العليل وبكاؤه، فكل ذلك تعقبه فرحة الشفا بعدما تتم العملية، لقد أنجز حر ما وعد فالسيد الرئيس مذ وصوله لسدة الحكم لم يأل جهدا، في تطهير الإدارة من الفيروسات الخبيثة والجراثيم الفتاكة وإحلال ذوي الكفاءات محلها، الأمر الذي جعل دينصورات الفساد المعارضة للإصلاح يجن جنونها وتكشر عن أنيابها, وتذري تماسيحُها دموعَها، وتنفث أفاعيها سمومَها وتنهش أعراض المصلحين، وتعمل معاول هدمها في وحدة الوطن ومكتسباته معلنة بذلك ما كانت تخفيه من سياسة الأرض المحروقة، التي دأبت عليها مذ نشأتها، حيث لم تميز يوما بين الوطن والنظام الحاكم، فكل ما يهمها هو جباية ما يمكن وضع اليد عليه من مقدرات الوطن، فقد سقطت ورقة التوت التي كان سدنة الفساد ودهاقنته يوارون بها سوءاتهم، يوم قرر الرئيس محمد ولد عبد العزيز قطع العلاقات مع الصهاينة والقلوب تكاد تبلغ الحناجر، بعدما جمعت معارضة الإصلاح أمرها وجلبت خيلها ورجلها، وأبرمت أمرها بليل مع الخارج وأرغت وأزبدت وأرعدت وأبرقت وتوقعت أن تصل إلى القصر الرمادي – الذي طالما حلمت به – في أيام إن لم تكن ساعات علي متن الدبابات الأمريكية, تحت غطاء أسراب من القاذفات الهجومية جوا وبحرا وبرا، بيد أن حنكة الجنرال ـ كما يحلو لهم أن يسموه ـ أفشلت تلك المخططات الفاشية، وتمت الاستجابة لكل الشروط التعجيزية التي تم رسمها في السفارة الأمريكية المجروحة في كبريائها, بطرد ابنتها البكر المدللة إسرائيل، ولسان الحال يقول لقد أنصف القارة من راماها، وما ذنب السيد الرئيس إذا جرت الرياح بما تشتهيه السفن, فقام الشعب هذه المرة بواجبه الوطني باختياره لمن انحاز إلي مصالحه المهدورة، وكانت ردت فعل الشعب هذه يوم 18 يوليو بمثابة زلزال، حيث أصيبت معارضة الإصلاح بلوثة لم تفد فيها بعد نفثات الراقي ولا تمائمه، فمازال القوم ينتابهم الصرع والهذيان كل حين، ومن أسمج هذا الهذيان إنكارهم للإنجازات المشاهدة بالعيان والقول بأنها كانت مقررة في العهود البائدة التي أتت علي الأخضر واليابس كما يزعمون فأي تهاتر هذا؟؟؟ إن سبب هذا الهذيان أن هذه الإنجازات الكبيرة تمت فقط في السبعة الأشهر الأولي من مأمورية الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بينما الأنظمة البائدة لم تستطع تقديم مثل هذه الإنجازات في ولايتها التي استمرت عقودا، وهذا ما جعلهم يقارنون هذه الأشهر السبعة بعقدين شاركوا في ما تم فيهما من جرائم بحق الوطن وساكنيه، ويا ليتهم اكتفوا بما جنوا واقترفوا وتركوا هذا الوطن يستريح من شغبهم ولو بقدر فواق ناقة، لقد سقطت اٌلأقنعة المستعارة وظهرت تلك الوجوه الكالحة ليس بها مزعة لحم تعلوها قترة، تندب حظها العاثر بضرب النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، معلنة تمسكها بلغة المستعمر باعتبارها وسيلة التعايش السلمي بين مكونات المجتمع المختلف الأعراق!! محذرة من مغبة التفكير في التواصل بلغة القرءان المرسمة دستوريا كلغة رسمية، معتبرة إياها خطرا على اللغات الوطنية الأخرى!! متجاهلين أنها اللغة الجامعة لكل المسلمين باختلاف أعراقهم ولهجاتهم مذ ما يزيد علي أربعة عشر قرنا, ولماذا لم تقع هذه الجعجعة بدون طحين يوم تم ترسيمها لغة رسمية مذ عقدين؟؟؟ وما هو معنى كونها لغة رسمية إذا لمتكن لغة التواصل؟؟ وإذا لم تكن كذلك فعلا, أليس من واجب المعارضة ورئيس الجمعية الوطنية بالخصوص، أن يطالبوا بتطبيق الدستور واحترام قدسيته كما فعلوا إبان حركة التصحيح، أم أن مخالفة الدستور في هذا المقام مقبولة، ما دامت لا تمس مصالح معينة وإن أدت إلي طمس هوية أمة؟؟ وإذا كانت اللغة الفرنسية هي لغة التواصل على حد قول الرئيس مسعود، فلماذا يعدل عنها هو ومن على شاكلته إلى الحسانية عندما يخاطبون الجمهور؟ وما هذه المخاطر التي تشكلها اللغة العربية على اللغات الوطنية في حين توصف اللغة الفرنسية بصمام الأمان؟!! أليس الناطقون باللغات الوطنية يدينون بالإسلام دينا واللغة العربية هي لغة هذا الدين؟ أم أن الجمل استنوق والعصفور تنسر والحنظل تزنجل والحصرم تزبب؟ ولحساب من ومن أجل ماذا نتمسك بلغة المستعمر على حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية؟ أم أن اللغة الفرنسية هي لغتنا الأم أخطأت أستك الحفرة، وإن كان لا يخفى أن هذا من باب أسلفني أسلفك وتلك لعمري صفقة لم يشهدها حاطب، إن اللغة العربية – كما تعلمون – لغة كل من يدين بالإسلام دينا ولا خطر فيها على تلك اللغات، وأنتم تعتقدون ذلك جزما كما هو حال المستعمر الذي هو أبو عذرة هذا الطرح، لحاجة كانت في نفسه وهي اليوم من البدهيات التي لا يمكن أن تنطلي على الصبيان وبالأحرى أباطرة وسدنة السياسة، إن ربط اللغة بالقومية هي وسيلة من الوسائل الماكرة التي ابتكرها المستعمر في التاريخ الحديث، من أجل تفتيت وحدة المجتمع المستضعف لتسهل له السيطرة عليه، وخصوصا الشعوب الإسلامية التي كانت بالأمس متحدة من قشقند إلي قرطبة، وذلك بفضل الإسلام ولغته العربية التي كانت حصنا منيعا في وجه مخططات المستعمر، إنه لمن المؤسف والمخجل أن يطلب رئيس البرلمان من الشعب الذي انتخبه، التخلي عن لغته والاستعاضة عنها بلغة أخرى مهما كانت تلك اللغة، أحرى إن كانت لغة المستعمر، وإذا كان الشعب الموريتاني قد تعود على شطحات من هذا القبيل، وبالتالي لم يعد يبالي بها ولا يعيرها أدني اهتمام، ولا يهتبل بدموع تتهاطل من أجل أن ترحض وضر تلك النزغات المعتادة، فإن مكانة الرجل الآن بوصفه يتربع على قمة السلطة الثانية في الدولة، يجعل من غير الممكن تجاوز هذه الشطحة من شطحاته دون مساءلته، على الأقل عن دوافعه من وراء ذلك، أهو احتقار هذا الشعب والتنكر له ومغالطة النفس؟ أو هي الديماغوجية وسريالية الخطاب والانقلاب على الشرعية؟؟ أم هو ولع المغلوب بتقليد الغالب على حد تعبير بن خلدون؟؟ أم هو الاغتراب أو ما يدعوه المفكر مالك بن نبي بقابلية الاستعمار؟؟ والتي جعلت مواطنه الجزائري عباس فرحات ينكر وجود أمته التي يعيش في أحضانها, ما أشبه الليلة بالبارحة، وإذا كان كبراؤنا الذين أضلونا السبيل نسوا أو تناسوا فإني أذكرهم استنادا إلي تاريخ البلاد، أن اللغة العربية كانت قبل أن يفرض الاستعمار لغته هي لغة التواصل المكتوبة الوحيدة في كل شبر من هذا القطر، بما في ذلك ضفة النهر مذ دخل الإسلام هذه البلاد وقبل وصول القبائل العربية التي جاءت بعد ذلك بقرون، بل إن الأمر كان كذلك في الجزء الأكبر من قارتنا الإفريقية، وكانت توجد في ضفتي النهر الموريتانية والسينغالية ـــ ولا تزال وإن بشكل أقل ــ مدارس عربية تكون أطرا ناطقين بالعربية، وقد قاوم الأهالي في ضفة النهر الحملة الاستعمارية لفرض اللغة الفرنسية، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم الناطقين بالحسانية، ورغم استخدام المستعمر للترهيب والترغيب من أجل تعليم لغته، فإن بعض سكان الجنوب ظلوا يرفضون إرسال أبنائهم لمدارس المستعمر حتى الاستقلال، ولا تزال الكتاتيب القرآنية والزوايا حتى اليوم منتشرة في جميع أرجاء ضفتي النهر، ويحظي العارفون باللغة العربية في ضفتي النهر بمنزلة اجتماعية متميزة بين مواطنيهم، حتى وإن لم تكن لهم وظيفة دينية معينة من إمامة وتعليم…، بل إن هذا هو الحالة الغالبة في جميع أقطار القارة الإفريقية السمراء ولا أدل علي ذلك من كون جمهورية تشاد لغتها الرسمية هي اللغة العربية حسب الدستور رغم أنها ليست دولة عربية، مما لا يدع مجالا للتشكيك في أن التمسك باللغة العربية هو خيار جميع المسلمين وبالخصوص أفراد هذا المجتمع، وما عدا ذلك فهو شذوذ عن خيارات القاعدة العريضة من هذا المجتمع المسلم 100% وحتى تلك الأصوات الشاذة التي تكون نشازا في محيطها، فإن معارضتها لا تعود في الحقيقة إلي عداء اللغة العربية، وإنما تعود بالأساس ـــ حسب أب الأمة جذيلها المحكك وعذقها المرحب ـــ إلى بعد اقتصادي واجتماعي، ذلك أن النخبة الافرانكفونية – من البيضان والزنوج – التي ورّثتها المستعمر حكم البلاد لما قرر التخلي عن الاستعمار المباشر، ترى أن امتيازاتها الموروثة هي في مهب الريح، إذا ما قرر الشعب بعد أن شب عن الطوق أخذ زمام المبادرة من أجل استعادة هويته، من خلال رفض مواصلة إنتاج العلاقات والمصالح والقيم التي كان المستعر يكرسها، والتي من أبشعها مسخ هوية الأمة الإسلامية، وهو أمر تدل مؤشرات عدة على قرب حدوثه، ومن أبرز تلك المؤشرات توجهات النظام الجديد لمحاربة القيم الفاسدة، التي كانت سائدة مذ الاستقلال المزعوم، وهو ما يبدو أن تلك النخبة المتهرئة استشعرت خطره عليها، فكشرت عن أنيابها وكثر هريرها وعواؤها بدون مناسبة، كما لو كانت مأجورة من قبل الماسونية للثأر من مشهد ذلك اليوم المشهود، الذي تم فيه طردها ودك وكرها بالجرافات ليستوي بالأرض نزولا عند رغبة الشعب، ورغم كل هذا فإن ثلة ساذجة من هذا الشعب لا تزال مطية مذللة لهؤلاء المتاجرين بالوطن، من أجل مصالحهم الشخصية الضيقة ونزواتهم التي تحركها نفوسهم المريضة، إن موريتانيا الجديدة تقول لهؤلاء وهؤلاء أن الوطن للجميع، وأن ثوابته ومسلماته يجب صونها عن انتهازية لبرغماتيه المياكيافليه والشوفينية والعنصرية المنتنة، ومن أبي فإن المخلصين من أبناء الوطن كفيلين برد كيده في نحره، فالغالبية العظمي من هذا الشعب عربه وزنوجه ترفض تسييس الهوية، لأنها لا ناقة لها ولا جمل في صراع الساسة المسكونين بحب السلطة، فقد ذاق الشعب طعم الأمرين الجهل والفقر، بسبب عنتريات السياسيين التي طالما دقت بينهم عطرمنشم، وجلبت علي الوطن ما لم تجلبه غبراء وداحس علي عبس وذبيان، كفى من إشعال الحرائق هنا وهناك وحان أن يصب الزيت في القدر لا علي النار، وأن يقدم للمواطن خبزا يأكله ولحافا يلتحف به ومسكنا يؤويه ومشفي يتعالج فيهومدرسة يتعلم فيها…فهل سينزع الساسة عن عاداتهم القديمة ولو مرة كحليمة؟؟ حتى يلتقط هذا الشعب أنفاسه ويضمد جراحه النازفة، أم أن الساسة لا يستطعون النظر إلي أبعد من أجسامهم الطاعمة الكاسية حتى يرو المتضورين جوعا والباكين مرضا… ؟؟؟
* دبلوماسي وباحث متخصص في القانون العام. mhd.abd1978@gmail.com