الحرية الفكرية في عصرنا الحديث أصبحت يافطة يستغلها كل مهووس تقاذفته عاديات الزمن فوق بحر لجي من الانحلال الخلقي والانحطاط الفكري، كلما مدّ أحدهم يده مستغيثا وقع في شركٍ أوقعه في دركٍ من دركات الكفر أو الإلحاد.
الوقيعة في عرض النبي عليه الصلاة والسلام واتهامه بعدم الانصاف والعدالة، وتخوين صحبه الكرام بحجة الرأي والرأي الآخر لا يعدو عن كونه استكمالا للمسيرة التاريخية التي بدأها أبو جهل وأبو لهب وعبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن سبأ اليهودي وغيرهم ممن رماهم الزمن في سلة المهملات.
نعم، لقد استكمل المستشرقون المهمّة التي كان يقوم بها أولئك الأوغاد في سالف الزمان، وأصبحوا ينعقون ويهرفون بما لا يعرفون، كلٌ بحسب توجهه وما يملي عليه شيطانه، لكن بعد أن عجزوا بدأ شرذمة ممن أعمى الله بصيرتهم وبصائرهم ينفخون مناخيرهم ويصبون جام غضبهم على الإسلام وشعائره مستعينين بمحركات البحث الإلكترونية التي سخرت الخير والشر في آن واحد.
لم يأت محمد الشيخ بن محمد ولد امخيطير بجديد في مقاله ( الدين والتدين ولمعلمين) غير أنّه حشر نفسه في نفق الذين ذكرت آنفا، مُتطفلا على مقالات كتبها بعض أساتذة الجامعات الذين حاولوا حلّ إشكالية ( الدين والتدين ) وأضاف إليها بعض التوابل التي أخذها من هنا وهناك، مستخدما مادته الرمادية التي لم تستوعب بعض حقائق التاريخ الإسلامي.
لقد كشف سوأته وأظهر عورته حين أراد الطعن في عدالة من شهد له الثقلان بالعدالة والأمانة وحب الانصاف من نفسه وأهل بيته.
استشهد المذكور آنفا على التفريق بين الدين والتدين بقول عبد المجيد النجار: إنّ حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين ؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني و هذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما (كتاب الأمة).
إنّ هذه المعلومة التي تلقفها هذا المهووس نقلها من مقال كتبه صبري محمد خليل أستاذ الفلسفة بجامعه الخرطوم تحت عنوان ( التدين أبعاده وأنماطه وضوابطه ) بتاريخ الأربعاء, 2 نوفمبر 2011م.
حين نتكلّم عن الدين نقول هو أول شيء تعلق به الإنسان وفطر عليه، وأول دين عرف على الأرض هو الحنفية السمحة والإيمان المطلق بالله عزّ وجل، كان عليه آدم عليه الصلاة والسلام وأبناؤه، وكان أول رسول إلى أهل الأرض هو نوح عليه الصلاة والسلام، وأول تغيير ديني وقع في البشرية عن الجادة هو الشرك الذي أحدثه قوم نوح عليه الصلاة والسلام بعد أن نصبوا مشاهد لقبور صالحيهم، وقد ظل الناس تسوسهم الأنبياء كلما ما خلت أمة تلتها أخرى حتى بعث الله خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فجدّد الدين وحارب مشركي زمانه بعد أن كسّر أصنامهم وجعلها جذاذا.
من جهة أخرى نجد أنّ بني إسرائيل في عهد موسى عليه الصلاة والسلام قاموا بتحريف التوراة وحاربوا أنبياءهم الذين جاؤوهم بالبينات والزبر، وفي عهد عيسى عليه الصلاة والسلام وقع تحريف الإنجيل بعد أن صلبوا أحدهم شبهوه بالنبي عيسى عليه الصلاة والسلام.
لقد بدأ التحريف الديني تشتد جذوة ناره حين دخل بولس اليهودي في المسيحية حيث حرّف النصرانية بعد أن قال بأنّ المسيح بن الله – تعالى الله عن ذلك – وقال بعقيدة التثليث، كل هذا يدعونا للقول بأنّ الدين أمر فطري لازم البشرية في مختلف الأزمنة وتعاقب الحضارات ولم يكن يوما من الأيام سببا في تقسيم الشعوب على أساس عنصري.
وفي عهد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أرشد الناس إلى الدين الحق، وبيّن حقائق التنزيل قولا وعملا، لم يداهن أحدا من قومه ولم يحابي أحدا منهم على أساس ضيق، بل كان شعاره ” لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه ” وهكذا ظل مُدافعا عن الحق وأهله.
يقول صاحب مقال ( الدين والتدين ولمعلمين) مما لا شك فيه أننا إذا قسمنا الفترة الزمنية للإسلام إلى قسمين سنجد فترة حياة محمد و هي فترة دين، ما بعد محمد و هي فترة تدين.
إنّ ثنائية الدين والتدين ثنائية متلازمة، يعبر عنها الأصوليون بمفهوم التلازم، فالدين لا بدّ له من متدين والمتدين لا يتحقق له مقصوده إلا حين يتمثل – قوله تعالى- (قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، صحيح أنّ الدين بالمفهوم الشامل يشمل جميع الأوامر والنواهي الشرعية، اللازمة منها وغير اللازمة، الدين هو المقدس وحده والمستهتر بشيء من أحكامه على سبيل الهزل أو السخرية يعامل معاملة العميل أو الخائن إن كان مسلما وإن كان غير ذلك فيلاحق في قعر داره حتى يعلم بأنّ من لا تنفع معه الحكمة والموعظة الحسنة لن ينفع معه غير السيف حتى وإن تعلق بأستار الكعبة، ثم إنّ المتدين هو المتفاعل مع مجموعة من القيم والمستجيب لها ولا يحظى بالقداسة والعصمة بمفرده إن كان مجتهدا، بل بجميع مجتهدي زمانه الذين بلغوا نهاية القصد في الشريعة.
الدين في عصر النبوة هو نفسه في أي زمان ومكان، ذلك أنّ الله – عزّ وجلّ – قد تكفّل بحفظه، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومن لا زم الحفظ حفظ ما لا يتم المحفوظ إلا به، وهذا يتجسد في مختلف فنون الشريعة الاسلامية.
لم يكن الدين منفصلا عن التدين في عصر النبوة، وحدوث بعض الهفوات في عصر التشريع لا يجعل ذاك غير متلازم، ما ذاك إلا لحكمة – علمها الله تعالى – من أجل تشريع ما يتعلق بها من أحكام قبل أن ينقطع الوحي.
يقول صاحب مقال ( الدين والتدين ولمعلمين) معلقا على ما حدث لأسارا معركة الفرقان بين الحق والباطل ( بدر الكبرى ) الأسرى من قريش في قبضة المسلمين، والحكم قد صدر بما يلي قال المستشار الأول لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – : “يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا”.
ملاحظة: من هم الكفار إذا هنا في رأي أبي بكر؟
إنّ ما وقع في بدر الكبرى من أحداث بالنسبة للمسلمين كان نصرا مؤزرا اكتنفه له الكثير من الاختبارات جعلت القرآن الكريم يتدخل في بيان كثير من أحداثها وواقعها، وسبب حادثة الأسارى ما رواه الترمذي في سننه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ قومك وأهلك، فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم. قال عمر: يا رسول الله؛ كذبوك وأخرجوك، قدمهم واضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله؛ انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. فقال له العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنّ الله ليلين قلوب قوم حتى تكون ألين من اللين، ويشد قلوب قوم حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) ومثل عيسى حين قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) ومثل موسى إذ قال: ( ربنا اطمس على أموالهم) ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن رجل منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.
فقال عبد الله: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت النبي – صلى الله عليه وسلم – فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” إلا سهيل بن بيضاء”
إنّ أبابكر الصديق – رضي الله عنه – اجتهد في رأيه وهو مثاب – قطعا – ذلك أنّه قدّم رأيا استحسنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو المنُّ أو الفداء، ولو كان هناك شيء مما قاله صاحب المقال ( ولد امخيطير ) لعقب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – على قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في رواية الحاكم في المستدرك : حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين.
وحين نرجع إلى القرآن الكريم نجد أنّه عاتب المسلمين على فعلهم ( المنُّ والفداء بدل القتل ) ثم أقرهم على أنّ ما غنموه في تلك المعركة من أحلّ الحلال وهذا من دقائق القرآن الكريم ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ).
ثمّ لو كان في كلام أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ما يحتاج إلى إنكار لعاتبه عليه الصلاة والسلام ولم يقره عليه ، ذلك أنّه لا يجوز في حق النبي عليه الصلاة والسلام تأخير البيان عن وقت الحاجة كما يقول الأصوليون، ولدينا موقف يشهد على كلامنا وهو ما رواه البخاري في صحيحه بأنّ أبا ذر الغفاري – رضي الله عنه – حين عيّر بلال بن رباح – رضي الله عنه – بالسواد، أجابه النبي عليه الصلاة والسلام قائلا ” يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ” ولو كانت هناك محاباة لما فرح النبي عليه السلام بموت عمّه أبو جهل، ثم إنّ الوقيعة في عرض أبي بكر الصديق تستحق الكثير والكثير، ذلك أنّ أبا بكر لم يسجل التاريخ عليه أبسط ملاحظة حتى وهو في الجاهلية كان عفيفا مترفعا عن عبادة الأصنام ومقارعة الخمور واتهامه بهذه المحاباة لأبناء عمّه على أساس عرقي لا يصدقه عقل وتكذبه العادة، ما في الأمر هو أنّه – رضي الله عنه – أراد أن يهديهم الله إلى الإسلام بدل أن يقتلوا، يكفي أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – ما جاء في البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إنّ من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر”.
ثم إنّ أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – هو أول من اشترى الأرقاء وحرّرهم لذات الله – تعالى – ذلك أنّه اشترى بلال بن رباح – رضي الله عنه – من أمية بن خلف ابتغاء وجه ربه الأعلى، ومن الحيف والمكر والخديعة والسفه والانحطاط اتهامه بالعنصرية لبني عمّه وهو الذي سخر نفسه وماله وأبناءه لخدمة دين جاء لإنقاذ البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
يتواصل ،،،