بعد زهاء عقد من الزمن أمضاه سفيرا لبلاده، الجمهورية التونسية، لدى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، يغادرنا في غضون يومين سعادة السفير الأستاذ عبد الرحمان بلحاج علي.
والواقع أن العديد من السفراء العرب وغيرهم قد تم اعتمادهم لدى بلادنا وغادروها دون أن يثير ذلك اهتمام أحد أويحرّك مشاعر أحد. إلا أن انتهاء مأمورية الأستاذ عبد الرحمان بلحاج علي و تأهبه لمغادرته موريتانيا قد أختلف عن ذلك كلّ الاختلاف، حيث أنه شكل حدثا استرعى انتباه النخبة المثقفة من كتاب ومفكرين وقادة رأي، وجيّش خواطرها.
مماّ دفعني شخصيّا إلى محاولة استكناه هذه الحالة وإلى التأمّل في مقومات العمل الدبلوماسي المثمر بشكل عام و الذي يقوم على الكفاءة والمهنية والنجاعة والذي يشكّل المحكّ الحقيقي والمقياس الدقيق لنجاح أي سفير جدير بهذا الاسم.
وما أنا بصدد قوله بخصوص سعادة السفير عبد الرحمان بلحاج علي ليس من باب المجاملة والتقريظ والإطراء بقدر ما هو تقييم موضوعي من طرف دبلوماسي سابق ذي تجربة طويلة ومريرة في الدبلوماسية لعمل دبلوماسي آخر ولمهنيته وكفاءته وحنكته وفعّاليته في تأدية المهام المناطة به خدمة لوطنه أولا وسعيا إلى تقوية العلاقات بينه وبين البلد المعتمد فيه ثانيا.
فالكفاءة التي يتميّز بها الأستاذ عبد الرحمان والذكاء الفطري الذي يسعفها والديناميكيّة الممنهجة والبراغماتية التي يعتمدها في مقاربته لكل الشؤون المتصلة بأداء مأموريته وخدمة مصالح بلاده, تمكن في واقع الأمر من إدراك ما ينبغي أن يتّّصف به بعض سفراءنا من مميزات وما يلزم أن يكون عليه عمل بعضهم من نجاعة ومهنيّة وفعّالية, فبأضدادها تتميّز الأشياء كما يقال. ذلك أن الدبلوماسي ذي المردوديّة الحقيقية لم يعد ذلك الشخص الذي يمضي كلّ وقته في التأنّق والتألق وريادة حفلات الاستقبال والتواصل حصريا مع الدوائر الرسميّة لبلد الاعتماد في انتظار التحويل إلى بلد آخر لمواصلة نفس الممارسة. كما أن الدبلوماسية الحديثة لم تعد سبهللة لا طائل من ورائها, بل أضحت أحد عوامل التنمية الاقتصادية وتوطيد النفوذ السياسي وتوسيع الإشعاع الثقافي للبلدان وتقوية موقعها الجيوستراتيجي على الساحة الدولية. وهذا يستوجب توفّر رؤساء البعثات الدبلوماسيّة على مستوى أكاديمي رفيع وكفاءة مهنيّة عاليّة وخصال شخصيّة مرموقة.
ومن المؤكد أن أداء دبلوماسيتنا سوف يرقى إلى مستوى طموحنا عندما تتمّ مراعاة توفّر المواصفات المذكورة في من يوكل إليهم الاضطلاع بالعمل الدبلوماسي خدمة للبلاد.
ومن هذا المنظور يعتبر سعادة السفير عبد الرحمان بلحاج علي نموذجا لرئيس البعثة الدبلوماسية الفعال والناجح. وذلك للاعتبارات التالية:
ـ التواصل الحثيث مع كلّ فعاليات المجتمع الموريتاني من فاعلين اقتصاديين وجمعويين وقادة الرأي من مثقفين وكتاب ورجال صحافة وفنانين وغيرهم من النخب المؤثرة في صنع القرار وصياغة مستقبل البلاد.
ـ العمل الممنهج على تنظيم وتأطير وهيكلة الجالية التونسية بالبلاد.
ـ تحفيز الفاعلين الاقتصاديين التونسيين على التوافد إلى موريتانيا والاستثمار فيها منفردين أو بالتعاون مع شركاء موريتانيين , مما قاد إلى تواجد العشرات من المتاجر والمحلات والشرائك التونسية ببلادنا بحيث صارت المنتوجات التونسية موجودة بوفرة في السوق الموريتانية.
ـ إقامة مؤسسات ذات طابع ثقافي وجمعوي في موريتانيا لعلّ من أهمّها بنا ء ـ دار تونس ـ ومساحة بن علي التي هي في طريقها للإنشاء.
ـ ربط صلات حميمة مع العديد من الفعاليات الشعبية سواء بشكل مباشر أو عن طريق الجالية التونسية التي تمّ توظيفها بذكاء ومهنية لتوطيد العلاقات بكل أنواعها وأبعادها بين موريتانيا وتونس بما يخدم مصالح البلدين الشقيقين.
ـ الإسهام المتميّز والمشهود له بعلوّ مستواه في إثراء الساحة الثقافية الموريتانية حيث أبدى سعادة السفير عبد الرحمان بلحاج علي اهتماما كبيرا بالصلات الثقافية التاريخية بين بلاد شنقيط وتونس الخضراء، فكتب العديد من المقالات وأنجز الكثير من الدراسات عن مشاهير علماء بلاد شنقيط الذين كان لهم حضور متميّز بتونس وأقاموا علاقات علميّة وفكريّة مع نظرائهم التونسيين فكتب مثلا عن الطالب أحمد ولد طوير الجنّة ومحمد يحيى الولاتي ويحظيه ولد عبد الودود ومحمد محمود ولد التلاميد وغيرهم ، فكانت كتاباته في هذا المضمار جيّدة ومنيرة ومثقفة.
وهكذا نرى أن عمل الرجل وإسهاماته شملت المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهو إلى جانب هذا وذاك عذب المراس ليّن العريكة ميّال إلى الدعابة الدمثة والمزاح المحسوب العواقب. ولقد أفلح في التوفيق بين ما يمليه العمل الدبلوماسي من احتراز وتحفّظ وما تقتضيه طبيعة المثقف من تلقائية وانفتاح وقبول لتعددية الرأي, وهذا لعمري شيء ليس بالهين في سياقنا العربي.
إن تعرفي على سعادة السفير عبد الرحمان بلحاج علي الذي يرجع إلى بضع سنين قد أعطاني ووطّد في ذهني فكرة واضحة المعالم عن النموذج المثالي لما ينبغي أن يكون عليه السفير الناجح, الشيء الذي جعلني أتمنى أن يكون لبلدي سفراء يتفانون في خدمة بلادهم مثل ما كان يفعل الأستاذ عبد الرحمان بلحاج علي.
وإن تعذّر القيام بذلك على النحو المطلوب فلا أقل من أن يصار إلى الاستئناس ببعض جوانبه وذلك مصداقا للمقولة الشهير
ـ ألا إن لم تكن إبلا فمعزى ـ .
نواكشوط 28 أغسطس 2010