عنوان هذا المقال هو ختام توصيف لمشهد لقاء بين فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة-بحسب تعبير وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر-و الأشهر في عصرنا، وأحد أساطين اليسار يورغن هابرماس، مع بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر.
لقد مكث أحد أبرز ممثلي النظرية النقدية الاجتماعية المعروفة ب” مدرسة فرانكفورت ” ،خمسين حولا يحاجج ضد الدين، ويحاول دحض حججه الأخلاقية، ثم في لحظة ما من سنة 2007، قرر أن يذهب للفاتيكان المؤسسة الدينية للنصارى، ثم خرج بعدها مباشرة ليتحدث عن انقلاب فكري بين في مفاهيمه وقناعاته العلمانية والديمقراطية، وقال معبرا عن ذلك: الكنيسة المؤسسة النهائية للحرية والعدالة والديمقراطية، وكل ما عدا ذلك هرطقة ما بعد الحداثة!
لا أسوق تلك القصة هنا لأضيف إلى النقاش المستمر منذ تسعينات القرن الماضي حول “إعادة التفكير في العلمانية”، وحول حصادها المخيب للآمال على الأقل في مغربنا ومشرقنا العربيين، ولا حول عدم ثبوت الصلة بينها وبين التنمية والازدهار..، كلا…، وإنما سأحاول تحليل عناصر تلك القصة، لأحاول الإجابة بعد ذلك على سؤال بات يطرق ديارنا المحصورة بين بحر من الرمال وبحر من الماء -كما يقول تيودور مونو- وهو:- هل هي الصدفة التي أخرجت لنا في فترة وجيزة لا تتعدى الشهر، مقالين أحدهما يعلن الإلحاد والخروج البين من ملة الإسلام ودينه، وآخر يشكك في عدالة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويتهمه بالظلم؟؟!.
هل هي الصدفة أيضا أن يخرج ذلك الطفح التفكيري مباشرة بعد إنشاء مجموعة سرية على الفيسبوك تدعى: مشروع لقاء القوى العلمانية الموريتانية؟!.
قصة هابرماس مع مؤسسته الدينية تنطوي على العناصر التالية:
1- مثقف محترم يعي جيدا ما يفكر فيه -وليس مجرد خزانة كتب تحفظ آلاف السطور ولا تستطيع إنتاج رؤيتها الخاصة-، ثم في لحظة معينة يقرر بشجاعة ووضوح أن يعترف بخطئ تصوراته طيلة نصف قرن، ثم يحدث قطيعة علنية معها، دون أن يخشى ردة فعل تلامذته ولا وسطه الأكاديمي، ولا أصدقائه….
2- رجل دين- وإن كنت لا أستخدم هذا الوصف لإسقاطه على الدعاة والعلماء المسلمين- يقرر أن يسمع لفيلسوف علماني يجاهر بعدائه لأي دور للدين في الحياة العامة، وهو إذ يناقش الفيلسوف ويقنعه، فإنه يعبر عن ثقافة فلسفية وفكرية متمكنة، وثقة في النفس قادرة على استيعاب مكامن الخلل الفكري، وأساليب تجاوزه
هنا يمكننا أن نتوقف مع كل عنصر على حدة، لنفهم بالضبط علاقته بظهور الإلحاد أو العلمانية أو بمزيج نادر بينهما، لا يقدر على التعبير عنه سوى صبيتنا وفتيتنا المتسكعين على رصيف القهوة التونسية، والمتوهمين أنهم دعاة تنوير، ضد رجعية دينية مسلمة!.
1- أوهام الاستنارة والحداثة
في كتابه “الآلهة التي تفشل دائما” يرى الأستاذ الدكتور إدوارد سعيد أن كل المثقفين يقدمون لجماهيرهم شيئا ما، وبفعل ذلك يقدمون أنفسهم لأنفسهم، ثم يعرف إحدى مهام المثقف من وجهة نظره -العلمانية طبعا- بأنها السعي لكسر القوالب المختزلة التي تحد من التواصل والتفكير الإنساني
حسنا بإمكاني الآن أن أفترض جدلا اتفاقي مع دور وماهية المثقف-العلماني-، وعلى أساس ذلك سأسأل ترى ماذا قدم المثقف العربي بشكل عام – وفتيتنا القلة بشكل خاص- لجماهيرهم؟…وهل كان سعيهم لكسر ما يرونها قوالبا جاهزة، متعفنة، وجامدة، محترما لتلك المجتمعات، و متوخيا إنجاز واقع “متجاوز” لها؟
يبدو السؤال إشكاليا معقدا، ويحتاج لحيز تفصيلي أكبر من المتاح لي الآن، لكني سأقول على عجالة،إن أغلب مثقفينا، ومن يزعمون الاستنارة والتنوير والحداثة، يتكؤون على تناقض مفاهيمي مخل، فهم- أو من يصفون أنفسهم بالعلمانيين المسلمين- يصرون على تحييد الدين عن السياسة والاقتصاد، والحياة العامة، ويعتبرونه شأنا شخصيا، ومع ذلك يزعمون أنهم يقدمون شيئا ما -بحسب تعبير إدوارد سعيد- لمجتمعاتهم!، والتناقض هنا يتجسد في السؤال الآتي: كيف تتمسك كمثقف علماني بالدين الإسلامي في أمور زواجك، وطلاقك، وترضى به ناظما لشؤونك الشخصية، ثم تضن به أن ينظم الحياة العامة للناس ولعموم المجتمع؟….هل ترضاه لنفسك وأنانيتك، ثم لا تريده للمجتمع؟!…،أم أنك تخشى أن يحطم سلطة المثقف التي تتغول في النظام العلماني، بنفس الطريقة التي تغولت بها سلطة رجال الكنسية في أوروبا، حتى و إن اختلفت وسائل السيطرة والتغول؟ ( في حالة سلطة المثقفين العلمانيين، تكون وسائل السيطرة أنعم وتلتف كجلد أفعى حريري لتحتوي كل شيئ)؟؟!
ثم إن مثقفينا الذين يريدون أن يكسروا قوالبنا الجامدة، لا يضعون لنا بدلا منها قوالب أكثر انفتاحا وبعدا عن النمطية منها، كلا….،إن ما يدعون إليه هو ما يشكل صورة الإنسان ذي النمط الواحد ، بحسب تعبير هربرت ماركيوز- أحد أشهر نقاد الحداثة الغربية و مجتمع الفردنة القصوى-، ذلك أن الحداثة بالمفاهيم النقدية المتجاوزة للشكلانية، ليست إلا نيو كولونيالية إمبريالية أمريكية، تحاول جاهدة إثبات أن التاريخ ينتهي بنموذجها الليبرالي الديمقراطي وووو….!.
إن الأفدح أن بعض مثقفينا ينظرون لفردوس حرية التعبير، ويتنادون للدفاع عنها، دون أن يعرفو معناها الدلالي التأصيلي، لذلك ينتجون معنى غير دقيق لها، فهي حسب معجم وبستر ، فكرة بروتستانتية، وتحديدا بيوريتانية، تجيز لمن كان كذلك حرية الكلمة، بينما تحرم نفس الحق على كل من لا يتمذهب بذلك المذهب المتطرف التطهيري، وكل من لا يعتقد بالحرية كما يفهمها معتنقو ذلك المذهب البروتستانتي ،حتى ولو كان معتنقا للمسيحية ككل!.
و النتيجة أن من يفترض أن يقدمو لنا “شيئا ما”، لا يفعلون أكثر من انتزاع مفاهيم محددة من سياقها النسبي، وإسقاطها قسرا على واقعنا، بغير مراعاة لضوابط القياس والمقارنة..،إنهم بذلك يشبهون من يسأل عن توقيت حدث يومي على الآرض، فيجيب بأنه يحدث في نفس الوقت الذي يحدث فيه في المريخ مثلا، ويتجاهل أن القياس فاسد لأن اليوم المريخي لا يتشابه مع اليوم الأرضي إلا في الاسم، وأن لكل منهما أبعاده الزمكانية النسبية الخاصة!
لذلك وكترسيم لتلك القياسات الفاسدة، فإن من يدافعون من “فتيتنا” الآن عن كاتب المقال المسيء للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، يرون أنه “حر” في التعبير عن رأيه، وأنه تجب صيانة واحترام حريته تلك، ويتجاهلون أنه حين يمارس حريته التعبيرية تلك” يسيء لأمة مليارية كاملة في مقدساتها، وأن من حق بعض من يريد من تلك الأمة، أن ينتفض و يوقفه تماما عند حده، ربما كما تفعل أعرق من تسمى نفسها دولا للديمقراطية وحقوق الإنسان، حين تتضرر مصالحها العليا المشتركة، فتسن قوانينا وتتخذ إجراءات تصادر وبتعسف حرية الرأي والتعبير ووو…، ودون أن تعترض الغالبية العظمى ممن يزعمون الدفاع عن حقوق الإنسان!
إن مثقفينا أولئك لا يرون- في أحسن توصيف- تلك المفارقة النسبية التي تحكم نموذجهم الحداثي الديمقراطي…،وأخشى أنهم موصومون دائما بذلك الاتهام الذي قدمه ريتشارد وبستر في كتابه ” التاريخ المختصر للتجديف: الليبرالية ورقابة المطبوعات والآيات الشيطانية”، حين قال إن استماتة الليبراليين الغربيين في الدفاع عن سلمان رشدي باسم الدفاع عن حرية التعبير، هي فقط تعبير عن حقد دفين على الإسلام!..،
إنهم- أي مثقفينا أولئك- يرون فقط تلك الصدمة المعرفية التاريخية التي أفاقوا عليها ذات مقاربة في مجتمعاتهم، والتي جسدها الروائي الراحل نجيب محفوظ رحمه الله في ثلاثيته “بين القصرين، قصر الشوق، السكرية”، وتحديدا مع المثقف الفيلسوف كمال أحمد عبد الجواد، والتي يعبرون هنا وأوداجهم تنتفخ زهوا بمصطلح: ضرورة مراجعة التراث الإسلامي!
و المنصف هنا فقط هو من يحاول نقديا تحديد مسؤولية الطرف الآخر ” دعاة وعلماء الشريعة الإسلامية” ،عن ما وصل إليه مثقفونا العرب أولئك، وفتيتنا ” النواكشوطيون” المعانقون لأرصفة الليل على مقاعد القهوة التونسية في عاصمتنا الخمسينية
.2- دعاة خارج سياق النص الحداثي
من نافلة القول إن هناك هوة بين الشيوخ الدعاة وخطباء الجمعة و بين الشباب ، لا بد أن تجسر بكثير من التفهم والتربية الذكية المتماهية مع واقع العصر، و لطوفان الأسئلة المعرفية الذي ينبجس من هذا الزمان المزدحم بتطورات التقنية، وإشكالات الآيديولوجيا المنبهرة ببريق المادة.
على الخطاب الدعوي أن يستفيد من مرونة الإسلام وامتداداته التي تتجاوز المكان والزمان، حتى لا ينأى الشباب في عالمهم الخاص، ويتكيسوا في بحيرات راكدة من الإلحاد والشك.
إنها ليست الصدفة التي نجعل بعض فتيتنا وشبابنا ومثقفينا يعتنق العلمانية، أو على الأقل يكون هواه علمانيا، فالخطاب الدعوي ما زال ملتبسا بكثير من العجز عن فك رموز مواقفه، من المظالم والانتهاكات التي تمارس في حق بعض الأقليات المهمشة في مجتمعاتنا، أو لنقل إنه غير حاسم بنفس الطريقة التي كان بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه كذلك بالنسبة للمعاملات بين البشر وفقهها.
إلى ذلك فإن ظهور التيارات التكفيرية وتلك التي ترفع شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية كمنهج حياة وحكم، دون أن تمتلك أيا منهما مشاريعا تنظيرية واضحة سياسيا واقتصاديا وتنمويا بشكل عام،وترسيمات تطبيقية لذلك، يؤدي إلى الصدمة، التي قد تنتج رد فعل آيديولوجي، يعرفه الفرنسي بيار بورديو جيدا في إطار علم الاجتماع العفوي.
وكخلاصة أعتقد أننا بممارستنا الدعوية والإجرائية نصنع أولئك العلمانيين أو الملحدين، أو من يخلط بينهما.
ورغم كل غضبنا وإدانتنا لأي إساءات لديننا ومنهج حياتنا الإسلامي الحكيم والعقلاني حقا، فإننا لا ينبغي أن ننسى أن علماءنا وأهل الذكر فينا لم يستطيعو أو لم يريدو حتى الآن أن يقفوا موقف البابا النصراني من الفيلسوف العلماني هابرماس، ويسمعو ويناقشو ويقدمو أجوبة واضحة من صميم الشريعة الإسلامية على كل القضايا الحقوقية والسياسية وحتى قضايا الثقافة الجماهيرية المتجددة آنيا في عصر شديد التطور والتبدل.