اعتادت القوى السياسية الموريتانية أن تضع “النهايات” قبل البدايات.. شكل جديد للمنطق “الرياضي” في هذا البلد.
اليوم تدخل موريتانيا “فصل الخريف الحواري”.. هذا لا يعني أن “الصيف” لن يعود..
يحي ولد الوقف رجل صبور جدا.. ربما لكونه ولد سياسيا من رحم “الأزمة” تولى رئاسة الوزراء فجأة 2008، فشل في عبور شهر واحد و”نصف” بحكومته الأولى، ومسح الانقلاب حكومته الثانية.. ومن كرسي رئاسة الوزراء إلى السجن، وبعد خروجه بقليل وجد نفسه سجين متورط في “أشهر” صفقة فساد: “صفقة الأرز الفاسد”.. ثم أطلق سراحه ليتمتع بطعم هزيمة مرشحه الرئاسي.
وقبل أيام فقط تعرض حزبه (عادل) لـ”فساد تنظيمي” خرج بموجبه الديناصور بيجل.. ثم عادت السلطات لمتابعته في “صفقة الأرز الفاسد“.
وبدون مقدمات فاجأنا ولد الوقف باجتماع رئيس الجمهورية به في القصر الرئاسي، ثم أعلن أن الرئيس كلفه بدعوة المعارضة لـ”حوار صريح”.. شيء جميل..
بادرت المعارضة الموريتانية لقبول “حوار مشروط” بمرجعية “اتفاق دكار“،
وطوال الأيام الماضية لم تتمكن المعارضة من الاتفاق على “رد رسمي ونهائي“.
الصقور المعارضون لا يريدون منح عزيز فرصة لتمرير اجتماع المانحين في أبروكسيل.
والمعارضون (الحمائم) رأوا في الأمر “قضية وطنية” إذ لا يجب حرمان البلد من التمويلات مهما كان انزعاجهم من النظام الحاكم.
هل هناك خلافات في صفوف المعارضة إزاء الحوار مع النظام؟ هل تريد المعارضة الخروج من “مأزق الدعوة للحوار” لكونها دعوة “ظرفية” ولكون الحوار مع “الجنرال” بلا جدوى..!
قارنوا ما يجري.. المعارضة تقرر النزول للشارع.. والأغلبية تخاف وتتراجع حتى عن الدخول في حوار مع نفسها في ذات اليوم.. والجيش (في رسالة للمانحين) يستعد لإجراء أكبر مناورات في تاريخه على “تخوم مفازات القاعدة”. وتنتهي هذه المناورات يوم 21 يونيو الجاري، أي قبل ساعات فقط من انطلاقة اجتماع المانحين..
نحن كمواطنين غير سياسيين أغبياء.. لا ندرك ما يجري على رؤوسنا..
لنعد قليلا إلى الوراء..
المعارضة أعلنت قبل أسابيع يأسها من الحوار مع الرئيس.. قررت الإطاحة بها رسميا. والرئيس لا يرى أن تهديدات المعارضة تستحق الرد. فهو من يملك الحزب الحاكم والأغلبية النيابية والجيش والأمن والدبابات والمدافع وكانت “تجربته” مع القوة “ناجحة جدا“.
غيّـر الجنرال عزيز “ثلاثة أنظمة” (ولد الطايع – 2005، وولد فال – 2006، عندما “حلم سهوا” بالبطاقة “البيضاء”، وولد الشيخ عبد الله – 2008، عندما “توهم” أن جرة قلم يمكنها تغيير ميزان القوة التقليدية“.
وإذن لا يخاف الرئيس تهديدات المعارضة.. ومع ذلك كلف الرجل المتهم بـ”الأرز الفاسد” بالتمهيد لحوار لن يكون وإذا كان لن يفيد.. لأنه على ضوء “كل الكره” و”كل الحقد” و”كل البغض” بين المعارضة والنظام سينال أي حوار جديد صفة “الحوار الفاسد“.
ولكن هناك “منبع حساس”، يصب في أوردة “المخاوف”. من أن شيئا ما يخيـّـم. وأن الأمور لا يمكن أن تبقى على هذا الحال.. رئيس يحتقر المعارضة إلى هذا “الحد”، ومعارضة تكره الرئيس بلا “حــد“..
إن رحابة الأفق علمتنا أنها تحجب أكثر مما نراه.. أكثر مما يصله بصرنا الكفيف..
ثمة ما يجري في “خفاء دامس”. لنقل إن (رأس جبل الجليد) لم يظهر حتى الآن. لكن الجبل هناك. و”الاحتباس السياسي” يفعل المعجزات.
المعارضة الموريتانية لا يمكنها الرهان على الديمقراطية، فهي تعرف أن النظام الموريتاني لا يمكن تغييره إطلاقا بـ”الانتخابات”، ويمكن ” تغييره مجازا” بشيء واحد اسمه “الانقلابات ” العسكرية.
وحتى هذه الأخيرة لا يمكن ضمان عائدها للمعارضة. فالماضي أعطانا معادلة واحدة “المعارضة تزرع، والجيش يحصد“.
لن يغامر ضابط، ويضع روحه على كف عفريت، وإذا نجا من “حمام دم” وقاد انقلابا عسكريا لن يسلم السلطة لزعماء المعارضة من أجل “عيونهم”.. ففي السلطة لا يوجد شيء اسمه “سواد العيون“.
وحدها السلطة لا تعطى ولا تمنح في موريتانيا.. إذن ما هو طريق المعارضة. ولنقل “المعارضة من داخل النظام”، فهذه أقرب للاستفادة من عملية التغيير المفترضة أو الحوار المنتظر.
نحن هنا أمام رئيس يحب كسر التقاليد، فهو لم يرض أيا من “مخصبات” الاستقرار” المسرحي. لا شيوخ القبائل، ولا الجهويات، ولا الشرائح، ولا العرقيات، ولا رجال الأعمال، ولا أربعون أو ستون حزبا في الأغلبية، ولا الجيل السياسي الصاعد، ولا “الماكرون” التليدون منذ استفتاء “وي ونوه”، إلى ما شاء ربك.
خذلت المعارضة المعتدلة (تواصل، والصواب، وحركة التجديد……… إلخ).. وجدوا الشعار على الباب “لا داعي لقدوم زيد”. و”الرجاء عدم الإزعاج“.
الرجال والنساء والشباب في حزب “الاتحاد” يطحنهم التهميش والتجاهل لا يمكنهم شراء وصفة طبية. أما الوظائف فقد تم احتكارها من قبل “شوائب محايدة“.
والحزب “التبويقي” (الاتحاد) المسكين يصارع المستحيل. صحيح أنه شحن سجلاته بأسماء المنتسبين، ونظم أماسيه الشعبية من الحدود إلى الحدود، وأنه ألحق هزيمة شعبية “نكراء” بالمعارضة في “منازلة انواذيبو“.
لكنه لم يقبض الثمن. هو خارج “الجزاء”. والمعارضة مسرورة بهذا الوضع، تكاد تترنح من الفرح، فهي أغنى من الحزب الحاكم، وأكثر راحة ضمير لأنها تشتم النظام وتشمت منه. وتقول “على الأقل” ما يلامس شغاف هواها.
وحتى دول الجوار لا تبدو “واضحة”. فالمغاربة لم يساعدونا رغم ما قيل عن مغربيتنا، والجزائريون قدموا لنا كميات من الرصاص في “تيمرانست”، والسنغال ومالي في قلق تام من ضبط “الجنسية“.
نحن إذن في وضع لا بد للرئيس فيه أن يغيـّـر “أمرا”، وإلا أحدث “أمرا“…
طال الاحتراق، والجميع في نهاية عصر الرماد.
في بلد هش وضعيف كموريتانيا لا بد من سلوك أحد طريقين للحكم وتسيير الأمور: إما ديكتاتورية مطلقة، أو وفاق وطني.
لم نختر أي من الطريقين، ولهذا لا يمكن علاج “فوهة” المشاكل التي تنهمر أولا بأول.. والأخطر أنها باتت تتجه إلى صلب الدولة لتفكيكها “نفسيا” على الأقل.
لكي نكون عمليين ماذا بإمكان رئيس الجمهورية أن يفعل غير ما جرى.. “المعارضة تدعو المعارضة بالنيابة عن النظام للحوار”.. ثم لا تحسم المعارضة موقفها..
على الرئيس الدعوة لحوار عام يتناول كل المواضيع المطروحة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ثم ترسيم المتفق عليه، واللجوء لاستفتاء شعبي للبت في المختلف عليه.
على المعارضة الموريتانية الخروج من عقلية الشوق إلى “المراحل الانتقالية”. فقد لدغت في الجحر مرتين. وما لم تعمل على تجديد الذات والأساليب فلن تكسب من تجاهل الحساب الصحيح لـ”المسافة”، فالاتكاء على “علم طي المسافات” لا ينتج عن عمل مؤسسي صبور وناضج.
الاعتقاد السائد في الكواليس أنه لا حوار.. فحتى المعارضة أقل استعدادا “فـنـيا” من النظام للحوار.. وكل هذه “جلبة” في طريق أبروكسيل.. وبعد أسبوع واحد سيربح أحد الطرفين نهائيا.. وحدها الآن دولارات الممولين هي من يتكلم ويحسم هذه “المباراة التي تجري خارج الملعب”… الرئيس طلب أربع مليارات (ضعف الوعد الذي حصل عليه ولد الشيخ عبد الله).. إنه يدرك دوره “الجيوسياسي“.
ستنتهي “أزمة الرماد” يوم الثالث والعشرين من يونيو الجاري، فإما أن يربح ولد عبد العزيز نهائيا “كل شيء”.. الأموال بدون حوار، وبدون تنازل، أعنى الأموال مجانا، أو تنتعش آمال المعارضة بإمكانية تسيير “أزمة حقيقية“.
التجربة علمتنا أن حدثين فقط يؤثران في مسار البلاد: الانتخابات الرئاسية، واجتماع المانحين.
ما عدا ذلك “كل شيء عادي جدا”.. و”يحتملُ جدا”.. لولا هذه المرة وجود “النفط واليورانيوم والقاعدة” في الشمال.
إن “حاسبة أبروكسيل” هي وحدها من يحدد المسار السياسي في موريتانيا خلال هذه المرحلة.. فلا تشغلوا بالكم بالتحليلات والاحتمالات، والتفسيرات، والاجتماعات، والتصريحات، والبيانات، والتلميحات، والتهديدات.